الجمعة نوفمبر 8, 2024

عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرءان


ترجمته:
هو الصحابي الجليل والإمام النحرير والسيد العظيم حبر الأمة المحمدية العالم العامل الفذ ترجمان القرءان وإمام المفسرين القدوة الحجة الثبت الثابت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسبك بهذا النسب المصون فخرًا وعزًا، فهو أبو العباس عبد الله بن عباس بن عبد المطلب شيبة بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي المكي رضي الله عنه وأرضاه.

ولد بالشعب وهو شعب أبي طالب الذي ءاوى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وبنو هاشم لما تحالفت قريش على بني هاشم.

وكان مولده قبل الهجرة المشرفة بثلاث سنين وتوفي عليه الصلاة والسلام ولابن عباس ثلاث عشرة سنة ولكنه حصل فيها كثيرًا من العلم والخير والدراية فشب علمًا محجاجًا وليثًا ضرغامًا قد أمسك بالمجد من أطرافه حسبًا ونسبًا وعلمًا واستقامة.


صفته:
لقد كان الإمام الكبير سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مجمعًا للفضائل والمثالب خُلقًا وخَلقًا إذ كان إمامًا جليلاً عظيمًا مبجلاً فخمًا محترمًا كامل العقل ذكي النفس، حتى أطلق عليه سيدنا عمر تلك التسمية المشهورة حيث قال فيه: “فتى الكهول” لما ظهر منه من وفور العقل وغزارة العلم وعلو القدر، ومن ثم إذافة إلى ذلك فقد وهبه الله جمالاً وبهاءً فكان وسيمًا جميلاً صبيح الوجه أبيض مشربًا حسن الثغر بهي الطلعة مديد القامة، حتى قال فيه أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه مرة: “إنك لأصبح فتياننا وجهًا وأحسنهم عقلاً وأفقههم في كتاب الله عز وجل”.


علمه وفهمه:
لقد بلغ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرتبة مرموقة في العلم والفهم حتى اجتمعت فيه وهو في سن الشباب حكمة الشيوخ الفضلاء وأناتهم وحصافتهم، مما دفع الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه لأن يحرص على مشورته في الأمور فيدعوه وهو فتى للمعضلات من الأمور وحوله أهل بدر وأكابر المهاجرين والأنصار من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحكمة، فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن ابن عباس أنه قال: مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي بالحكمة، وفي حديث ءاخر عند الحاكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: “اللهم علمه تأويل القرءان” وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: “اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل” وعليه فقد تحققت في ابن عباس دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى غدا علمًا وأيما علم نمت معارفه وتوسعت علومه ومداركه وحكمته

وكان منذ نشأته لا ينفك يدور ويبحث عن العلوم ويلتقطها أنى وجد لذلك سبيلاً إذ كان يجيء فيستأذن بالمبيت في بيت خالته ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ليرى ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل فيتعلم منه ويقتدي بهديه الشريف، وكان يكثر من سؤال أصحابه عليه الصلاة والسلام وتراه يقول عن نفسه “فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي إليه وهو قائلٌ في الظهيرة فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح عليَّ من التراب حتى ينتهي من مقيله ويخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك هلا أرسلت إلي فآتيك فيقول: لا أنت أحق بأن أسعى إليك فيسأله عن الحديث ويتعلم منه.

وبمواظبته على هذه الهمة العالية في طلب العلم حصل ما كان ذخرًا له دينه ودنياه حيث حدث عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بجملة حسنة وحدث عن الفاروق عمر وعن علي ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف وأبي ذر وأبيّ بن كعب وعن والده العباس وغيرهم من أئمة الصحابة، وحدث عنه كثير من أجلاء التابعين وساداتهم من أمثال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي والحسن وابن سيرين وغيرهم كثير استفادوا بما استشفه ابن عباس من هدي الرسول الأكرم وأصحابه الميامين، وعلى كل فقد اجتمع في ابن عباس ببركة دعوته صلى الله عليه وسلم ما أهاه لذلك الدور العلمي الكبير

فلقد كان يأخذ بقلوب الرجال إذا حدث ويُحسِن الاستماع إذا حُدث وكان عنده من المعرفة ما يبهر الألباب في تفسير القرءان وتأويله وفي الفقه والحديث وفي التاريخ وفي لغة العرب والأدب حتى غدا مقصد الباحثين والطالبين يأتيه الناس أفواجًا أفواجًا ليسمعوا منه وليتفقهوا عليه، وإليك ما جاء عن أحد أصحابه أنه حدث يومًا فقال: “لقد رأيت من ابن عباس مجلسًا لو أن جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر، قال: رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه فقال لي: ضع لي وضوءًا فتوضأ وجلس وقال: اخرج إليهم فادع من يريد أن يسأل عن القرءان وتأويله قال فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوا عن شيء إلا أخبرهم وزادهم ثم قال إخوانكم فخرجوا ليفسحوا لغيرهم، ثم قال لي: اخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فليدخل قال فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم ثم قال: إخوانكم فخرجوا ثم قال لي: اخرج فقل من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل قال فخرجت فآذنتهم فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم ثم قال: إخوانكم قال فخرجوا ثم قال: اخرج فقل من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل قال: فدخلوا حتى ملئوا البيت فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم قال الراوي: فلو أن قريشًا كلها فخرت بذلك لكان لها فخرًا فما رأيت مثل هذا لأحدٍ من الناس” رواه ابن الجوزي في صفة الصفوة وغيره.


جملة من مناقبه:
لقد كان الإمام ابن عباس رضي الله عنهما إضافة إلى ما مر ذكره على جانب عالٍ وكبير من الاخلاق والتدين والجود والسخاء فكان يفيض على الناس كرمًا وسخاءً بالمال والأعطيات، كما يفيض عليهم بالعلم والمعرفة، وها هو يوم كان عاملاً للإمام علي بن أبي طالب على البصرة يأتيه الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فيقول له: لأجزينك على إنزالك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أبا أيوب كان قد نزل الرسول صلى الله عليه وسلم عنده في بيته بعد الهجرة، فما زال ابن عباس يعطيه ويكرمه حتى أعطاه الدار بما فيها وخرج منها تاركًا إياها لأبي أيوب رضي الله عنه.

وكان عابدًا قانتًا زاهدًا خاشعًا أوابًا لله عز وجل كثير البكاء إذا صلى وإذا قرأ القرءان، يقوم بالليل ويصوم بالنهار، حدث عنه بعض من رافقه فقال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة فكان يصلي ركعتين فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرءان حرفًا حرفًا ويكثر في ذلك من النشيج والبكاء، وعن أبي رجاء قال: رأيت ابن عباس وأسفل عينيه مثل الشراك البالي من البكاء” رواه الذهبي في السير.

وهنا أمر مهم بارز في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو الجانب الذي كان عليه من الشجاعة والبأس والحصافة في الحرب، فلقد كان له في تلك الحرب التي دارت بين علي رضي الله عنه ومعاوية ءاراء تلد على فطنته وسعة حذقه وحنكته العسكرية، ولقد كان رضي الله عنه على امتداد فترة النزاع التي خاضها معاوية ضد علي مناصرًا للإمام العدل علي كرم الله وجهه، وكان سيفًا من سيوفه يأتمر بأمره ويسمع له ويطيع فيما يوجه إليه، وإذا به مع كل صفاته تلك بطلاً مجربًا حاذقًا في شئون الحرب وثبتًا لا يتزحزح في مواجهة الباطل بحسام ماضٍ بتار قد جرده لمناصرة الحق، ماضيًا في ذلك حتى تصرمت السنين وجاءه نبأ استشهاد الحسين رضي الله عنه فأقضه الحزن عليه ولزم داره مقبلاً على ما يعنيه، قائمًا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مكثرًا من الخير والطاعة.


وفاته:
لقد عاش ابن عباس عمره المديد يفيض علمًا وحكمًا وينشر المعرفة بين الناس فيفوح عبيره وأريجه في أقطار البلاد حتى وافاه الأجل سنة ثمان وستين من الهجرة عن إحدى وسبعين سنة من عمره، وكانت وفاته بالطائف فلما خرجوا بنعشه جاء طائر عظيم أبيض حتى خالط أكفانه ثم لم يروه فكانوا يرون أنه علمه.

وفي السير عن سالم الأفطس عن سعيد قال: مات ابن عباس بالطائف فجاء طائر لم يُرَ على خلقته فدخل نعشه ثم لم يُر خارجًا منه فلما دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر لا يُدرى من تلاها {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} [سورة الفجر/ءاية:27-30].

رضي الله عنك يا ابن عباس ونفعنا بك وجمعنا بك في جنات النعيم.

 

الضياء في ذكر من اشتهر من العلماء