الخميس نوفمبر 7, 2024

رد العلماء المعتبرين هذه الرواية المنكرة المختلفة
على نبي الله داود
من وجوه

أولًا من القرآن الكريم: قال الله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 17 – 20]. فالله تعالى أمر نبيَّه محمدًا ﷺ بأن يقتديَ بداود في المصابرة مع المكابدة، ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس؛ بل سعى في إراقة دم امرئ مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدًا أفضل الرسل بأن يقتديَ بداود في الصبر على طاعة الله.

ثانيًا في الحكم على الحديث: وأما من حيث الحكم على الحديث ففي سند هذه الرواية المختلقة على رسول الله ﷺ يزيد بن أبان الرقاشيّ، وكان ضعيفًا في الحديث([1])، يروي مناكير، كما بيّن ذلك أهل الجرح والتعديل كالإمام أحمد بن حنبل والنسائي. ومن ثَمَّ يتبيّن لنا كذب رفع هذه الرواية المنكرة إلى رسول الله ﷺ.

ثالثًا من حيث المعنى: أما من حيث المعنى فلا يُصدَّق ورود هذا عن المعصومين أنبياء الله تعالى، وإنما هي اختلافات وأكاذيب من الإسرائيليات، وهل يشكّ مؤمن عاقل يقرّ بعصمة الأنبياء في استحالة صدور هذا عن داود عليه السلام، ومثل هذا التدبير السيّئ والاسترسال فيه على ما رَوَوْا لو صدر من رجل من سوقة الناس وعامّتهم لاعتُبِرَ أمرًا مستهجَنًا مستقبَحًا، فكيف يصدر من نبيّ جاء لهداية الناس زكت نفسه، وطهرت سريرته، وعصمه الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وهو الأسوة الحسنة لمن أُرْسِلَ إليهم.

ولكي يموّهوا عندهم هذا الباطل قالوا: إن المراد بالنعجة المرأة، وأن القصة خرجت مخرج الرمز والإشارة، وروَوْا أن الملَكَيْنِ لـمَّا سمِعا حكم داود وقضاءَهُ بظلم صاحب التسع والتسعين نعجة لصاحب النعجة، قالا له: وما جزاء مَن فعل ذلك؟ فقال – بزعمهم -: يقطع هذا، وأشار إلى عنقه، وفي رواية: «يُضْرَب من ههنا، وههنا وههنا»، وأشار إلى جبهته وأنفه وما تحته، فضحكا، وقالا: «أنت أحقّ بذلك منه» ثم صعدا»([2]).

والحق: أن الآيات ليس فيها شيء مما ذكروا، وليس هذا في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وهي التي عليها المعوَّل، وليس هناك ما يصرف لفظ النعجة عن حقيقته إلى مجازه، ولا ما يصرف القصة عن ظاهرها إلى الرمز والإشارة.

رابعًا أقوال العلماء: قال ابن العربيّ: «وأما قولهم إنها لـمَّا أعجبته أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله فهذا باطل قطعًا، لأنَّ داود ﷺ لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه، وليس في القرآن أن ذلك كان، ولا أنه تزوجها بعد زوال عصمة الرجل عنها، ولا ولادتها لسليمان، فعمّن يروى هذا ويسند، وعلى مَنْ في نقله يعتمد، وليس يؤثِرُه عن الثقات الأثبات أحد»([3]).اهـ.

وقال أبو حيان في تفسيره: «وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحًا»([4]).اهـ. وقال أيضًا: «والذي يذهب إليه ما دلّ عليه ظاهر الآية من أن المتسوّرين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل، وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظانًّا أنهم يغتالونه، إذ كان منفردًا في محرابه لعبادة ربه. فلمَّا اتضح له أنهم جاؤوا في حُكومة([5]) وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى، وأن داود عليه السلام ظنّ دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة إنقاذًا من الله له أن يغتالوه، فلم يقع ما كان ظنه، فاستغفر من ذلك الظن، حيث أخلف ولم يكن يقع مظنونه، وخرَّ ساجدًا، أو رجع إلى الله تعالى فغفر له ذلك الظن، ولذلك أشار بقوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25]، ولم يتقدّم سوى قوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] ويُعلم قطعًا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا الدنيئة، ولا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة أن لو جوّزنا عليهم شيئًا من ذلك بطلت الشرائع ولم نثق بشيء مما يذكرون أنه أوحى الله به إليهم، فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده تعالى، وما حكى القصّاص مما فيه غضّ عن منصب النبوة طرحناه»([6]).اهـ. وقال ابن الجوزيّ في تفسيره بعد ذكر هذه القصة المكذوبة عن سيدنا داود: «وهذا لا يصحّ من طريق النقل ولا يجوز من حيث المعنى، لأن الأنبياء منزَّهون عنه»([7]).اهـ.

وما أحسن قولَ القاضي عياض: «لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدّلوا وغيّروا، ونقله بعض المفسرين، ولم ينصَّ الله تعالى على شيء من ذلك في كتابه، ولا ورد في حديث صحيح، والذي نصَّ عليه في قصة سيدنا داود عليه السلام: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} وليس في قصة «داود» و«أوريا» خبر ثابت»([8]).اهـ. والمحقّقون المعتبرون ذهبوا إلى ما قرّره القاضي.

فلا ينبغي اعتقاد ما ينافي عقيدة المسلمين في أن الأنبياء معصومون عن الأعمال التي فيها دناءة.

وفي ما يلي التفسير الصحيح للآيات والبيان الجليُّ لما وقع في تلك الحادثة:

كان داود عليه السلام قد وزّع مهامّ أعماله ومسؤولياته تُجاه نفسه وتُجاه الرعية على الأيام، وخصَّ كل يوم بعمل، فجعل يومًا للعبادة، ويومًا للقضاء وفصل الخصومات، ويومًا للاشتغال بشؤون نفسه وأهله، ويومًا لوعظ بني إسرائيل وهكذا.

ففي يوم العبادة، وبينما كان مشتغلًا بعبادة ربه في محرابه، إذ دخل عليه خصمان تسوّرا عليه من السور، ولم يدخلا من المدخل المعتاد، وبيَّنا له أنهما خصمان جاءا يحتكمان إليه. فقال أحدهما: إنّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فأراد أن يضمَّ نعجتي إلى نعاجه فقال له داود: لقد ظلمك بسؤال نعجتك، قال له ذلك قبل أن يستمع إلى قول الآخر، والقاضي لا يحكم بين الخصمين قبل الاستماع إليهما، فمن هذا الأمر تاب داود عليه السلام، فلمَّا قضى بينهما استغفر ربَّهُ، وخرَّ ساجدًا لله تعالى، تحقيقًا لصدق توبته والإخلاص له، وأناب إلى الله غاية الإنابة.

فالخصمان رجلان حقيقة، وليسا مَلَكَيْنِ كما زعموا، والنعاج على حقيقتها، وممن ذكر من العلماء أن النعاج نعاج حقيقية: أبو الليث السمرقنديّ([9]) في تفسيره([10]) وأبو عبد الله الحليميّ([11]) كما في البحر المحيط([12])، وليس ثمّة رموز ولا إشارات، وهذا التأويل هو الذي يوافق القرآن الكريم ويتفق وعصمة الأنبياء عليهم السلام، فالواجب الأخذ به، ونبذ الخرافات والأباطيل التي هي من صنع غلاة بني إسرائيل، التي تلقّفها القصّاصون وأمثالهم ممن لا علم عندهم ولا تمييز بين الغثّ والسمين.

وفي قصة داود عليه السلام يتأكّد الانتباه أكثر وأكثر مِن أين تؤخذ القصص المعتمدة الخالية من الدسائس التي تشوّش عقول الناس.

[1])) قال أحمد بن حنبل: «منكر الحديث، وكان شعبة يحمل عليه».اهـ. الجرح والتعديل، ابن أبي حاتم، (9/251). قال النسائيّ: «الرقاشيّ متروك».اهـ. الضعفاء والمتروكين، النسائيّ، (1/251). قال النسائيّ: «الرقاشيّ متروك».اهـ. الضعفاء والمتروكين، النسائيّ، (1/251). قال أحمد: «كان يزيد منكر الحديث».اهـ. ميزان الاعتدال في نقد الرجال، الذهبيّ، (4/418). قال أحمد: «لا يُكتب حديث يزيد».اهـ. تقريب التهذيب، ابن حجر، (2/320).

[2])) تفسير الطبريّ، الطبري، (21/181).

[3])) أحكام القرآن، ابن العربيّ، (7/19).

[4])) البحر المحيط، أبو حيان، (9/146).

[5])) يقال: حكم عليه بالأمر يحكم حكمًا وحكومة إذا قضى وحكم بينهم، قال الأصمعي: وأصل الحكومة رد الرجل عن الظلم، وإنما سُمّي الحاكم بين الناس حاكمًا لأنه يمنع الظالم من الظلم. تاج العروس، الزبيدي، مادة: (ح ك م)، (31/510).

[6])) البحر المحيط، أبو حيان، (9/151).

[7])) زاد المسير في علم التفسير، ابن الجوزيّ، (5/233).

[8])) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض، 02/158).

[9])) نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو الليث السمرقنديّ (ت373هـ)، له: (تفسير القرآن)، وكتاب (النوازل) في الفقه، و(خزانة الأكمل)، و(تنبيه الغافلين)، و(بستان العارفين). تاج التراجم، قطلوبغا، (1/310). سير أعلام النبلاء، الذهبيّ، (16/322).

[10])) تفسير السمرقنديّ المسمّى بحر العلوم، أبو الليث السمرقنديّ، (3/133).

[11])) القاضي أبو عبد الله الحليميّ الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاريّ الفقيه الشافعيّ (ت403هـ)، صاحب التصانيف، أخذ عن أبي القفال الشاشيّ، وكان أوحد الشافعيين بما وراء النهر وأنظرهم وآدبهم بعد أستاذَيْهِ أبي بكر القفال والأُوْدَنّيّ، وكان مفنّنًا فاضلًا له مصنّفات مفيدة نقل منها الحافظ أبو بكر البيهقيّ كثيرًا. شذرات الذهب، ابن العماد، (3/167).

[12])) البحر المحيط، أبو حيان، (15/178).