الثلاثاء يوليو 8, 2025

#4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ.

 

(33) السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثِينَ: مَا مَعْنَى شَهَادِةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.

   وَمَعْنَى شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأُذْعِنُ بِقَلْبِى أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا ﷺ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى كَافَّةِ الْعَالَمِينَ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ صَادِقٌ فِى كُلِّ مَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى لِيُؤْمِنُوا بِشَرِيعَتِهِ وَيَتَّبِعُوهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾.

الشَّرْحُ: مَعْنَى أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَعْتَرِفُ بِلِسَانِى وَأَعْتَقِدُ بِقَلْبِى أَنَّ مُحَمَّدَ بنَ عَبْدِ اللَّهِ مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ أَىْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ إِلَى كَافَّةِ الْبَشَرِ مِنْ عَرَبٍ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى كَافَّةِ الْجِنِّ لِيَأْمُرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِشَرِيعَتِهِ وَيَتَّبِعُوهُ فِى كُلِّ مَا جَاءَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْفُرْقَانِ ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ وَالإِنْذَارُ هُوَ التَّخْوِيفُ بِالنَّارِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَهَذَا الإِنْذَارُ لِلإِنْسِ وَالْجِنِّ فَقَطْ أَمَّا الْمَلائِكَةُ فَلا يَعْصُونَ اللَّهَ أَبَدًا وَلا يَخْتَارُونَ إِلَّا الطَّاعَةَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ فَلا يَحْتَاجُونَ إِلَى إِنْذَارٍ.

   وَأَمَّا مَنْ كَانَ قَبْلَ مُحَمَّدٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَلَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَى الإِنْسِ وَالْجِنِّ لِقَوْلِهِ ﷺ كَانَ النَّبِىُّ يُرْسَلُ إِلَى قَوْمِهِ وَأُرْسِلْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ السَّابِقِينَ كَانُوا لا يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلا يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أُمَمِهِمْ بَلِ الأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ كَانُوا يُبَلِّغُونَ أَقْوَامَهُمْ وَمَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ أَفْرَادِ الْمُكَلَّفِينَ وَفِى حَقِّ الأَنْبِيَاءِ أَوْكَدُ فَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ الأَنْبِيَاءَ مَأْمُورُونَ بِالتَّبْلِيغِ فَقَدْ كَانَ النَّبِىُّ ﷺ يَقُولُ لِلنَّاسِ قُولُوا لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا. أَمَّا الْجِنُّ فَقَدْ أُمِرَ النَّبِىُّ ﷺ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِمْ فَاجْتَمَعَ بِهِمْ لَيْلًا وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ بِالْوَحْىِ أَنَّهُ جَاءَ إِلَيْهِ نَفَرٌ أَىْ جَمَاعَةٌ مِنَ الْجِنِّ فَاسْتَمَعُوا الْقُرْءَانَ فَآمَنُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الْجِنِّ ﴿قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانًا عَجَبًا يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾.

   وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ أُمِّيًّا لا يَكْتُبُ وَلا يَقْرَأُ الْمَكْتُوبَ وَهَذَا مَعْدُودٌ فِى جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِالأُمِّىِّ بِقَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ﴾. وَالأُمِّيَّةُ فِى حَقِّ غَيْرِهِ لَيْسَتْ مَدْحًا أَمَّا فِى حَقِّهِ ﷺ فَهِىَ مَدْحٌ لَهُ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا أَعْجَزَ بُلَغَاءَ الْعَرَبِ وَتَحَدَّاهُمْ بِلُغَتِهِمْ فَعَجَزُوا عَنِ التَّحَدِّى وَلَجَؤُوا إِلَى الِافْتِرَاءِ وَالْحَرْبِ. وَقَدْ جَاءَ فِى الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَدْحَ الأُمِّيَّةِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ حِسَابُ النُّجُومِ لِمَعْرِفَةِ أَوَائِلِ الشُّهُورِ. وَأَمَّا اسْتِدْلالُ الْمُعْتَرِضِ بِهَذِهِ الآيَةِ ﴿هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ وَقَوْلُهُ كَيْفَ يُعَلِّمُهُمْ وَهُوَ لا يُحْسِنُ ذَلِكَ فَلا وَجْهَ لَهُ لِأَنَّ الآيَةَ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ يُعَلِّمُهُمُ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ وَإِنَّمَا يُعَلِّمُهُمْ مَا ءَاتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ أَبْيَضُ شَدِيدُ الْبَيَاضِ وَبَيَاضُهُ فِيهِ حُمْرَةٌ. وَأَمَّا شَعَرُهُ ﷺ فأَسْوَدُ شَدِيدُ السَّوَادِ لَيْسَ بِجَعْدٍ وَلا سَبْطٍ إِنَّمَا هُوَ شَعَرٌ مُعْتَدِلُ الْخِلْقَةِ مُعْتَدِلُ الشَّكْلِ حَلَقٌ حَلَقٌ، أَحْيَانًا كَانَ يَصِلُ شَعَرُهُ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَأَحْيَانًا إِلَى كَتِفَيْهِ وَلَمْ يَحْلِقْ بِالْمُوسَى إِلَّا فِى الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَشِبْ مِنْهُ إِلَّا عِشْرُونَ شَعَرَةً فِى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَرْبُوعَ الْقَامَةِ إِلَى الطُّولِ أَىْ طُولُهُ مُعْتَدِلٌ لَمْ يَكُنْ سَمِينًا وَلا نَحِيفًا وَكَانَ سَوَاءَ الْبَطْنِ وَالصَّدْرِ بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ أَىْ عَرِيضَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ وَكَانَ وَجْهُهُ أَمْيَلَ إِلَى الِاسْتِدَارَةِ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِى فِى وَجْهِهِ دَقِيقُ الْحَاجِبَيْنِ أَىْ حَاجِبَاهُ لَمْ يَكُونَا عَرِيضَيْنِ شَثْنُ الْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ أَىْ كَفُّهُ مُمْتَلِئَةٌ لَيْسَتْ نَحِيفَةً وَقَدَمَاهُ كَذَلِكَ لَمْ تَكُونَا نَحِيفَتَيْنِ أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ أَىْ شَدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبُ الأَشْفَارِ أَىْ طَوِيلُ الأَشْفَارِ وَالأَشْفَارُ هُوَ الشَّعَرُ النَّابِتُ عَلَى الأَجْفَانِ وَكَانَ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَمَنْكِبَيْهِ وَأَعَالِى صَدْرِهِ شَعَرٌ وَكَانَ لَهُ مَسْرُبَةٌ وَهُوَ شَعَرٌ دَقِيقٌ يَنْزِلُ مِنَ الصَّدْرِ إِلَى السُّرَّةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ أَىْ لِحْيَتُهُ كَثِيفَةٌ لا يُرَى الْجِلْدُ مِنْ خِلالِهَا أَقْنَى الأَنْفِ أَىْ أَنْفُهُ فِيهِ ارْتِفَاعٌ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ ضَلِيعُ الْفَمِ أَىْ وَاسِعُ الْفَمِ مُفَلَّجُ الأَسْنَانِ أَىْ مَا بَيْنَ ثَنَايَاهُ انْفِرَاجٌ لَيْسَ السِّنُّ مُلْتَصِقًا بِالسِّنِّ. فَمَنْ رَءَاهُ فِى الْمَنَامِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لا بُدَّ أَنْ يَمُوتَ عَلَى الإِيمَانِ وَلا يُعَذَّبُ فِى الْقَبْرِ وَلا فِى الآخِرَةِ.

   وَاعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِى سُورَةِ الْقَلَمِ ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَمَا سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِنَّ خُلُقَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ الْقُرْءَانَ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مَعْنَاهُ كُلُّ خَصْلَةِ خَيْرٍ فِى الْقُرْءَانِ ذُكِرَتْ كَانَتْ فِى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَرَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ الْبَرَاءِ بنِ عَازِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَحْلَمَ النَّاسِ وَأَعْدَلَ النَّاسِ وَأَعَفَّ النَّاسِ وَكَانَ أَسْخَى النَّاسِ لا يَبِيتُ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ وَلا يَدَّخِرُ شَيْئًا لِغَدٍ مِنْ شِدَّةِ ثِقَتِهِ بِاللَّهِ وَتَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ، وَإِنْ فَضَلَ شَىْءٌ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيهِ وَفَجَأَهُ اللَّيْلُ لَمْ يَأْوِ إِلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى يُرْسِلَهُ إِلَى مَنْ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، لا يَأْخُذُ مِمَّا ءَاتَاهُ اللَّهُ إِلَّا قُوتَ عَامِهِ فَقَطْ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَجِدُ مِنَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ وَيَضَعُ سَائِرَ ذَلِكَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لا يُسْأَلُ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، مَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِكَلامٍ يُخَفِّفُ عَنْهُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءًا لا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِى وَجْهِ أَحَدٍ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ رَحِيمًا فِى تَعَامُلِهِ حَتَّى مَعَ الأَطْفَالِ. وَكَانَ أَشَدَّ النَّاسِ تَوَاضُعًا يُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ وَيُؤَاكِلُهُمْ وَلا يَسْتَكْبِرُ أَنْ يَمْشِىَ مَعَ الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى يَقْضِىَ لَهُمْ حَاجَتَهُمْ. يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ وَالْحِمَارَ وَيَمْشِى فِى بَعْضِ الْمَرَّاتِ رَاجِلًا بِلا رِدَاءٍ وَلا عِمَامَةٍ. مَا كَانَ يَمُدُّ رِجْلَهُ فِى وَجْهِ أَصْحَابِهِ، أَكْثَرُ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ وَأَكْثَرُ نَظَرِهِ إِلَى الأَرْضِ مِنْ كَثْرَةِ تَفَكُّرِهِ وَتَوَاضُعِهِ وَكَانَ كَثِيرَ الأَحْزَانِ دَائِمًا يُفَكِّرُ فِى أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَبْكِى فِى صَلاتِهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَهُوَ أَفْضَلُ خَلْقِ اللَّهِ. وَكَانَ إِذَا كَلَّمَهُ أَحَدٌ يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ بِكُلِّ جِسْمِهِ مِنْ شِدَّةِ تَوَاضُعِهِ. يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَيَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُكَافِئُ عَلَيْهَا وَيَأْكُلُهَا وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَمَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَعَامًا قَطُّ إِنْ أَعْجَبَهُ أَكَلَهُ وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ وَكَانَ رُبَّمَا قَامَ فَأَخَذَ مَا يَأْكُلُ بِنَفْسِهِ أَوْ يَشْرَبُ. يَعُودُ الْمَرْضَى وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ وَيَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ وَيُكْرِمُ أَهْلَ الْفَضْلِ وَيَمْشِى وَحْدَهُ بَيْنَ أَعْدَائِهِ بِلا حَارِسٍ وَلا يَنْتَقِمُ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ بَلْ كَانَ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. يَبْدَأُ مَنْ لَقِىَ بِالسَّلامِ وَلا يَقُومُ وَلا يَجْلِسُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ، لا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ وَلا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرِفَ.

 

(34) السُّؤَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثِينَ: اذْكُرْ بَعْضَ نَسَبِ النَّبِىِّ وَمِنْ أَىِّ قَبِيلَةٍ هُوَ وَأَيْنَ وُلِدَ وَأَيْنَ مَاتَ وَدُفِنَ.

   هُوَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِىُّ ﷺ وُلِدَ بِمَكَّةَ فِى شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فِى عَامِ الْفِيلِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ فِيهَا وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ نُزُولِ الْوَحْىِ بِثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَة وَمَكَثَ فِيهَا عَشْرَ سِنِينَ تُوُفِّىَ بَعْدَهَا ﷺ وَدُفِنَ فِى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فِى حُجْرَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَىْ دُفِنَ حَيْثُ مَاتَ ﷺ.

الشَّرْحُ: هُوَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بنِ هَاشِمِ بنِ عَبْدِ مَنَافِ بنِ قُصَيِّ بنِ كِلابِ بنِ مُرَّةَ بنِ كَعْبِ بنِ لُؤَيِّ ابنِ غَالِبِ بنِ فِهْرِ بنِ مَالِكِ بنِ النَّضْرِ بنِ كِنَانَةَ بنِ خُزَيْمَةَ بنِ مُدْرِكَةَ بنِ إِلْيَاسَ بنِ مُضَرَ بنِ نِزَارِ بنِ مَعَدِّ بنِ عَدْنَانَ الْقُرَشِىُّ ﷺ. وَمَعْرِفَةُ نَسَبِهِ إِلَى عَبْدِ مَنَافٍ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ أَمَّا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَرَبِىُّ فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ بِعَيْنِهِ.

   وَيَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ وُلِدَ بِمَكَّةَ وَكَانَتْ وِلادَتُهُ فِى الثَّانِى عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ فِى عَامِ الْفِيلِ وَهُوَ الْعَامُ الَّذِى غَزَا فِيهِ أَبْرَهَةُ الْحَبَشِىُّ الْكَعْبَةَ فَأَهْلَكَهُ اللَّهُ وَجَيْشَهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ. وَبُعِثَ الرَّسُولُ بِمَكَّةَ أَىْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ مُسْتَوْطِنٌ فِيهَا وَكَانَ عُمُرُهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَمَاتَ وَدُفِنَ فِيهَا فِى حُجْرَةِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَىْ دُفِنَ حَيْثُ مَاتَ ﷺ لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِ الأَنْبِيَاءِ الَّتِى خَصَّهُمُ اللَّهُ بِهَا قَالَ ﷺ الأَنْبِيَاءُ يُدْفَنُونَ حَيْثُ يَمُوتُونَ.

   وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ ﷺ تَنْفِيذًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ جُبْنًا وَلا هَرَبًا مِنَ الْكُفَّارِ وَلا طَلَبًا لِلرَّاحَةِ وَالِاسْتِجْمَامِ. وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فَرْضًا عَلَى كُلِّ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِنُصْرَةِ النَّبِىِّ وَتَأْسِيسِ دَوْلَةِ الإِسْلامِ. فَالْهِجْرَةُ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ فِيهَا الْحَثُ عَلَى الْبَذْلِ وَالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَالتَّمَسُّكِ بِتَعَالِيمِ الإِسْلامِ وَتَغْرِسُ ذِكْرَاهَا فِى الْقُلُوبِ عُلُوَّ الْهِمَّةِ فِى نَشْرِ الإِسْلامِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الدِّينِ فِى زَمَانِ غُرْبَةِ الإِسْلامِ.

 

(35) السُّؤَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثِينَ: اشْرَحْ قَوْلَ الْمُؤَلِّفِ فِى مَعْنَى الشَّهَادَةِ الثَّانِيَةِ وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.

   يَجِبُ الِاعْتِقَادُ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَخْبَارِ الأُمَمِ وَالأَنْبِيَاءِ وَبَدْءِ الْخَلْقِ أَوْ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِى هَذِهِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ أَوْ مِنَ التَّحْلِيلِ أَوِ التَّحْرِيمِ لِبَعْضِ أَفْعَالِ وَأَقْوَالِ الْعِبَادِ قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى﴾.

الشَّرْحُ: يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ صَادِقٌ فِى جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَبَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى صِدْقِ النَّبِىِّ فَهُوَ الْمُعْجِزَةُ وَهِىَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يَأْتِى عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْمِثْلِ. أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ أَىْ مُخَالِفٌ لَهَا أَمَّا مَا كَانَ مِنَ الأُمُورِ عَجِيبًا وَلَمْ يَكُنْ خَارِقًا لِلْعَادَةِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ كَالْغَوْصِ تَحْتَ الْمَاءِ لِمُدَّةِ خَمْسِ دَقَائِقَ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ مَا كَانَ خَارِقًا لَكِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ كَالْخَوَارِقِ الَّتِى تَظْهَرُ عَلَى أَيْدِى الأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُعْجِزَةٍ بَلْ يُسَمَّى كَرَامَةً لِأَنَّ الْوَلِىَّ لا يَدَّعِى أَنَّهُ نَبِىٌّ وَإِلَّا لَمَا حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْخَوَارِقُ.

   وَالأَمْرُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ الَّذِى هُوَ مُعْجِزَةٌ يَأْتِى عَلَى وَفْقِ دَعْوَى مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَىْ مُصَدِّقًا لَهُ فِى دَعْوَاهُ النُّبُوَّةَ أَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِلدَّعْوَى فَلا يُسَمَّى مُعْجِزَةً كَالَّذِى حَصَلَ لِمُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ الَّذِى ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى وَجْهِ رَجُلٍ أَعْوَرَ فَعَمِيَتِ الْعَيْنُ الأُخْرَى، سَالِمٌ مِنَ الْمُعَارَضَةِ بِالْمِثْلِ أَىْ لا يَسْتَطِيعُ الْمُكَذِّبُونَ لِلنَّبِىِّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ مَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْخَوَارِقِ.

   أَمَّا الْعِلْمُ بِالْمُعْجِزَاتِ فَيَحْصُلُ بِالْمُشَاهَدَةِ لِمَنْ شَاهَدُوهَا أَوْ بُلُوغِ خَبَرِهَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ فِى حَقِّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا. وَالتَّوَاتُرُ مَعْنَاهُ انْتِقَالُ الْخَبَرِ بِوَاسِطَةِ عَدَدٍ كَبِيرٍ يَنْقُلُ عَنْ عَدَدٍ كَبِيرٍ شَهِدَ الْمُعْجِزَةَ وَهَكَذَا إِلَى أَنْ يَصِلَ الْخَبَرُ إِلَيْنَا بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ اتِّفَاقُهُمْ جَمِيعًا عَلَى الْكَذِبِ فِى هَذَا الْخَبَرِ.

   وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ حَنِينُ الْجِذْعِ وَهُوَ خَبَرٌ مُتَوَاتِرٌ فَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يَسْتَنِدُ حِينَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعِ نَخْلٍ فِى مَسْجِدِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْمَلَ لَهُ الْمِنْبَرُ ثُمَّ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ عَمِلْنَا لَكَ مِنْبَرًا فَقَالَ افْعَلُوا إِنْ شِئْتُمْ فَلَمَّا عُمِلَ لَهُ الْمِنْبَرُ صَعِدَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَيْهِ فَبَدَأَ بِالْخُطْبَةِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَنَّ الْجِذْعُ أَىْ بَكَى كَبُكَاءِ الطِّفْلِ الصَّغِيرِ شَوْقًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِى هَذَا الْجِذْعِ حَيَاةً بِلا رُوحٍ وَخَلَقَ فِيهِ شُعُورًا وَإِحْسَاسًا فَحَنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى سَمِعَ حَنِينَهُ مَنْ فِى الْمَسْجِدِ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَالْتَزَمَهُ أَىْ ضَمَّهُ وَاعْتَنَقَهُ فَسَكَتَ.

   وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ إِنْطَاقُ الْعَجْمَاءِ أَىِ الْبَهِيمَةِ فَقَدْ رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ فِى مُسْنَدِهِ وَالْبَيْهَقِىُّ فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ يَعْلَى بنِ مُرَّةَ الثَّقَفِىِّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بَيْنَمَا كُنَّا نَسِيرُ مَعَ النَّبِىِّ ﷺ إِذْ مَرَّ بِنَا بَعِيرٌ يُسْنَى عَلَيْهِ أَىْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَلَمَّا رَءَاهُ الْبَعِيرُ أَىْ لَمَّا رَأَى النَّبِىَّ ﷺ جَرْجَرَ أَىْ أَصْدَرَ صَوْتًا مِنْ حَلْقِهِ فَوَضَعَ جِرَانَهُ أَىْ خَفَضَ مُقَدَّمَ عُنُقِهِ فَوَقَفَ عِنْدَهُ النَّبِىُّ ﷺ ثُمَّ قَالَ أَيْنَ صَاحِبُ هَذَا الْبَعِيرِ فَجَاءَهُ فَقَالَ النَّبِىُّ ﷺ بِعْنِيهِ فَقَالَ بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّهُ لِأَهْلِ بَيْتٍ مَا لَهُمْ مَعِيشَةٌ غَيْرُهُ أَىْ يُحَصِّلُونَ مَعِيشَتَهُمْ مِنَ الأُجْرَةِ الَّتِى يَأْخُذُونَهَا لِلنَّقْلِ عَلَيْهِ فَقَالَ النَّبِىُّ ﷺ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ شَكَا إِلَىَّ كَثْرَةَ الْعَمَلِ وَقِلَّةَ الْعَلَفِ فَأَحْسِنُوا إِلَيْهِ.

   وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ تَفَجُّرُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ وَهُوَ لَمْ يَحْصُلْ لِغَيْرِ نَبِيِّنَا ﷺ مِنَ الأَنْبِيَاءِ حَيْثُ إِنَّ الْمَاءَ نَبَعَ مِنْ عَظْمِهِ وَعَصَبِهِ وَلَحْمِهِ وَدَمِهِ وَهُوَ أَعْجَبُ مِنْ تَفَجُّرِ الْمِيَاهِ مِنَ الْحَجَرِ الَّذِى ضَرَبَهُ مُوسَى بِعَصَاهُ لِأَنَّ خُرُوجَ الْمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ مَعْهُودٌ بِخِلافِهِ مِنْ بَيْنِ اللَّحْمِ وَالدَّمِ. وَخَبَرُ تَفَجُّرِ الْمَاءِ مِنْ يَدِهِ الشَّرِيفَةِ ﷺ رَوَاهُ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو لَيْلَى الأَنْصَارِىُّ وَأَبُو رَافِعٍ.

   وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ رَدُّ عَيْنِ قَتَادَةَ بَعْدَ انْقِلاعِهَا فَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِىُّ فِى دَلائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ قَتَادَةَ بنِ النُّعْمَانِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَىْ فِى مَعْرَكَةِ بَدْرٍ فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ أَىْ سَالَتْ عَيْنُهُ عَلَى خَدِّهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ لا أَىْ لا تَقْطَعُوهَا فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ أَىْ رَدَّهَا بِرَاحَةِ يَدِهِ فَتَعَافَى فَكَانَ لا يَدْرِى أَىَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ.

   وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ تَسْبِيحُ الطَّعَامِ فِى يَدِهِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْبُخَارِىُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ طَلَبُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُرِيَهُمْ ءَايَةً فَأَشَارَ إِلَى الْقَمَرِ فَانْشَقَّ فِلْقَتَيْنِ وَشَاهَدَ ذَلِكَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَخَارِجَهَا.

   وَمِنْ مُعْجِزَاتِهِ ﷺ الإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ. مُعْجِزَةُ الإِسْرَاءِ ثَابِتَةٌ بِنَصِّ الْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ فَيَجِبُ الإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ لَيْلًا بِرُوحِهِ وَجَسَدِهِ يَقَظَةً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِى مَكَّةَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى فِى فِلَسْطِينَ. جَاءَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وَأَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ رِجْلَهُ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ فَانْطَلَقَا حَتَّى وَصَلا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَفِى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى جَمَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ فَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا.

   وَرَأَى الرَّسُولُ ﷺ وَهُوَ فِى طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَجَائِبَ مِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الدُّنْيَا بِصُورَةِ عَجُوزٍ وَرَأَى شَيْئًا مُتَنَحِّيًا عَنِ الطَّرِيقِ يَدْعُوهُ وَهُوَ إِبْلِيسُ وَشَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً مِنْ قَبْرِ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً صَالِحَةً وَرَأَى قَوْمًا يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِى يَوْمَيْنِ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَؤُلاءِ الْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَرَأَى أُنَاسًا تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَؤُلاءِ خُطَبَاءُ الْفِتْنَةِ أَىِ الَّذِينَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الضَّلالِ وَالْفَسَادِ وَرَأَى قَوْمًا تَرْضَخُ رُءُوسُهُمْ أَىْ تُكَسَّرُ ثُمَّ تَعُودُ كَمَا كَانَتْ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُءُوسُهُمْ عَنْ تَأْدِيَةِ الصَّلاةِ وَرَأَى قَوْمًا يَخْمِشونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ بِأَظْفَارٍ نُحَاسِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَغْتَابُونَ النَّاسَ.

   وَأَمَّا الْمِعْرَاجُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَإِلَى مَا فَوْقَهَا فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ النَّجْمِ ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى﴾ أَىْ رَأَى مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ مَرَّةً ثَانِيَةً عَلَى هَيْئَتِهِ الأَصْلِيَّةِ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. وَالْقَصْدُ مِنَ الْمِعْرَاجِ هُوَ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ ﷺ بِإِطْلاعِهِ عَلَى عَجَائِبَ فِى الْعَالَمِ الْعُلْوِىِّ وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ.      

   وَعَرَجَ النَّبِىُّ ﷺ بِالْمِرْقَاةِ وَهُوَ شِبْهُ السُّلَّمِ إِلَى السَّمَاءِ الأُولَى فَرَأَى فِيهَا ءَادَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَرَأَى فِيهَا عِيسَى وَيَحْيَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ ثُمَّ إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَرَأَى فِيهَا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ إِلَى الرَّابِعَةِ فَرَأَى فِيهَا إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ إِلَى الْخَامِسَةِ فَرَأَى فِيهَا هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ إِلَى السَّادِسَةِ فَرَأَى فِيهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ثُمَّ إِلَى السَّابِعَةِ فَرَأَى فِيهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ.

   وَرَأَى الرَّسُولُ ﷺ فِى الْمِعْرَاجِ مَالِكًا خَازِنَ النَّارِ وَرَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَهُوَ بَيْتٌ مُشَرَّفٌ وَهُوَ لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَالْكَعْبَةِ لِأَهْلِ الأَرْضِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ وَلا يَعُودُونَ أَبَدًا وَرَأَى ﷺ فِى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَهِىَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ بِهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لا يَصِفُهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَأَصْلُهَا فِى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَصِلُ إِلَى السَّابِعَةِ وَدَخَلَ الرَّسُولُ ﷺ الْجَنَّةَ وَرَأَى فِيهَا الْحُورَ الْعِينِ فَقُلْنَ لَهُ نَحْنُ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ أَزْوَاجُ قَوْمٍ كِرَامٍ وَرَأَى فِيهَا الْوِلْدَانَ الْمُخَلَّدِينَ وَهُمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسُوا مِنَ الْبَشَرِ وَلا مِنَ الْمَلائِكَةِ وَلا مِنَ الْجِنِّ وَرَأَى الْعَرْشَ وَهُوَ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ حَجْمًا وَحَوْلَهُ مَلائِكَةٌ لا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَلَهُ قَوَائِمُ كَقَوَائِمِ السَّرِيرِ يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَعْظَمِ الْمَلائِكَةِ. خَلَقَهُ اللَّهُ إِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ لا لِيَتَّخِذَهُ مَكَانًا لِذَاتِهِ لِأَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَجْمِ وَالْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الْخَلْقِ، ثُمَّ وَصَلَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى مُسْتَوًى يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلامِ الَّتِى تَنْسَخُ بِهَا الْمَلائِكَةُ فِى صُحُفِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.

   وَفِى الْمِعْرَاجِ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَلامَ اللَّهِ تَعَالَى الأَزَلِىَّ الأَبَدِىَّ الَّذِى لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا وَلا لُغَةً وَرَأَى رَبَّهُ بِقَلْبِهِ أَىْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ قُوَّةَ الْبَصَرِ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ فِى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ.

 

(36) السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ.

 

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ فَالْكَافِرُ الْمُكَلَّفُ الَّذِى مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ مِنْ كُفْرِهِ يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ فَمِنْ ذَلِكَ عَرْضُ النَّارِ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَهُ وَتَضْيِيقُ الْقَبْرِ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ وَضَرْبُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لَهُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ يُعَذَّبُونَ فِى قُبُورِهِمْ عَذَابًا أَقَلَّ مِنْ عَذَابِ الْكُفَّارِ فَيُصِيبُهُمْ مَثَلًا ضَغْطَةُ الْقَبْرِ وَالِانْزِعَاجُ مِنْ ظُلْمَتِهِ وَوَحْشَتِهِ.

   وَمَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ كَفَرَ قَالَ تَعَالَى ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وَقَالَ ﷺ «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ لا أَدْرِى كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ فَيُقَالُ لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ» رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ ﷺ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ كَعَرْضِ النَّارِ عَلَى الْكَافِرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ يَتَعَذَّبُ بِنَظَرِهِ وَرُؤْيَتِهِ لِمَقْعَدِهِ الَّذِى يَقْعُدُهُ فِى الآخِرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ غَافِرٍ ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ أَىْ أَنَّ ءَالَ فِرْعَوْنَ وَهُمْ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وَاتَّبَعُوهُ عَلَى الْكُفْرِ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ فِى الْبَرْزَخِ أَىْ فِى مُدَّةِ الْقَبْرِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ حَتَّى يَمْتَلِئُوا رُعْبًا ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ﴾ يُقَالُ لِلْمَلائِكَةِ ﴿أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ طَه ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَىْ أَنَّ الْكَافِرَ الَّذِى أَعْرَضَ عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَىْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالآيَةِ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَىْ مَعِيشَةً ضَيِّقَةً فِى الْقَبْرِ وَقَدْ فَسَّرَهَا النَّبِىُّ ﷺ بِعَذَابِ الْقَبْرِ كَمَا رَوَى ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِىُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.

   وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ فَيَقْتَرِبُ حَائِطَا الْقَبْرِ مِنْ جَانِبَيْهِ حَتَّى تَتَدَاخَلَ أَضْلاعُهُ وَتُسَلَّطُ عَلَيْهِ الأَفَاعِى وَالْعَقَارِبُ وَحَشَرَاتُ الأَرْضِ فَتَنْهَشُ وَتَأْكُلُ مِنْ جَسَدِهِ وَتَدْخُلُ الأَفْعَى فِى فَمِهِ وَلا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَهَا عَنْهُ لِأَنَّ أَعْصَابَهُ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ تَسْتَرْخِى وَمَفَاصِلُهُ تَنْحَلُّ فَتَأْكُلُ مِنْ فَمِهِ وَأَمْعَائِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ فَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِىُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ عَقَارِبُ وَثَعَابِينُ لَوْ نَفَخَ أَحَدُهُمْ فِى الدُّنْيَا مَا أَنْبَتَتْ شَيْئًا تَنْهَشُهُ فَتُؤْمَرُ الأَرْضُ فَتُضَمُّ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ.

   وَأَمَّا عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْلَ التَّوْبَةِ فَهُمْ صِنْفَانِ صِنْفٌ يُعْفِيهِمُ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَلا يُصِيبُهُمْ وَصِنْفٌ يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ فِى الْقَبْرِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَيُؤَخَّرُ لَهُمْ بَقِيَّةُ عَذَابِهِمْ إِلَى الآخِرَةِ.

   وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ انْزِعَاجُ بَعْضِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَوَحْشَتِهِ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِىُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِىُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرِ إِثْمٍ أَىْ بِحَسَبِ مَا يَتَوَهَّمُ بَعْضُ النَّاسِ لَيْسَ ذَنْبُهُمَا شَيْئًا كَبِيرًا لَكِنَّهُ فِى الْحَقِيقَةِ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِذَلِكَ قَالَ بَلَى أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ وَهِىَ نَقْلُ الْكَلامِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِلإِفْسَادِ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ أَىْ لا يَتَنَّزَهُ مِنْهُ بَلْ يُلَوِّثُ جَسَدَهُ بِهِ ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِعَسِيبٍ رَطْبٍ أَىْ غُصْنِ نَخْلٍ أَخْضَرَ فَشَقَّهُ اثْنَيْنِ فَغَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِدًا وَعَلَى هَذَا وَاحِدًا ثُمَّ قَالَ لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا أَىْ لَعَلَّ عَذَابَ الْقَبْرِ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَ هَذَانِ الشِّقَانِ رَطْبَيْنِ. فَقَدْ وَرَدَ فِى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبَاتَ الأَخْضَرَ يُسَبِّحُ اللَّهَ فَإِذَا وُضِعَ عَلَى الْقَبْرِ يُخَفَّفُ عَنْ صَاحِبِ الْقَبْرِ بِتَسْبِيحِهِ إِنْ كَانَ فِى نَكَدٍ فَيَنْبَغِى وَضْعُ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ عَلَى الْقَبْرِ لِأَنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ لَكِنْ نَحْنُ لا نَسْمَعُهُ.

   وَاعْلَمْ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ ثَابِتٌ بِالْقُرْءَانِ وَالْحَدِيثِ وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ مَنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ كَافِرٌ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمِمَّنْ نَقَلَ الإِجْمَاعَ عَلَى وُجُودِ عَذَابِ الْقَبْرِ الإِمَامُ الْكَبِيرُ أَبُو الْحَسَنِ الأَشْعَرِىُّ فِى الإِبَانَةِ وَالإِمَامُ الْحَافِظُ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِىُّ فِى عَقِيدَتِهِ وَابْنُ الْقَطَّانِ فِى كِتَابِهِ الإِجْمَاعُ وَقَالَ الإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِىُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ أَرْبَعِمِائَةٍ وَتِسْعٍ وَعِشْرِينَ فِى كِتَابِهِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَقِ وَقَطَعُوا أَىْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِأَنَّ الْمُنْكِرِينَ لِعَذَابِ الْقَبْرِ يُعَذَّبُونَ فِى الْقَبْرِ أَىْ لِكُفْرِهِمْ وَقَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ الشَّافِعِىُّ فِى الْعُدَّةِ فِى شَرْحِ الْعُمْدَةِ فِى أَحَادِيثِ الأَحْكَامِ مَا نَصُّهُ فَقَوْلُهُ ﷺ عِنْدَ مُرُورِهِ بِالْقَبْرَيْنِ (أَىْ قَبْرَىِ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ) إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهُوَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ مِمَّا نَقَلَتْهُ الأُمَّةُ مُتَوَاتِرًا فَمَنْ أَنْكَرَ عَذَابَ الْقَبْرِ أَوْ نَعِيمَهُ فَهُوَ كَافِرٌ لِأَنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ فِى خَبَرِهِمَا.

   وَالْكَافِرُ الْمُكَلَّفُ الَّذِى مَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ مِنْ كُفْرِهِ يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ وَيَكُونُ عَذَابُهُ بِالرُّوحِ وَالْجَسَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ غَافِرٍ ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ وَقَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ طَه ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَىْ مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالآيَةِ ﴿مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ أَىْ مَعِيشَةً ضَيِّقَةً فِى الْقَبْرِ كَمَا فَسَّرَهَا النَّبِىُّ ﷺ وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِىُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ.

   وَرَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِىَّ ﷺ كَانَ يَدْعُو فِى الصَّلاةِ اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُدِ الآخِرِ فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ شَرِّ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ.

   وَاعْلَمْ رَحِمَكَ الله أَنَّ سُورَةَ الْمُلْكِ تُنْجِى مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ بِإِذْنِ اللَّهِ. رَوَى التِّرْمِذِىُّ فِى جَامِعِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ خَيْمَةً أَىْ نَصَبَ خَيْمَةً عَلَى قَبْرٍ فَصَارَ يَسْمَعُ مِنَ الْقَبْرِ قِرَاءَةَ تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا فَذَهَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ بِمَا حَصَلَ فَقَالَ مُصَدِّقًا لَهُ هِىَ الْمَانِعَةُ هِىَ الْمُنْجِيَةُ أَىْ تَمْنَعُ عَنْ صَاحِبِهَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَتُنْجِيهِ مِنْ أَهْوَالِهِ. وَرَوَى الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِىُّ عَنْ أَنَسٍ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ إِنَّ فِى الْقُرْءَانِ ثَلاثِينَ ءَايَةً تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ. فَالَّذِى يَثْبُتُ عَلَى قِرَاءَتِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ لا يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ وَلا فِى الآخِرَةِ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِى تُدَاوِمُ عَلَى قِرَاءَتِهَا إِلَّا فِى حَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لا يَمْنَعُهَا مِنْ حُصُولِ السِّرِّ لَهَا.

   وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ نَالَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الشَّهَادَاتِ لا يُعَذَّبُ فِى قَبْرِهِ وَلا فِى الآخِرَةِ وَالشَّهِيدُ هُوَ مَنْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَمَنْ شَهِدَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ بِالْجَنَّةِ. وَالشُّهَدَاءُ أَنْوَاعٌ فَمَنْ قُتِلَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فِى الْمَعْرَكَةِ فَهُوَ شَهِيدُ مَعْرَكَةٍ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ أَىْ دَافَعَ عَنْ مَالِهِ لِرَدِّ مُعْتَدٍ يُرِيدُ أَخْذَهُ ظُلْمًا فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ أَىْ دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ لِرَدِّ ظَالِمٍ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ فَقَاتَلَ فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ أَىْ قُتِلَ لِدِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ كَأَنْ دَافَعَ عَنْ زَوْجَتِهِ لِيَمْنَعَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَقَتَلَهُ الْمُعْتَدِى الَّذِى يُرِيدُ الْفَاحِشَةَ فَهُوَ شَهِيدٌ. وَمَنْ مَاتَ بِغَرَقٍ أَوْ بِحَرْقٍ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ كَأَنْ مَاتَ بِسَبَبِ إِسْهَالٍ أَوِ احْتِبَاسٍ لا يَخْرُجُ مِنْهُ رِيحٌ وَلا غَائِطٌ فَهُوَ شَهِيدٌ لِحَدِيثِ التِّرْمِذِىِّ مَنْ قَتَلَهُ بَطْنُهُ لَمْ يُعَذَّبْ فِى قَبْرِهِ. وَمَنْ مَاتَ غَرِيبًا عَنْ بَلَدِهِ وَأَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ لِحَدِيثِ ابْنِ مَاجَهْ مَوْتُ الْغَرِيبِ شَهَادَةٌ. وَمَنْ قَتَلَهُ الطَّاعُونُ أَوْ مَاتَ بِمَرَضِ ذَاتِ الْجَنْبِ أَوْ مَاتَ تَحْتَ الْهَدْمِ أَوْ بِالتَّرَدِّى مِنْ عُلْوٍ إِلَى سُفْلٍ فَهُوَ شَهِيدٌ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الَّتِى مَاتَتْ بِجُمْعٍ أَىْ بِأَلَمِ الْوِلادَةِ.

 

(37) السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثِينَ: تَكَلَّمْ عَنْ نَعِيمِ الْقَبْرِ.

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِنَعِيمِ الْقَبْرِ فَإِنَّ النَّبِىَّ ﷺ أَخْبَرَ بِذَلِكَ وَمِنْهُ تَوْسِيعُ الْقَبْرِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا لِلْمُؤْمِنِ التَّقِىِّ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ الأَتْقِيَاءِ كَبَعْضِ الشُّهَدَاءِ مِمَّنْ نَالُوا الشَّهَادَةَ وَلَمْ يَكُونُوا أَتْقَيَاءَ وَتَنْوِيرُهُ بِنُورٍ يُشْبِهُ نُورَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَشَمِّ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ قَالَ ﷺ «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوِ الإِنْسَانُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ قَائِلٌ مَا كَانَ يَقُولُ فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ لَهُ إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِى قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ فَيُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِى لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِنَعِيمِ الْقَبْرِ كَتَوْسِيعِ الْقَبْرِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا طُولًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا عَرْضًا لِلْمُؤْمِنِ التَّقِىِّ وَتَنْوِيرِهِ بِنُورٍ يُشْبِهُ نُورَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَرُؤْيَةِ مَقْعَدِهِ فِى الْجَنَّةِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً أَوَّلَ النَّهَارِ وَمَرَّةً ءَاخِرَ النَّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَشَمِّ رَائِحَةِ الْجَنَّةِ الَّتِى تَكُونُ لَهُ أَلَذَّ مِنْ كُلِّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أَوِ الإِنْسَانُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ (أَىْ لَوْنُهُمَا أَسْوَدُ مَمْزُوجٌ بِزُرْقَةٍ) يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا مُنْكَرٌ وَلِلآخَرِ نَكِيرٌ فَيَقُولانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ قَائِلٌ (أَىْ فِى الْجَوَابِ لَهُمَا) مَا كَانَ يَقُولُ (أَىْ قَبْلَ الْمَوْتِ) فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا قَالَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولانِ لَهُ إِنْ كُنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّكَ لَتَقُولُ ذَلِكَ (أَىْ كُنَّا نَعْلَمُ قَبْلَ أَنْ تُجِيبَ أَنَّكَ كُنْتَ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ) ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِى قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا (أَىْ يُوَسَّعُ لَهُ قَبْرُهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِى سَبْعِينَ ذِرَاعًا) وَيُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ فَيُقَالُ لَهُ نَمْ فَيَنَامُ كَنَوْمِ الْعَرُوسِ الَّذِى لا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ (إِلَيْهِ أَىْ يَنَامُ نَوْمَةً هَنِيئَةً كَنَوْمِ الرَّجُلِ الْعَرُوسِ لا يُحِسُّ بِقَلَقٍ وَلا وَحْشَةٍ) حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ.

   وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَسِّعُ قَبْرُهُمْ مَدَّ الْبَصَرِ كَمَا حَصَلَ مَعَ الصَّحَابِىِّ الْجَلِيلِ الْعَلاءِ بنِ الْحَضْرَمِىِّ الَّذِى كَانَ مِنْ أَكَابِرِ الأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُ خَرَجَ لِلْجِهَادِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَكَانَ قَائِدًا لِلْجَيْشِ فَأَرَادَ أَنْ يَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ فَلَمْ يَجِدْ سَفِينَةً لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا السُّفُنَ وَهَرَبُوا بِهَا فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ يَا عَلِىُّ يَا كَرِيمُ وَخَاضَ الْبَحْرَ فَلَمْ تَبْتَلَّ رُكَبُهُ اللَّهُ جَعَلَهُ كَالأَرْضِ الْيَابِسَةِ ثُمَّ قَالَ لِلْجَيْشِ خُوضُوا فَخَاضُوا فَقَطَعُوا مِنْ دُونِ أَنْ يَلْحَقَهُمْ تَعَبٌ فَلَحِقُوا بِالْعَدُوِّ فَظَفِرُوا بِهِمْ وَكَسَرُوهُمْ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِى أَثْنَاءِ السَّفَرِ تُوُفِّىَ هَذَا الْقَائِدُ فِى أَرْضٍ بَرِّيَّةٍ فَحَفَرُوا لَهُ لِأَنَّ إِكْرَامَ الْمَيِّتِ التَّعْجِيلُ بِدَفْنِهِ حَفَرُوا لَهُ فَدَفَنُوهُ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَجَاوَزُوا مَحَلَّ الدَّفْنِ لَقُوا شَخْصًا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ قَالَ لَهُمْ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ قَامُوا عَنْ دَفْنِهِ مَنْ هَذَا الَّذِى دَفَنْتُمُوهُ قَالُوا هَذَا الْعَلاءُ بنُ الْحَضْرَمِىِّ فَقَالَ مَا جَزَاءُ صَاحِبِكُمْ أَنْ تَتْرُكُوهُ بِهَذِهِ الأَرْضِ هَذِهِ الأَرْضُ فِيهَا سِبَاعٌ السِّبَاعُ تَحْفُرُ لِتَأْكُلَ الْجُثَّةَ فَقَالُوا لا نَتْرُكُهُ هُنَا بِهَذِهِ الأَرْضِ فَرَجَعُوا فَحَفَرُوا فَلَمْ يَجِدُوهُ إِنَّمَا وَجَدُوا الْقَبْرَ مُمْتَدًّا مَدَّ الْبَصَرِ يَتَلاطَمُ نُورًا الْقَبْرُ كُلُّهُ أَنْوَارٌ أَمَّا جَسَدُهُ فَلَمْ يَرَوْهُ رُفِعَ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ.

 

(38) السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثِينَ:  تَكَلَّمْ عَنْ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ.

   يَجِبُ الإِيمَانُ بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ وَهُوَ يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لا يَلْحَقُهُ فَزَعٌ وَلا انْزِعَاجٌ مِنْ سُؤَالِهِمَا لِأَنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ قَلْبَهُ فَلا يَرْتَاعُ مِنْ مَنْظَرِهِمَا الْمُخِيفِ لِأَنَّهُمَا كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ وَيُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ الطِّفْلُ وَالشَّهِيدُ وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ وَالْمُرَادُ بِالطِّفْلِ مَنْ مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ وَبِالشَّهِيدِ شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ.

الشَّرْحُ: يَجِبُ الإِيمَانُ بِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ. وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ لا يَلْحَقُهُ فَزَعٌ وَلا انْزِعَاجٌ مِنْ سُؤَالِهِمَا لِأَنَّ اللَّهَ يُثَبِّتُ قَلْبَهُ وَهُمَا لا يَنْظُرَانِ إِلَيْهِ نَظْرَةَ غَضَبٍ فَلا يَخَافُ مِنْ مَنْظَرِهِمَا الْمُخِيفِ فَإِنَّهُمَا كَمَا جَاءَ فِى الْحَدِيثِ الَّذِى رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِى صَحِيحِهِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، وَهَوَ أَخْوَفُ مَا يَكُونُ مِنَ الأَلْوَانِ وَلَهُمَا أَعْيُنٌ حُمْرٌ كَقُدُورِ النُّحَاسِ وَصَوْتُهُمَا كَالرَّعْدِ الْقَاصِفِ وَالْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ يَفْرَحُ بِرُؤْيَتِهِمَا وَسُؤَالِهِمَا يَسْأَلانِهِ مَنْ رَبُّكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ وَمَا دِينُكَ فَيَقُولُ اللَّهُ رَبِّى وَمُحَمَّدٌ نَبِيِّى وَالإِسْلامُ دِينِى أَمَّا الْمُسْلِمُ الْعَاصِى فَيُجِيبُ الْمَلَكَيْنِ كَمَا يُجِيبُ الْمُسْلِمُ التَّقِىُّ لَكِنْ يَخَافُ مِنْ مَنَظَرِهِمَا وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَقُولُ لا أَدْرِى فَتَضْرِبُهُ الْمَلائِكَةُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ لَوْ ضُرِبَ بِهَا الْجَبَلُ لَانْدَكَّ أَىْ تَحَطَّمَ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ وَهُمُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِىُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ (أَىِ انْصَرَفُوا عَنْهُ) وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ (أَىْ يَسْمَعُ صَوْتَ طَرْقِ نِعَالِهِمْ) إِذَا انْصَرَفُوا أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ (أَىِ الْكَامِلُ) فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ (أَىْ لَوْ مِتَّ عَلَى الْكُفْرِ) أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا (فَيَعْرِفُ حِينَئِذٍ فَضْلَ الإِسْلامِ مَعْرِفَةً عِيَانِيَّةً كَمَا كَانَ يَعْرِفُ فِى الدُّنْيَا مَعْرِفَةً قَلْبِيَّةً) وَأَمَّا الْكَافِرُ (أَىِ الْمُعْلِنُ وَهُوَ الَّذِى يُظْهِرُ الْكُفْرَ) أَوِ (الْكَافِرُ) الْمُنَافِقُ (وَهُوَ الَّذِى يُظْهِرُ الإِسْلامَ وَيُخْفِى الْكُفْرَ فِى قَلْبِهِ) فَيَقُولُ لا أَدْرِى كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهِ فَيُقَالُ لَهُ (أَىْ تَقُولُ لَهُ الْمَلائِكَةُ إِهَانَةً لَهُ) لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ (وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ أَىْ لا عَرَفْتَ) ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ (أَىْ مِنْ بَهَائِمَ وَطُيُورٍ) إِلَّا الثَّقَلَيْنِ (وَهُمُ الإِنْسُ وَالْجِنُّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَجَبَ تِلْكَ الصَّيْحَةَ عَنْ أَسْمَاعِهِمْ) وَتَسِيخُ بِهِ الأَرْضُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ ثُمَّ تَلْفِظُهُ الأَرْضُ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقَبْرِ.

   وَيُسْتَثْنَى مِنَ السُّؤَالِ النَّبِىُّ ﷺ لِشَرَفِهِ أَىْ لِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَالطِّفْلُ وَهُوَ الَّذِى مَاتَ دُونَ الْبُلُوغِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَشَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ لِأَنَّ رُوحَهُ تَصْعَدُ مُبَاشَرَةً إِلَى الْجَنَّةِ. وَوَرَدَ أَنَّ مَنْ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَتَهُ وَكَانَ عَاصِيًا لا يُسْأَلُ فِى قَبْرِهِ وَبِالأَوْلَى إِذَا مَاتَ فِى رَمَضَانَ فِى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لِحَدِيثِ مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَتَهُ أَمِنَ الْفَتَّانَيْنِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إِلَّا وَقَاهُ اللَّهُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ رَوَاهُ التِّرْمِذِىُّ.

 

(39) السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثِينَ: تَكَلَّمْ عَنِ الْبَعْثِ.

الْبَعْثُ هُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِى أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِى يَأْكُلُهَا التُّرَابُ وَهِىَ أَجْسَادُ غَيْرِ الأَنْبِيَاءِ وَشُهَدَاءِ الْمَعْرَكَةِ وَكَذَلِكَ بَعْضُ الأَوْلِيَاءِ لا يَأْكُلُ التُّرَابُ أَجْسَادَهُمْ قَالَ تَعَالَى ﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِى الْقُبُورِ﴾.

الشَّرْحُ: الْبَعْثُ هُوَ خُرُوجُ الْمَوْتَى مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ إِحْيَائِهِمْ أَىْ بَعْدَ إِعَادَةِ الْجَسَدِ الَّذِى أَكَلَهُ التُّرَابُ إِنْ كَانَ مِنَ الأَجْسَادِ الَّتِى يَأْكُلُهَا التُّرَابُ فَيُعَادُ تَرْكِيبُ الْجَسَدِ عَلَى عَظْمٍ صَغِيرٍ قَدْرَ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ يُسَمَّى عَجْبَ الذَّنَبِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ أَىْ يَخْتَلِطُ هَذَا الْمَاءُ بِالتُّرَابِ وَبِعَجْبِ الذَّنَبِ فَيُعِيدُ اللَّهُ الأَجْسَادَ الَّتِى أَكَلَهَا التُّرَابُ. وَهَذَا الْعَظْمُ لا يَبْلَى وَلَوْ سُلِّطَ عَلَيْهِ نَارٌ شَدِيدَةٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَىْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِى رِوَايَةٍ عِنْدَ ابْنِ حِبَّانَ يَأْكُلُ التُّرَابُ كُلَّ شَىْءٍ مِنَ الإِنْسَانِ إِلَّا عَجْبَ ذَنَبِهِ قِيلَ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْهُ يَنْشَأُ، أَىْ أَنَّ عَجْبَ الذَّنَبِ هُوَ أَوَّلُ عَظْمٍ يَتَكَوَّنُ فِى الْجَنِينِ وَعَلَيْهِ يُرَكَّبُ سَائِرُ جَسَدِ الإِنْسَانِ.

   أَمَّا الأَنْبِيَاءُ فَلا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ لِقَوْلِهِ ﷺ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الأَنْبِيَاءِ، فَالأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِى قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ تَلَذُّذًا بِعِبَادَةِ اللَّهِ قَالَ ﷺ الأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ فِى قُبُورِهِمْ يُصَلُّونَ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ. وَكَذَلِكَ شُهَدَاءُ الْمَعْرَكَةِ وَبَعْضُ الأَوْلِيَاءِ لا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ لِمَا تَوَاتَرَ مِنْ مُشَاهَدَةِ بَعْضِ الأَوْلِيَاءِ وَمِنْهُمُ الْحَافِظُ أَبُو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ الَّذِى شُوهِدَتْ جُثَّتُهُ صَحِيحَةً لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهَا شَىْءٌ وَقَدْ مَضَى عَلَى وَفَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَمَانِمِائَةِ سَنَةٍ.

   وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ هُوَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ﷺ ثُمَّ بَعْدَهُ الأَنْبِيَاءُ. وَأَهْلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مِنْ أَوَّلِ مَنْ يُبْعَثُ وَيَحْصُلُ الْبَعْثُ بَعْدَ أَنْ يَنْفُخَ الْمَلَكُ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ فَيَقُومُ الأَمْوَاتُ مِنْ قُبُورِهِمْ بَعْدَ عَوْدِ الأَرْوَاحِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ.

  وَاعْلَمْ أَنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ لَطِيفٌ أَىْ لا يٌقبَضُ بِالْيَدِ، لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا اللَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِى سُورَةِ الإِسْرَاءِ ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُمْ مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾. وَهُوَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، بَعضُ جَهَلَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ سَمَّوِا اللَّهَ رُوحًا وَهَذَا إِلْحَادٌ وَكُفْرٌ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنْ تَسْتَمِرَّ الْحَيَاةُ فِى أَجْسَامِ الْمَلائِكَةِ وَالإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْبَهَائِمِ مَا دَامَتِ الأَرْوَاحُ مُجْتَمِعَةً مَعَهَا. وَالرُّوحُ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ لَكِنَّهُ لا يَفْنَى. وَالْمُؤْمِنُ التَّقِىُّ إِذَا مَاتَ وَبَلِىَ جَسَدُهُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ يَكُونُ رُوحُهُ فِى الْجَنَّةِ أَمَّا شَهِيدُ الْمَعْرَكَةِ فَيَصْعَدُ رُوحُهُ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَتَكُونُ أَرْوَاحُ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ أَىْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ الَّذِينَ مَاتُوا بِلا تَوْبَةٍ بَعْدَ بِلَى الْجَسَدِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَبَعْضُهُمْ فِى السَّمَاءِ الأُولَى أَمَّا شَّهِيدُ الْمَعْرَكَةِ فَيَصْعَدُ رُوحُهُ فَوْرًا إِلَى الْجَنَّةِ. وَتَكُونُ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ بَعْدَ أَنْ تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ فِى سِجِّين وَتَبْقَى هُنَاكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسِجِّينٌ مَكَانٌ مُظْلِمٌ وَمُوحِشٌ فِى الأَرْضِ السَّابِعَةِ تُسَجَّلُ فِيهِ أَسْمَاءُ الْكُفَّارِ.

 

(40) السُّؤَالُ الأَرْبَعُونَ: مَا هُوَ الْحَشْرُ.

   الْحَشْرُ هُوَ سَوْقُ مَنْ يَخْرُجُ مِنَ الْقُبُورِ إِلَى الْمَوْقِفِ وَالنَّاسُ فِى الْحَشْرِ يَكُونُونَ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ فَقِسْمٌ مِنْهُمْ كَاسُونَ رَاكِبُونَ طَاعِمُونَ وَهُمُ الأَتْقِيَاءُ وَقِسْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ وَهُمُ الْفَاسِقُونَ وَقِسْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ يُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ فَالإِنْسُ يُحْشَرُونَ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَالْوُحُوشُ قَالَ تَعَالَى ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا﴾ وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾.

الشَّرْحُ: الْحَشْرُ هُوَ أَنْ يُجْمَعَ النَّاسُ بَعْدَ الْبَعْثِ إِلَى مَكَانٍ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهُ الشَّامُ لَكِنَّهُ يُوَسَّعُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لِيَسَعَ الْجَمِيعَ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ ق ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ أَىْ مَلَكٌ يَسُوقُهُ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ ثُمَّ يُنْقَلُونَ عِنْدَ دَكِّ الأَرْضِ إِلَى ظُلْمَةٍ عِنْدَ الصِّرَاطِ فَإِنَّ هَذِهِ الأَرْضَ تُدَكُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَىْ تُزَلْزَلُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَيَنْهَدِمُ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَيَنْعَدِمُ ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تُبَدَّلَ الأَرْضُ غَيْرَهَا يُعِيدُ اللَّهُ الْبَشَرَ إِلَيْهَا وَيَقْضِى بَيْنَهُمْ. وَيَكُونُ الْحَشْرُ عَلَى الأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِىَ أَرْضٌ مُسْتَوِيَةٌ كَالْجِلْدِ الْمَشْدُودِ لا جِبَالَ فِيهَا وَلا وِدْيَانَ أَكْبَرُ وَأَوْسَعُ مِنْ أَرْضِنَا هَذِهِ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ وَيَكُونُ النَّاسُ فِى الْحَشْرِ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْوَالٍ فَقِسْمٌ مِنَ النَّاسِ طَاعِمُونَ كَاسُونَ رَاكِبُونَ عَلَى نُوقٍ رَحَائِلُهَا أَىْ سُرُوجُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَهُمُ الأَتْقِيَاءُ وَقِسْمٌ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ الْفَاسِقُونَ أَىْ أَهْلُ الْكَبَائِرِ وَقِسْمٌ يُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً وَيُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَىْ تَسْحَبُهُمُ الْمَلائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَهُمُ الْكُفَّارُ، الْكَافِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِى بَعْضِ الأَوْقَاتِ يَمْشِى عَلَى وَجْهِهِ، كَمَا أَمْشَاهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْهِ يُمْشِيهِ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يُظْهِرَ أَنَّهُ حَقِيرٌ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ يُبْعَثُ النَّاسُ (أَىْ أَغْلَبُ النَّاسِ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا أَىْ غَيْرَ مَخْتُونِينَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ قَالَ ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ أَىْ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَالًا يَشْغَلُهُ عَنِ النَّظَرِ فِى حَالِ غَيْرِهِ. وَتُسَلَّطُ الشَّمْسُ الَّتِى تَكُونُ وَاقِفَةً فِى الْفَضَاءِ بِلا غُرُوبٍ وَلا شُرُوقٍ عَلَى الْكُفَّارِ فَيَغْرَقُونَ فِى الْعَرَقِ حَتَّى يَصِلَ عَرَقُ أَحَدِهِمْ إِلَى فَمِهِ وَلا يَتَجَاوَزُ إِلَى شَخْصٍ ءَاخَرَ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ مِنْ شِدَّةِ مَا يُقَاسِى مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ رَبِّ أَرِحْنِى (أَىْ مِنْ هَذَا الْعَذَابِ) وَلَوْ إِلَى النَّارِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ الْكَافِرَ لَيُلْجِمُهُ الْعَرَقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ أَرِحْنِى وَلَوْ إِلَى النَّارِ. لَكِنْ بَعْدَ دُخُولِهِ جَهَنَّمَ يَجِدُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ الزُّمَرِ ﴿وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾. أَمَّا التَّقِىُّ فَلا يُصِيبُهُ أَدْنَى انْزِعَاجٍ. فَالإِنْسُ يُحْشَرُونَ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَالْبَهَائِمُ قَالَ تَعَالَى فِى سُورَةِ التَّكْوِيرِ ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ أَىْ بُعِثَتْ لِلْقِصَاصِ وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَتُؤَدَّنَّ الْحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، أَىْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْخُذُ الْحُقُوقَ لِأَهْلِهَا حَتَّى يُؤْخَذَ حَقُّ الشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ الَّتِى ضَرَبَتْهَا فِى الدُّنْيَا وَالشَّاةُ الْجَلْحَاءُ هِىَ الشَّاةُ الَّتِى لَيْسَ لَهَا قَرْنٌ أَمَّا الْقَرْنَاءُ فَلَهَا قَرْنٌ وَلَكِنْ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ تُؤْخَذَ الْقَرْنَاءُ الَّتِى ضَرَبَتِ الأُخْرَى إِلَى النَّارِ إِنَّمَا هَذِهِ تَضْرِبُ هَذِهِ كَمَا ضَرَبَتْهَا فِى الدُّنْيَا ثُمَّ تَمُوتُ وَلا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلا النَّارَ إِنَّمَا تَعُودُ تُرَابًا.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/bY1XaXvD0lI

 

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ: https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/bahja-4

 

الْمَوْقِعُ الرَّسْمِيُّ لِلشَّيْخِ جِيل صَادِق: https://shaykhgillessadek.com