سورة المُلك
إن سورة “الملك” هي سورة عظيمة الشأن رفيعة القدر لما فيها من معانٍ عظيمة، وقراءتها كل يوم من أسباب النجاة من عذاب القبر لأنها تدافع عن صاحبها وتستغفر له حتى يغفر له لذلك تسمى الواقية والمنجية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: “إنّ في القرآن ثلاثين آية تستغفر لصاحبها حتى يُغفر له تبارك الذي بيده الملك” رواه الضياء المقدسي.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً ضرب خيمة على قبر فصار يسمع من القبر قراءة تبارك الذي بيده الملك” حتى ختمها، فذهب إلى رسول الله ﷺ فأخبره بما حصل فقال ﷺ مصدقاً له: “هي المانعة هي المنجية” رواه الترمذي.
ولعظيم فضل هذه السورة المباركة وللسر العظيم الذي فيها حضّ النبي الأعظم أمته على حفظها عن ظهر قلب، فقال عليه الصلاة والسلام: “وددتُ أنها- أي تبارك الذي بيده الملك- في جوف كل إنسان من أمتي” رواه الحافظ العسقلاني في أماليه.
فإن قيل كيف تدافع سورة الملك عن صاحبها وهي ليست بذي روح. فالجواب كما قال العلماء: يجوز أن يخلق الله تعالى لهذه الحروف التي تتألف منها سورة الملك نطقاً فتدافع عن صاحبها، ويجوز أن يوكل ملك للدفاع عن صاحبها كأن يقول: يا رب، هذا العبد كان ملازماً لقراءة هذه السورة. فما أعظم هذا الفضل وهذه البشرى العظيمة للمسلم الذي يحافظ على قراءة هذه السورة المباركة.
لقد جاءت سورة “الملك” بآياتها الثلاثين فيها الكثير من معاني التوحيد وصفات الكمال والجلال اللائقة به سبحانه وتعالى، وفي هذه السورة ذكر بعض مخلوقات الله تعالى التي هي آيات بينان ودلائل نيرات على عظم قدرة الله عزّ وجلّ.
وفي هذه السورة المباركة إثبات للبعث والحشر والحساب والثواب والعقاب في الآخرة.
ولقد ابتدأت هذه السورة المباركة ب توحيد الله وتنزيهه عن مشابهة الخلق فقال عزّ وجل: { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ } . ومعنى {تبارك الله} أي دام فضله وبره وتعالى عن صفات المخلوقات، فقد أثبت الله عز وجل في هذه الآية انه سبحانه وتعالى بيده أي بتصرفه ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وأن جميع الخلائق مقهورون بقدرته يفعل في ملكه ما يريد ويحكم في خلقه بما يشاء.
وفي هذه السورة المباركة بيان معنى عظيم من معاني التوحيد وهو أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علماً ولا يغيب عن علمه شيء، فهو سبحانه وتعالى عالم بخفيات الأمور وجلياتها ويعلم ما ظهر منها وما بطن، وهو عز وجل عالم بما أسر عباده وما جهروا به، وهو عليم بما في القلوب من الخير والشر لا يخفى على الله شيء من خلقه لأنه تعالى هو الخالق الإله جل ثناؤه الذي خلق هذه المخلوقات كلها، ومن كان خالقاً لها فهو يعلمها ويعلم حقائقها وجزئياتها وكلياتها وتفاصيلها لا يخفى على الله تعالى شيء منها.
وفي هذه السورة المباركة الرد على هؤلاء المشركين الذين كانوا ينالون من رسول الله ﷺ فيخبره سيدنا جبريل عليه السلام بما قالوا، فكان يقول بعضهم: أسروا قولكم حتى لا يسمع إله محمد.
قال تعالى في الرد عليهم: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)} [سورة الملك].
اللطيف: أي المحسن إلى عباده في خفاء وستر من حيث لا يحتسبون.
“الخبير” أي المطلع على حقيقة الأشياء لا تخفى عليه خافية.
وفي هذه السورة المباركة ذكر بيان أن الله تبارك وتعالى خلق الموت والحياة فأمات سبحانه من شاء وأحيا من شاء إلى أجل معلوم، وجعل الله سبحانه الدنيا دار عمل ودار فناء، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء.
فالله تبارك وتعالى خلق عباده ليمتحنهم في هذه الدنيا أيهم أحسن عملاً، فجعل الله تعالى الدنيا دار عمل وجعل الآخرة دار الجزاء على العمل.
وفي هذه السورة المباركة ذكر بيان أن الله تعالى خلق سبع سموات طباقاً أي بعضهما فوق بعض وهي عظيمة الخلقة وتدل على عظيم قدرة الله تعالى. وأن هذ المخلوقات التي خلقها الله تعالى وأوجدها بقدرته ومنها ما يراها ابن آدم، ليس في شيء منها تفاوت واختلاف يناقض الحكمة، فلا يرى الناظر من ابن آدم في شيء مما يراه من هذه المخلوقات التي خلقها الله عز وجل من اعوجاج ولا تناقض ولا عيب ولا خطأ، فالله عز وجل الذي أحكم خلقه لهذه المخلوقات لا يجوز عليه العبث والسفه. وأمر الله تبارك وتعالى عباده في هذه السورة المباركة بأن ينظروا في مخلوقاته ليعتبروا بها فيتفكروا في عظيم قدرته ومنها هذه السماء الدنيا، حيث أمر الله تعالى ابن آدم أن يكرر النظر إليها ويتأملها جيداً فلا يرى فيها من شقوق وصدوع أو عيب أو خلل، فهذه السماء التي نراها فوقنا آية عظيمة من آيات الله تعالى التي تدل على وجوده عز وجل وعلى عظيم قدرته.
وفي هذه السورة المباركة أيضاً بيان آية من آيات الله تعالى التي تدل على عظيم قدرته، وهذه الآية يراها الناس وهي أن الله تبارك وتعالى زين السماء الدنيا وهي هذه السماء القريبة من الأرض والتي نشاهدها ويراها الناس زينها بنجوم لها نور مضي، فهي تبدو في الليل عند حلول الظلام مضيئة كالمصابيح.
وفي هذه السورة المباركة ايضاً ذكر وبيان أن الله عز وجل جعل هذه الأرض التي نعيش عليها ويعيش على ظهرها الناس سهلة مذللة، فهم يستقرون عليها ويمكنهم المشي فيها والحفر للآبار وشق العيون وبناء الأبنية التي تأويهم وتحفظهم، وكذلك يمكنهم أيضاً زرع الحبوب وغرس الأشجار فيها ونحو ذلك مما ينفعهم في أمور دنياهم ومعايشهم، ولو كانت هذه الأرض صخرة صلبة لما تيسر لنا شيء منها، ثم أمر الله تعالى عباده بعد أن بين لهم تذليل هذه الأرض لهم أن يمشوا في مناكبها أي طرقاتها وقيل جبالها وجوانبها ليأكلوا من رزقه مما أحله الله تعالى لهم.
وفي هذه السورة المباركة نجد أن الله عز وجل نبه هؤلاء المشركين الذين كانوا زمن النبي الأعظم ﷺ وقد كذبوا نبيهم فيما جاء به وعبدوا غير الله أن يعتبروا بما يرونه فوقهم من آيات الله تعالى فقد نبههم الله تبارك وتعالى على الاعتبار بالطير فوقهم وما أحكم سبحانه وتعالى من خلقها، فهي تطير فوقهم في الهواء باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ويقبضن كذلك أجنحتهن إلى جوانبهن حتى يبقين في جو الهواء، ما يمسكهن عن الوقوع والسقوط مع ضخامة أجسام بعضها وثقلها إلا الرحمن خالقها سبحانه وتعالى، فهذه الطير لم يكن بقاؤها في الجو إلا بقدرة الله وحفظه.
ثم في هذه السورة المباركة ضرب الله تبارك وتعالى مثلاً لحال المؤمن وحال الكافر، فقد شبه الله تبارك وتعالى المؤمن في تمسكه بالدين الحق دين الإسلام وسيره على منهاجه المستقيم بمن يمشي في الطريق المستوي المعتدل الذي ليس فيه اعوجاج ولا ما يتعثر به، وشبه الكافر في ركوبه ومشيه على الدين الباطل وانكبابه على الكفر والمعاصي بمن يمشي في الطريق الذي فيه حفر وارتفاع وانخفاض فيتعثر فيه ويسقط على وجهه كلما تخلص من عثرة وقع في عثرة أخرى.
وفي هذه السورة المباركة بيان أن هؤلاء المشركين الكافرين الذين كذبوا النبي الأعظم ﷺ ولم يؤمنوا به وعبدوا غير الله لم يشكروا الله تعالى الذي أنشأهم وخلقهم أي أبرزهم من العدم إلى الوجود، وجعل لهم نعمة السمع التي يستمعون بها ونعمة الأبصار التي يبصرون بها ونعمة القلوب التي يعقلون بها، هؤلاء الكفار المشركون لم يشكروا الله تعالى على هذه النعمة ألبتة، لأن شكر نعمة الله تعالى تكون أن يصرف العبد تلك النعمة إلى وجه رضاه تعالى، فبين الله تعالى لهؤلاء الكفار المشركين أنهم لما صرفوا نعمة السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاة الله تعالى بأنهم ما شكروا الله تعالى على نعمته ألبتة، لأن شكر الله تعالى يكون بالإسلام والإيمان وطاعته تعالى أي بأداء الواجبات واجتناب المحرمات.
خامساً: ومن علامات محبة الله تعالى مُحبة الدعوة إلى دين الله، ومحبة الدعاة إلى الله
إن من علامة حب الله تعالى ورسوله المصطفى ﷺ محبة الدعوة إلى دين الله، ومحبة الدعاة المخلصين الصادقين في الدعوة إلى دين الله، العاملين في حقل الدعوة إلى الله، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ومعلمي الناس الخير.
يا أحباب الله ورسوله، إن الدعوة إلى دين الله تعالى وتعليم الناس الخير هو عمل عظيم عند الله، يحبه الله ورسوله، وهو طريق ومنهاج وعادة أنبياء الله ورسله، وهو طريق وسبيل العلماء العاملين الذين يعلمون الناس الخير، فنحن نحب هؤلاء الدعاة إلى دين الله تعالى، ونحب الدعوة إلى دين الله تعالى لأن هذا العمل يحبه الله تعالى ورسوله. إن الدعاة إلى الله يحبهم الله ورسوله، فنحن نحب ما يحبه الله تعالى ونحب ما يحبه حبيبه ورسوله محمد ﷺ.
إن الصادق في حبّ الله ورسوله تظهر فيه هذه العلامة واضحة جلية، فنراه يحب ويعشق الدعوة إلى دين الله تعالى.
ونجده يعشق ويحب الدعاة إلى دين الله عزّ وجل الذين يعلمون الناس الخير أي علم الدين ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ابتغاء مرضاة الله.
يقول الله تبارك وتعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ } [سورة فصلت /33].
وقال سبحانه وتعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)} [سورة النحل].
ويقول النبي الأعظم ﷺ: “خير الناس من تعلّم وعلّم” رواه البيهقي. ومقصود الرسول ﷺ بذلك علم الدين، حياة الإسلام هو علم الدين وهو العلم النافع في الدنيا والآخرة، وعلم الدين هو حياة القلوب وبدون علم الدين لا حياة للقلوب.
يقول عليه الصلاة والسلام: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً”. رواه مسلم.
ولقد قال نبينا المصطفى ﷺ يوماً لعلي رضي الله عنه: “فواللهِ لأن يهديَ اللهُ بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمرِ النّعم”. متفق عليه.
وحُمر النعم- يا أحبابي في الله– هي الإبل الشقراء وكانت أنفس أموال العرب.
لقد بيّن النبي الأعظم والحبيب الأكرم ﷺ لأمته عظيم فضل العالم العامل وهو الذي يعمل بعلمه ويعلم الناس الخير، وهو علم الدين الذي هو العلم النافع في الدنيا والآخرة، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم” ثم قال رسول الله ﷺ : “إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جُحرها وحتى الحوت ليصلون على مُعلّمي الناس الخير (أي علم الدين والأحكام الشرعية)” رواه الترمذي.
وفي حديث آخر يقول عليه الصلاة والسلام: “…وإن العالمَ ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” رواه أبو داود والترمذي.