قال المؤلف رحمه الله: [ورؤية الله تعالى جَائزَةٌ في العقلِ].
(الشرحُ): أنَّ العقل إذا خُلِّيَ ونفسَهُ لم يحكم بامتناعِ رؤيتِهِ تعالى بل يحكُمُ بجوازِ ذلكَ وهذا معنى قوله: [جائزة في العقلِ] وقد حكمَ الشرعُ بحصولِها فهِيَ ثابتةٌ نقلًا وهِيَ أيِ الرؤيةُ غيرُ العلمِ أي أن رؤية العباد لربهم في الآخرة ليس المرادُ منها العلمَ بوجود الله تعالى بل هِيَ أمر زائد على العلم به.
قال أهل الحق علةُ صحة الرؤية عقلًا الوجودُ فالبارئُ موجودٌ فيصح عقلًا أن يُرَى، وكذا يصح عقلًا أن نَرى سائر الموجودات مِن الأصوات والطعوم والروائح وغير ذلك وإنما لا نراها بالأبصار لأنَّ الله تعالى لم يُجْرِ عادتَه في خلقه بأن يَرَوْا ذلك ولو شاء لنا أن نراها لرأيناها كما نرى الأجسام.
واللهُ تعالى يُرى بلا مسافةٍ لأنه ليس من لازم الرؤية المسافةُ، ولم يُدرِكِ المعتزلةُ ذلكَ فقالوا تحكُّمًا إنَّ الشَّيْءَ لا يُرى إلا مع مسافةٍ بينه وبين الرائِي ولا يُرَى إلا في جهةٍ منه قالوا وبما أنَّ الله موجودٌ بلا مكانٍ ولا مسافةَ بينه وبين الخلقِ فإنه لا يُرَى فجعلوا رؤيتَهُ تعالى مستحيلةً وقد ضلُّوا في ذلك.
وأما الدليل على جوازِ الرؤيةِ مِن حيث النقلُ والسمعُ فقولُ سيدنا موسى عليه السلام وقد سأل ربَّهُ أنْ يراهُ بقوله: {رَبِّ أَرِنِّي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فلو كانت رؤيته تعالى مستحيلة عقلًا لكان طلب موسى لذلك جهلًا بما يجوز في حق الله وما لا يجوز أو سَفَهًا وعَبَثًا وطلبًا للمحال والأنبياءُ منزهون عن ذلك. وقد علَّقَ اللهُ تعالى الرؤيةَ باستقرارِ الجبل وهو أمر ممكنٌ في نفسه عقلًا والمعلَّق بالممكن ممكنٌ لأن معناه الإخبارُ بثبوت المعلَّق عند ثبوت المعلَّق به، والمحال لا يثبت على شيْءٍ مِن التقادير الممكنة. فيلزمُ المعتزلةَ من نفيهم جواز رؤية الله تعالى أن يكون موسى إما جاهلًا بما يجوز على الله وما أن يكونَ يعلم ذلك وإنما من باب السَّفَهِ طلبَ من الله كلا الأمرين مستحيلٌ على من نبَّأه الله تعالى وأكرمه بالنبوة، بل الأنبياء هم أولى بأن يعرفوا ما يجوز على اللهِ وما لا يجوز عليه تعالى فكيف أنكروا صحةَ الرؤيةِ عقلًا وقد سأل موسى ربَّهُ ذلك بنص القرءان.
قال المؤلف رحمه الله: [واجبةٌ بالنقلِ وقد وردَ الدليلُ السَّمعي بإيجابِ رؤيةِ المؤمنينَ لله تعالى فِي دارِ الآخرةِ فيرى لا في مكان ولا على جهة ومقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائِي وبين الله تعالى].
(الشرحُ): أنَّ رؤية الله تعالى واجبةٌ بالنقل أيْ لا بد منها على مقتضى النصِّ الشرعيِّ لورود الدليل السمعيِّ بإيجاب رؤية المؤمنين لله تعالى في الدار الآخرة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وأما السُّنَّةُ فقولُهُ عليه السلام إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر اهـ. أي رؤيةً لا يعترِي المؤمنين فيها شكٌّ في أنَّ الذي رَأَوْهُ هو الله. وهذا الحديث مشهورٌ يُحتج به في الاعتقاد.
ولأهل الحق دليلُ الإجماعِ أيضًا لأنَّ الأمة كانوا مُجمِعين على وقوع الرؤية في الآخرة وانَّ الآيات الواردةَ في ذلك محمولة على ظواهرها قبلَ أنْ يُظْهِرَ المعتزلةُ الخلافَ في ذلك.
(فائدة): قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيهٍ ولا كيفيةٍ ولا كميَّةٍ ولا يكون بينه وبين خلقه مسافةٌ اهـ. وقال في كتابه الوصية ولقاءُ اللهِ تعالى لأهل الجنة بلا كيفٍ ولا تشبيهٍ ولا جهةٍ حقٌّ اهـ.