رُؤْيَةُ
الْمُؤْمِنِيْنَ رَبَّهُمْ بِلَا تَشْبِيْهٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ وَلَا جِهَةٍ:
يجبُ
الإيمانُ بالرؤيةِ للهِ تعالى بالعينِ في الآخرةِ بأَنَّها حقٌ وهيَ خاصةٌ
بالمؤمنينَ يرونَه وهمْ في الجنةِ بلا كيفٍ ولا تشبيهٍ ولا جهةٍ، أي أَنَّه تعالى
لا يكونُ في جهةٍ ولا مكانٍ إِنَّما همْ في مكانِهم في الجنةِ يرونَهُ رؤيةً لا
يكونُ عليهمْ فيها اشتباهٌ لا يَشُكُّوْنَ هلِ الذي رَأَوْهُ هوَ اللهُ أمْ غيرُه
كمَا لا يَشُكُّ مبصرُ القمرِ ليلةَ البدرِ ليسَ دونَهُ سحابٌ أَنَّ الذي رءاهُ هوُ
القمرُ، ففي ذلكَ قالَ الرسولُ ﷺ:
((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تَضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ))([1])
أي لا تَتَزَاحَمُونَ في رؤيتِه، وفي روايةٍ ((لا تُضَامُونَ)) ([2])
أي لا يَلْحَقُكُمْ ضررٌ، شَبَّهَ رؤيتَنا
لهُ مِنْ حيثُ عدمُ الشكِّ برؤيةِ القمرِ ليلةَ البدرِ ولمْ يُشَبِّهِ اللهَ تعالى
بالقمرِ كمَا يزعمُ بعضُ الجُهَّالِ فإِنَّهم إذا ذُكِرَ لهم هذا الحديثُ يتوهمونَ
أَنَّ اللهَ يشبهُ القمرَ، وقدْ صَرَّحَ بعضُ العوامِّ بذلكَ الذي لم يتعلمِ
التوحيدَ إذا سمعَ هذا الحديثَ قدْ يعتقدُ أَنَّ اللهَ يشبهُ القمرَ ليلةَ البدرِ([3])
والعياذُ باللهِ.
الدَّلِيْلُ
النَّقْلِيُّ عَلَى الرُّؤْيَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ:
وأمَّا ما يدلُّ
على رؤيةِ اللهِ عزَّ وجلَّ مِنَ النصوصِ الشرعيةِ فكثيرٌ أَذكرُ منهَا:
1)
مِنَ
القرءانِ: قالَ اللهُ تعالى: ﭐﱡ ﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱠ([4]): فأثبتَ لأهلِ
الجنةِ أمرينِ: أحدُهما: نضرةُ الوجوهِ والثاني: النظرُ إلى اللهِ تعالى. وقولُه
تعالى: ﱡﭐﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱕﱠ([5]): قالَ أبو البركاتِ النسفيُّ في تفسيرها: “
﴿ﱅ ﱕ﴾ هيَ
رؤيةُ الربِّ عزَّ وجلَّ كذَا عنْ أبي بكرٍ وحذيفةَ وابنِ عباسٍ وأبي موسى
الأشعريِّ وعبادةَ بنِ الصامتِ رضيَ اللهُ عنهُم، وفي بعضِ التفاسيرِ أجمعَ
المفسرونَ على أَنَّ الزيادةَ النظرُ إلى اللهِ تعالى”([6])اهـ.
وقولُه
تعالى: ﭐﱡﭐﳬ ﳭ ﳮ ﳯ ﳰ ﳱ ﳲﱠ([7]): رويَ عنِ أنسٍ
وجابرٍ ([8])
رضيَ اللهُ عنهما أَنَّ المزيدَ هوَ النظرُ إلى اللهِ تعالى بلا كيفٍ، ورويَ ذلكَ
عنْ عليٍّ وأنسٍ رضيَ اللهُ عنهما وغيرِهما ([9])،
وعلى هذا التأويلِ جرى الخازنُ([10])
والنسفيُّ([11])
والثعلبيُّ([12])
والبغويُّ([13])
وابنُ عطيةَ الأندلسيُّ([14])
وابنُ جزيٍّ الكلبيُّ([15])
والرازيُّ([16])
وأبو حيانَ الأندلسيُّ([17])
في تفاسيرِهِم.
2)
مِنَ
الْحَدِيْثِ: قالَ الحافظُ العسقلانيُّ: “جمعَ
الدارَ قطنيُّ طرقَ الأحاديثِ الواردةَ في رؤيةِ اللهِ تعالى في الآخرةِ فزادتْ
على العشرينَ”، ثُمَّ قالَ: “وأكثرُها جيادٌ، وأسندَ الدارَ قطنيُّ عن
يحيى بنِ معينٍ قالَ: عندي سبعةَ عشرَ حديثًا في الرؤيةِ صحاحٌ” ([18]) اهـ.
ونسوقُ أشهرَ
هذهِ الأحاديثِ وهوَ المرويُّ عندَ كثيرٍ مِنَ الحفاظِ معَ شرحِنا لهُ، وهذا حديثٌ
رواهُ واحدٌ وعشرونَ مِنْ أكابرِ الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهمْ همْ: أبو بكرٍ الصدِّيقُ
وزيدُ بنُ ثابتٍ وابنُ مسعودٍ وابنُ عمرَ وابنُ عباسٍ وأنسٌ وأبو موسى الأشعريُّ
وأبو هريرةَ وأبو سعيدٍ الخدريُّ وعمارُ بنُ ياسرٍ وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ ومعاذُ ابنُ
جبلٍ وحذيفةُ وصهيبٌ وثوبانُ وعمارةُ بنُ رويبةَ وجريرُ بنُ عبدِ اللهِ وعبدُ اللهِ
ابنُ الحارثِ الزبيديُّ وأبو أمامةَ الباهليُّ وبريدةُ الأسلميُّ وأبو برزةَ رضيَ
اللهُ عنهمْ أجمعينَ. وقدْ زادَ بعضُهم سبعةً همْ: أبو رزينٍ العقيليُّ وعبادةُ بنُ
الصامتِ وكعبُ بنُ عجرةَ الأنصاريُّ وفضالةُ بنُ عبيدٍ وأبيُّ بنُ كعبٍ وعبدُ اللهِ
بنُ عمروٍ وعائشةُ رضيَ اللهُ عنهمْ ([19]).
فعنْ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ قالَ: كنَّا
عندَ النبيِّ ﷺ فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً -يَعْنِي البَدْرَ- فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ))
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ((سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ)) أَيْ سَتُبْصِرُونَهُ،
وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: ((عِيَانًا))([20])،
وَفِي شرح الْقَامُوسِ: لَقِيَهُ عِيَانًا أَيْ مُعَايَنَةً لَمْ يَشُكَّ فِي
رُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ اهـ([21])
وَإِنَّكُم تَرَوْنَهُ ((كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ)) أيْ رؤيةً محققةً
لا تَشُكُّونَ فيها، فهوَ تشبيهٌ لحاِل الرائيْ مِنْ حيثُ إِنَّه يرى القمرَ ولا
يشكُّ هلِ الذي رءاهُ القمرُ أم لا، وكذلكَ لا يشكُّ الرائي منهم هلْ رأى اللهَ أم
لا، وليسَ في ذلكَ تشبيهٌ للمرئيِّ الذي هوَ القمرُ باللهِ عزَّ وجلَّ، فتحصلُ لكمُ
الرؤيةُ وأنتمْ ((لا تُضَامُونَ)) بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الميمِ مِنَ الضيمِ([22])
وهوَ الظلمُ([23])،
بمعنى أَنَّكم ترونَهُ جميعُكم لا يظلمُ بعضُكم بعضًا في رؤيتِه بأنْ يراهُ البعضُ
دونَ البعضِ، وفي نسخةٍ: بفتحِ التاءِ وتشديدِ الميمِ ((تَضَامُّوْنَ))([24])
مِنَ التَّضَامِّ بِمَعْنَى التَّزَاحُمِ([25])
وَفِي أُخْرَى بِالضَّمِّ وَالتَّشْدِيدِ ((تُضَامُّوْنَ))([26])
مِنَ المضامةِ وهي المزاحمةُ([27])،
أي لا تتزاحمونَ حالَ النظرِ كمَا يفعلُ في رؤيةِ شىءٍ خفيّ يعني لا يزدحِمُ بعضُكم
بعضًا في رؤيتِه ولا يضمُّ بعضُكم إلى بعضٍ مِنْ ضيقٍ كمَا يجري عندَ رؤيةِ الهلالِ
مثلًا دونَ رؤيةِ القمرِ، وحاصلُ معنى الكلِّ: لا تَشُكُّوْنَ ((فِي رُؤْيَتِهِ))
أَيْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ لَيْسَ مَعَهَا شَّكٌّ كَرُؤْيَتِكُمُ الْقَمَرَ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ لَا تَرْتَابُونَ فِيهِ وَلَا تَمْتَرُونَ هَلْ هُوَ القَمَرُ أَمْ لَا.
3)
مِنَ
الإِجْمَاعِ: قَالَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ
الأَشْعَرِيُّ فِي رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْل ِالثَّغْرِ ([28])
مَا نَصُّهُ: “وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ يَرَوْنَ اللهَ
عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ ([29])
بِأَعْيُنِ وُجُوْهِهِم عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﭐﱡ ﭐ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐﱠ([30]). وَقَدْ
بَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ وَدَفَعَ كُلَّ إِشْكَالٍ فِيْهِ بِقَوْلِهِ
لِلْمُؤْمِنِيْنَ: ((تَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا))، وَقَوْلِهُ: ((تَرَوْنَ
رَبَّكُم يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَا تَضَامُوْنَ فِي
رُؤْيَتِهِ))، فَبَيَّنَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى بِأَعْيُنِ الوُجُوْهِ
وَلَم يُرِدِ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مِثْلُ القَمَرِ النَّبِيُّ ﷺ
شَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَم يُشَبِّهِ اللهَ تَعَالَى بِالقَمَرِ.اهـ
وَقَالَ
الكَلَابَاذِيُّ([31])
مَا نَصُّهُ: “أَجْمَعُوا عَلَى
أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُرَى بِالأَبْصَارِ فِي الْآخِرَة وَأَنَّهُ يَرَاهُ
الْمُؤْمِنُونَ دُوْنَ الْكَافِرِيْنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَرَامَةٌ مِنَ اللهِ
تَعَالَى لِقَوْلِهِ: ﱡﭐﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱕﱠ([32])
([33]).
وقالَ النوويُّ ما نصُّهُ: “اعلمْ أَنَّ مذهبَ أهلِ السنةِ بأجمَعِهِم أَنَّ
رؤيةَ اللهِ تعالى ممكنةٌ غيرُ مستحيلةٍ عقلًا، وأجمعوا أيضًا على وقوعِهَا في
الآخرةِ وأَنَّ المؤمنينَ يرونَ اللهَ تعالى دونَ الكافرينَ” ([34])
اهـ.
فسبحانَ الذي يرانَا ويعلمُ أحوالَنا
ولا تَخْفَى عليهِ خافيةٌ وهوَ سبحانَه الذي لا تُدْرِكُه الأبصارُ ولا تراهُ
العيونُ في الدنيا وهو يدركُ الأبصارَ وهوَ اللطيفُ الخبيرُ.
([28]) ذكر نسبتها للأشعري الحافظ ابن عساكر الدمشقي في تبيين كذب
المفتري فيما نسبة إلى الإمام أبي الحسن الأشعري عندما ذكر مؤلفات أبي الحسن وهذا
نصه: (فمنها رسالة الحث على البحث ورسالة في الإيمان وهل يطلق عليه اسم الخالق
وجواب مسائل كتب بها إلى أهل الثغر في تبيين ما سألوه عنه من مذهب أهل الحق).اهـ
انظر تبيين كذب المفتري ص 136.