سعد بن أبي وقاص
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ
أَوَّلُ مَنْ رَمَى سَهْمًا فِي سَبِيْل ِاللهِ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ أَبُوْ إِسْحَاقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاسْمُ أَبِي وَقَّاصٍ هُوَ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَهُوَ أَحَدُ السِّتَّةِ أَهْلِ الشُّوْرَى وَأَحَدُ العَشَرَةِ الـمُبَشَّرِيْنَ بِالـجَنَّةِ، فَفِي الـحَدِيْثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَبُوْ بَكْرٍ فِي الـجَنَّةِ وَعُمَرُ فِي الـجَنَّةِ وَعُثْمَانُ فِي الـجَنَّةِ وَعَلِيٌّ فِي الـجَنَّةِ وَطَلْحَةُ فِي الـجَنَّةِ وَالزُّبَيْرُ فِي الـجَنَّةِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الـجَنَّةِ وَسَعْدٌ فِي الـجَنَّةِ وَسَعِيْدٌ فِي الـجَنَّةِ وَأَبُوْ عُبَيْدَةَ بْنُ الـجَرَّاحِ فِي الـجَنَّةِ”. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَكَذَلِكَ هُنَاكَ حَدِيْثٌ ءَاخَرُ رَوَاهُ أَبُوْ يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَالـحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِالإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوْسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا البَابِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الـجَنَّةِ” فَطَلَعَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وَسَعْدٌ كَمَا أَشَرْنَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَأَبُوْهُ أَبُوْ وَقَّاصٍ هُوَ ابْنُ عَمِّ ءَامِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وَالِدَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي مَنَاقِبِ سَعْدٍ وَالطَّبَرِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الكَبِيْرِ وَابْنُ سَعْدٍ فِي طَبَقَاتِهِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ إِذْ أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فَقَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ”.
رَوَى جُمْلَةً مِنَ الأَحَادِيْثِ، وَلَهُ فِي الصَّحِيْحَيْنِ خَمْسَةَ عَشَرَ حَدِيْثًا، وَانْفَرَدَ لَهُ البُخَارِيُّ بِخَمْسَةِ أَحَادِيْثَ، وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ حَدِيْثًا.
وَحَدَّثَ عَنْهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالسَّائِبُ بْنُ يَزِيْدَ وَقَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، وَسَعِيْدُ بْنُ الـمَسَيَّبِ وَأَبُوْ عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُوْنٍ وَالأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ، وَإِبْرَاهِيْمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَمُجَاهِدٌ وَشُرَيْحُ بْنُ عُبَيْدٍ الـحِمْصِيُّ وَأَيْمَنٌ الـمَكِّيُّ وَبِشْرُ بْنُ سَعِيْدٍ وَأَبُوْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ وَأَبُوْ صَالِحٍ ذَكْوَانُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأَوْلَادُ سَعْدٍ وَهُمْ: عَامِرٌ وَعُمَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمُصْعَبُ وَإِبْرَاهِيْمُ وَعَائِشَةُ، وَكَثِيْرُوْنَ غَيْرُهُمْ.
مَنَاقِبُهُ:
يَرْوِي أَهْلُ التَّرَاجِمِ وَالسِّيَرِ عَنِ الصَّحَابِيِّ الـجَلِيْلِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَادِثَةً هِيَ مِثَالٌ عَنْ قُوَّةِ إِيْمَانِ صَحَابَةِ رَسُوْلِ اللهِ رِضْوُانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ مَا رَوَاهُ مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: }وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا{ سورة العنكبوت/ءاية:8) قَالَ: كُنْتُ بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ، مَا هَذَا الدِّيْنُ الَّذِي قَدْ أَحْدَثْتَ لَتَدَعَنَّ دِيْنَكَ هَذَا، أَوْ لَا ءَاكُلَ وَلَا أَشْرَبَ حَتَّى أَمُوْتَ فَتُعَيَّرُ بِي فَيُقَالُ: يَا قَاتِلَ أُمِّهِ، فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلِي يَا أُمَّهْ، إِنِّي لَا أَدَعُ دِيْنِي هَذَا لِشَيْءٍ، فَمَكَثَتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ، وَأَصْبَحَتْ وَقَدْ جُهُدَتْ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا أُمَّهْ، تَعْلَمِيْنَ وَاللهِ لَوْ كَانَ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفَسًا نَفَسًا مَا تَرَكْتُ دِيْنِي. إِنْ شِئْتِ فَكُلِي أَوْ لَا تَأْكُلِي، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَكَلَتْ.
كَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِنْ أَوَائِلِ مَنْ دَخَلَ فِي الإِسْلَامِ مِنَ الـمُهَاجِرِيْنَ، فَهُوَ إِذًا مِنَ السَّابِقِيْنَ الأَوَّلِيْنَ الَّذِيْنَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي القُرْءَانِ الكَرِيْمِ وَكَانَ عُمُرُهُ حِيْنَ أَسْلَمَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَقِيْلَ تِسْعَ عَشْرَةَ.
شَهِدَ الـمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ رَمَى سَيْفًا فِي سَبِيْلِ اللهِ، فَفِي كِتَابِ “الإِصَابَةِ” لِلْحَافِظِ العَسْقَلَانِي أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى جَانِبٍ مِنَ الـحِجَازِ يُدْعَى رَابِغُ، فَهَاجَمَ الـمُشْرِكُوْنَ الـمُسْلِمِيْنَ، فَحَمَاهُمْ سَعْدٌ يَوْمَئِذٍ بِسِهَامِهِ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلَ قِتَالٍ فِي الإِسْلَامِ، فَقَالَ سَعْدٌ فِي هَذَا شِعْرًا:
أَلَا هَلْ أَتَى رَسُوْلُ اللهِ أَنِّي *** حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُوْرِ نَبْلِي
أَذُوْدُ بِهَا عَدَوَّهُمْ ذِيَادًا *** بِكُلِّ حَزْوَنَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ
فَمَا يَعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدُوٍّ *** بِسَهْمٍ يَا رَسُوْلَ اللهِ قَبْلِي
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَيِّدَ الرَّمْيِ مُسَدَّدَ الإِصَابَةِ، وَلَا سِيَّمَا بَعْدَ أَنْ دَعَا لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” لِابْنِ الـجَوْزِيِّ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ”.
وَفِي “سِيَرِ أَعْلَامِ النُّبَلَاءِ” رَوَى الذَّهَبِيُّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: قُتِلَ سَعْدٌ يَوْمَ أُحُدٍ بِسَهْمٍ رُمِيَ بِهِ، فَرَمَوْا بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَخَذَهُ سَعْدٌ، فَرَمَى بِهِ الثَّانِيَةَ فَقَتَلَ، فَرُدَّ عَلَيْهِمْ فَرَمَى بِهِ الثَّالِثَةَ فَقَتَلَ، فَعَجِبَ النَّاسُ مِمَّا فَعَلَ.
عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ بَعْضِ ءَالِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ مَعْرَكَةِ أُحُدٍ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاوِلُنِي النَّبْلَ وَيَقُوْلُ: “ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي”، حَتَّى إِنَّهُ لَيُنَاوِلُنِي السَّهْمَ مَا لَهُ مِنْ نَصْلٍ، فَأَرْمِي بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الـمُسَيَّبِ: كَانَ جَيِّدَ الرَّمْيِ، سَمِعْتُهُ يَقُوْلُ: جَمَعَ لِي رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْهِ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَكَذَلِكَ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ، وَالبُخَارِيُّ فِي الـمَغَازِي، بِالإِسْنَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ أَبَوَيْهِ لِأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدٍ.
وَرَوَى ابْنُ زَنْجَوَيْهِ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ يَوْمَ الـخَنْدَقِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، كَانَ رَجُلٌ مَعَهُ تِرْسٌ وَكَانَ سَعْدٌ رَامِيًا، فَجَعَلَ يَقُوْلُ كَذَا يُحَوِّي بِالتِّرْسِ [أَيْ يُحَرِّكُهُ] وَيُغَطِّي جَبْهَتَهُ، فَنَزَعَ لَهُ سَعْدٌ بِسَهْمٍ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ رَمَاهُ بِهِ فَلَمْ يُخْطِئْ هَذِهِ مِنْهُ [يَعْنِي جَبْهَتَهُ]، فَانْقَلَبَ وَأَشَالَ بِرِجْلِهِ، فَضَحِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِهِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
اسْتِجَابَةُ دَعْوَتِهِ:
كَانَ مَشْهُوْرًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، وَبَيْنَ مَنْ جَاءَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنَ التَّابِعِيْنَ وَالعُلَمَاءِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ مُجَابَ الدَّعوَةِ، وَذَلِكَ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الآنِفُ الذِّكْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: “اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ وَأَجِبْ دَعْوَتَهُ” وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَالـحَاكِمِ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَالـهَيْثَمِيِّ فِي “مَجْمَعِ الزَّوَائِدِ” أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ إِذَا دَعَاكَ”، فَكَانَ النَّاسُ لَا يَتَعَرَّضُوْنَ لَهُ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيْبَهُمْ دَعْوَتُهُ، وَكَانَ هُنَاكَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَصَابَتْهُ دَعْوَتُهُ، مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُوْ سَعْدَةَ، وَذَلِكَ عِنْدَمَا شَكَا أَهْلُ الكُوْفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ بْنِ الـخَطَّابِ فَقَالُوْا إِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، فَبَعَثَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رِجَالًا يَسْأَلُوْنَ عَنْهُ بِالكُوْفَةِ، فَكَانُوا لَا يَأْتُوْنَ مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الكُوْفَةِ إِلَّا قِيْلَ لَهُمْ فِيْهِ خَيْرٌ، حَتَّى أَتَوْا مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَالَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُوْ سَعْدَةَ: أَمَّا إِذَا نَشَدْتُمُونَا اللهَ، فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، وَلَا يُقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَسِيْرُ بِالسَّرِيَّةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَأَعْمِ بَصَرَهُ وَأَطِلْ عُمَرَهُ وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، قَالَ عَبْدُ الـمَلِكِ، فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَاءِ فِي السِّكَكِ، فَإِذَا سُئِلَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَقُوْلُ: كَبِيْرٌ مَفْتُوْنٌ أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
وَفِي “سِيَرِ النُّبَلَاءِ” عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ عَنِ ابْنِ الـمُسَيَّبِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسُبُّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَجَعَلَ سَعْدٌ يَنْهَاهُ وَيَقُوْلُ: لَا تَقَعْ فِي إِخْوَانِي، فَأَبَى، فَقَامَ سَعْدٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا بِكَلِمَاتٍ، فَجَاءَ بُخْتِيٌّ [أَيْ جَمَلٌ] يَشُقُّ النَّاسَ، فَأَخَذَهُ بِالبَلَاطِ وَوَضَعَهُ بَيْنَ صَدْرِهِ وَالبَلَاطِ حَتَّى سَحَقَهُ فَمَاتَ، قَالَ ابْنُ الـمُسَيَّبِ: فَأَنَا رَأَيْتُ النَّاسَ يَتْبَعُوْنَ سَعْدًا وَيَقُوْلُوْنَ: هَنِيْئًا لَكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، اسْتُجِيْبَتْ دَعْوَتُكَ.
وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيْلَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَبِيْبَةَ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: دَعَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا رَبِّ بَنِيَّ صِغَارٌ، فَأَطِلْ فِي عُمُرِي حَتَّى يَبْلَغُوْا، فَعَاشَ بَعْدَهَا عِشْرِيْنَ سَنَةً.
غَزَوَاتُهُ وَجِهَادُهُ:
وَمِنْ مَنَاقِبِهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ بَأَنْ فَتَحَ العِرَاقَ عَلَى يَدِهِ بَعْدَ مَعْرَكَةِ القَادِسِيَّةِ الـمَشْهُوْرَةِ، فَإِنَّهُ لَمَّا عَلِمَ الـمُسْلِمُوْنَ اجْتِمَاعَ الفُرْسِ عَلَى يَزْدَجَرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ بْنِ كِسْرَى، أَرْسَلَ عُمَرُ بْنُ الـخَطَّابِ بِتَجْمِيْعِ الـمُسْلِمِيْنَ اسْتِعْدَادًا لِغَزْوِ فَارِسَ، وَاسْتَشَارَ أَهْلَ الشُّوْرَى فِيْمَنْ يَكُوْنُ قَائِدَ الـمَعْرَكَةِ، فَأَشَارُوْا إِلَيْهِ بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَخَرَجَ إِلَى العِرَاقِ بِأَرْبَعَةِ ءَالَافِ مُقَاتِلٍ، وَصَارَ عُمَرُ بْنُ الـخَطَّابِ بَعْدَ ذَلِكَ يَمُدُّهُ بِالـجُنُوْدِ مِنْ غَطَفَانَ وَقَيْسٍ وَتَمِيْمٍ وَأَسَدٍ وَغَيْرِهَا مِنَ العَرَبِ حَتَّى صَارَ عَدَدُ الـجَيْشِ بِضْعَةٌ وَثَلَاثِيْنَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، فَسَارُوْا حَتَّى وَصَلُوْا إِلَى القَادِسِيَّةِ، وَهِيَ مَكَانٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكُوْفَةِ خَمْسَةً وَأَرْبَعِيْنَ مِيْلًا، وَكَانَتِ الـمَعْرَكَةُ بَيْنَ الـمُسْلِمِيْنَ وَبَيْنَ الفُرْسِ الَّذِيْنَ كَانَ رُسْتُمُ قَائِدَهُمْ مِنْ قِبَلِ كِسْرَى، فَكَانَتِ الـهَزِيْمَةُ الشَّنْعَاءُ لِلْمَجُوْسِ ءَانَذَاكَ إِذْ قُتِلَ مِنْهُمُ الآلَافُ، وَاقْتَحَمَ جَيْشُ الـمُسْلِمِيْنَ العِرَاقَ وَفَارِسَ وَتَتَابَعَ فَتْحُ الـمُدُنِ وَالأَمْصَارِ، وَدَخَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ بِجَيْشِهِ مَدَائِنَ كِسْرَى حَيْثُ كَانَ قَصْرُهُ وَغَنِمَ الـمُسْلِمُوْنَ ءَانَذَاكَ الشَّيْءَ العَظِيْمَ.
بِنَاؤُهُ الكُوْفَةَ:
كَانَ عُمَرُ بْنُ الـخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَدْ كَتَبَ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَسْأَلُهُ عَنِ السَّبَبِ الَّذِي غَيَّرَ أَلْوَانَ العَرَبِ وَغَيَّرَ لُـحُوْمَهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ تَغَيُّرُ الـهَوَاءِ وَالأَرْضِ، فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَيْهِ قَائِلًا: إِنَّ العَرْبَ لَا يُوَافِقُهَا إِلَّا مَا وَافَقَ إِبِلَهَا مِنَ البُلْدَانِ، فَابْعَثْ سَلْمَانَ وَحُذَيْفَةَ رَائِدَيْنِ، فَلْيَرْتَادَا مَنْزِلًا بَرِّيًا بَحْرِيًّا لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فِيْهِ بَحْرٌ وَلَا جِسْرٌ فَخَرَجَ سَلْمَانُ غَرْبِيَّ الفِرَاتِ، وَحُذَيْفَةُ شَرْقِيَّهِ، حَتَّى التَقَيَا عِنْدَ الكُوْفَةِ فَأَعَجْبَتْهُمَا، فَكَتَبَا إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَكَانَ ءَانَذَاكَ قَدِ انْتَهَى مِنْ فَتْحِ مَدَائِنَ كِسْرَى وَمُعْظَمِ بِلَادِ فَارِسَ فَارْتَحَلَ بِجُنْدِهِ مِنَ الـمَدَائِنِ حَتَّى عَسْكَرَ بِالكُوْفَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الـمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ لِلْهِجْرَةِ، فَأَمَرَ رَامِيًا فَرَمَى بِسْهِمٍ نَاحِيَةَ الشَّرْقِ، وَءَاخَرَ نَاحِيَةَ الغَرْبِ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَبْنُوْا بُيُوْتَهَمْ مِنْ وَرَاءِ السَّهْمَيْنِ، وَقَسَّمَ النَّوَاحِيَ بَيْنَ العَرَبِ فَكَانَ لِكُلِّ قَوْمٍ نَاحِيَتَهُمْ، وَبَنَى فِي وَسَطِ الـمَدِيْنَةِ الـمَسْجِدَ وَدَارَ الإِمَارَةِ.
وَفَاتُهُ:
تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَصْرِهِ بِالعَقِيْقِ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الـمَدِيْنَةِ الـمُنَوَّرَةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِيْنَ لِلْهِجْرَةِ، وَقِيْلَ سَنَةَ خَمْسِيْنَ، وَقِيْلَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِيْنَ، وَقِيْلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَسَبِعِيْنَ سَنَةً، وَقِيْلَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِيْنَ.
وَرَوَى الذَّهَبِيُّ فِي سِيَرِهِ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ عَقِيْلٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ لَـمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ دَعَا بِجُبَّةِ صُوْفٍ بَالِيَةً فَقَالَ: كَفِّنُوْنِي فِيْهَا، فَإِنِّي لَقِيْتُ الـمُشْرِكِيْنَ فِيْهَا يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنَّمَا خَبَّأْتُهَا لِهَذَا اليَوْمِ.
وَحُمِلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى الـمَدِيْنَةِ وَصَلَّى عَلَيْهِ مَرْوَانُ بْنُ الـحَكَمِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَالِي الـمَدِيْنَةِ. وَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَمُرَّ جِنَازَتُهُ فِي الـمَسْجِدِ، فَأُوْقِفَ عَلَى حُجْرَتِهِنَّ فَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ بَابِ الـجَنَائِزِ وَدُفِنَ فِي البَقِيْعِ.
رَحِمَ اللهُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ صَاحِبَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.