الجمعة يوليو 26, 2024

رد ما يُفترى عليه
بأنه احتال على زيد بن حارثة ليأخذ منه زوجته زينب بنت
جحش والعياذ بالله

طعن بعض الكفّار فيه ﷺ بقولهم: إن محمدًا احتال على زيد بن حارثة لـمَّا علقت نفسه بزوجته زينب بنت جحش حتى توصّل لزواجها.

وأول ما يُقال في الجواب عن ذلك: أن معرفة النبي ﷺ بالسيدة زينب لم تكن جديدة لأنها بنت عمته، وأمها أُميمة([1]) بنت عبد المطلب، وقد كان رسول الله ﷺ أراد أن يزوّجها زيد بن حارثة مولاه رضي الله عنه، فكرهت ذلك ثم رضيت بما صنع رسول الله عليه الصلاة والسلام فزوّجها إياه، ثم أعلم الله عزَّ وجلَّ نبيّه صلوات الله وسلامه عليه أنها ستكون من أزواجه في المستقبل، فكان ﷺ يستحي أن يأمره بطلاقها، وتواصل الصدود بين زيد وزينب على ما يجري مع الناس عادة، فأمره رسول الله ﷺ أن يُمسك عليه زوجه وأن يتقي الله، وكان يخشى الناسَ أن يعيبوا عليه ويقولوا: تزوّج امرأة ابنه، وكان قد تبنّى زيدًا قبل أن ينـزل حكم تحريم التبنّي، فكان مما قاله زيد: يا رسول الله، إن زينب اشتدّ عليَّ لسانها، وأنا أريد أن أطلّقها، فقال له: «اتق الله، وأمسك عليك زوجك»([2])، ومعنى قول الله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] كما قال ابن حجر: «أن الذي كان يخفيه النبيّ ﷺ هو إخبار الله إياه (إعلام الله له) أنها ستصير زوجته»([3]).اهـ. أي: بوحي غير قرآن([4])، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوّج امرأة ابنه، وأراد الله إبطالَ ما كان عليه الناس قبل البعثة من أحكام التبنّي بأمر لا أبلغَ في الإبطال منه، وهو تزوّج امرأة الذي يُدعى ابنًا له، ثم لَـمَّا أنزل الله في ذلك قوله: {فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَأ} [الأحزاب: 37] أظهر ذلك فتلاه على الناس قرآنًـا.

وقد أجاد الإمام أبو حيان الأندلس في بيان هذه الحادثة في تفسيره مفصّلًا فقال: «قول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] {وَإِذْ تَقُولُ} الخطاب للرسول ﷺ، {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بالإسلام، وهو أجلّ النعم وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام تبناه، {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} وهو عتقُه، {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وهي زينب بنت جحش، وتقدم أنَّ الرسول ﷺ قد خطبها له. وقيل: أنعم الله عليه بصحبتك ومودتك، وأنعمتَ عليه بتبنيّه. فجاء زيد فقال: يا رسول الله إن أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: «أرابك منها شيء؟» قال: لا والله، ولكنها تعظم عليَّ لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ»، أي: لا تطلقها، وهو أمر ندب، «وَاتَّقِ الله في معاشرتها» فطلَّقها، وتزوجها رسول الله ﷺ بعد انقضاء عدّتها. وعلَّل تزويجه إياها بقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} في أن يتزوّجوا زوجات من كانوا يتبنّوهم إذا فارقوهن، وأن هؤلاء الزوجات لسن داخلات في ما حرّم في قوله سبحانه: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23]. وقال عليّ بن الحسين رضي الله عنه: كان قد أوحى الله إليه أن زيدًا سيطلّقها، وأنه يتزوّجها بتزويج الله إياها، فلمَّا شكا زيدٌ خُلَقَها وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها، قال له: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ الله» على طريق الأدب والوصية، وهو يعلم أنه سيطلقها، وهذا هو الذي أَخْفَى في نفسه ولم يرد أنه يأمره بالطلاق. ولـمَّا علم منه أنه سيطلقها، وخشي رسول الله ﷺ أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر في شيء قد أباحه الله بأن قال: {أَمْسِكْ} مع علمه أنه يطلق، فأعلمه أن الله أحق بالخشية، أي: في كل حال. وهذا المرويّ عن عليّ بن الحسين هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين كالزُّهريّ وبكر بن العلاء والقشيريّ والقاضي أبي بكر بن العربيّ وغيرهم. والمراد بقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} إنما هو إرجاف المنافقين في تزويج نساء الأبناء، والنبيُّ ﷺ معصوم في حركاته وسكناته. ولبعض المفسرين كلام في الآية يقتضي النقص من منصب النبوة ضربنا عنه صفحًا. وقوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38] يقول أبو حيان في تفسيره: «ولـمَّـا نفى الحرج عن المؤمنين في ما ذكر، واندرج الرسول ﷺ فيهم إذ هو سيد المؤمنين، نفى عنه الحرج بخصوصه، وذلك على سبيل التكريم والتشريف، ونفى الحرج عنه مرتين، إحداهما بالاندراج في العموم والأخرى بالخصوص. {فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} قال الحسن: في ما خص به من صحة النكاح بلا صداق. وقال قتادة: في ما أحل له. وقال الضحاك: في الزيادة على الأربع، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج، فردَّ اللهُ عليهم بقوله: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 62]: أي في الأنبياء بكثرة النساء، حتى كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية، وكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية([5])». انتهى كلام أبي حيان الأندلسيّ.

والخلاصة: أن زينب بنت جحش رضي الله عنها ابنة عمة رسول الله ﷺ، وكان يعرفها منذ صغرها، فما كان رسول الله ﷺ ليحتال حيلة يفرق بها بينها وبين زيد بن حارثة حتى يتزوجها هو، فلو كان يريدها لنفسه لتزوجها ابتداء ولم يأمر زيدًا بالزواج بها. وفي أمر زواج النبي ﷺ لها حكمة تأكيد تحريم التبني في الإسلام بأوضح طريق وأدلّ صورة.

 

 

[1])) أميمة بنت عبد المطلب كانت عند جحش بن رئاب، ولدت له عبدَ الله بن جحش قتل يوم أُحد ومثَّل به المشركون، وأبا أحمد الأعمى الشاعر واسمه عبد، وزينبَ زوج النبي ﷺ، وأمَّ حبيبة وحمنة، كلهم له صحبة، وعبيد الله بن جحش، أسلم ثم ارتدّ ومات بالحبشة كافرًا. نسب قريش، المصعب الزبيري، (1/91). نهاية الأرب في فنون العرب، النويريّ، (18/148).

[2])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب التوحيد، باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، (9/152).

[3])) فتح الباري، ابن حجر، (8/524).

[4])) وذلك أنه كان يبلّغ ما أُنزِلَ من القرآن فورًا، أما هذا فلم يؤمر ﷺ بتبليغه.

[5])) البحر المحيط، أبو حيان، (7/226).