الجمعة يوليو 26, 2024

حكم تعدد الجمعة فِي البلد الواحد

قال الفقيه المحدث الأصوليّ الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله ربّ العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن والصلاة والسلام على سيدنا محمد r وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أمَّا بعدُ: فإن رسول الله r قال: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تُضَيّعُوها وَحَدَّ حدودًا فلا تَعْتَدُوها وحرَّم أشياء فلا تنتهكوها»([i]).اهـ. والفرائض هِيَ قسمان فرائضُ معلومة من الدين ظاهرة بين المسلمين بين العلماء وبين غيرهم وفرائض تَخفَى على كثير من المسلمين وليست ظاهرة بين المسلمين كظهور القسم الأول.

فمن القسم الأول الصلوات الخمس فلم يفرض الله تبارك وتعالى على عباده غيرَ الخمس وأما هذه الصلاة التِي تُعاد يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة ظهرًا، أي: بنية الظهر فهي للخروج من الشك؛ لأن الله تبارك وتعالى لم يفرض فِي اليوم والليلة على الأمة المحمدية إلا خمسَ صلوات وفرض يوم الجمعة مكان الظهر لكنه لما لم تكن فِي زمن الرسول r ولا فِي زمن الخلفاء الراشدين إلى مائتين وثمانين عامًا فِي بلدة واحدة إلا جمعة واحدة رأى بعض الأئمة المجتهدين أنّ تعديد الجمعة فِي بلد واحد لا يصح وإذا تعددت الجمعة فِي بلد واحد قالوا: إن سبقت واحدة بالتكبير، أي: كبرت قبل غيرها صحت هذه الجمعة ولم يصح ما سواها فِي تلك البلدة ولما لم تكن السابقةُ معلومةً؛ بل اشتبه الأمر والتبس نعيد الجمعة ظهرًا خروجًا من الشك؛ لأننا لسنا على يقين بأن هذه الجمعة هي الصحيحة لإقامة عدة جمع فِي بيروت، ومثلُها كل بلد تتعدد فيه الجمعة. لما لم يَرَ الإمام الشافعيُّ t فِي مسجد الرسول r لا فِي ما يليه أن الجمعة تعددت فِي بلد واحد وكان الإمام الشافعي t توفِي سنة مائتين وأربع من الهجرة النبوية قال t لا تقام جمعتان فِي مصر واحد، أي: فِي مدينة واحدة وإن كبر البلد، قال ذلك اعتمادًا على ما كان عليه الأمر فِي أيام الرسول r وفي أيام الخلفاء الراشدين وما بعد ذلك إلى عصره، لم يرَ تعدد الجمعة فِي بلد واحدٍ صحيحًا فعلى نصه t هذه الجمعة المتعددة لا تصح إن لم تُعلم السابقة لا تصح منها واحدةٌ؛ بل كلها غير صحيحة، ثم بعض أصحاب الشافعيّ t قالوا: إن الإمام الشافعي t إنما يعني بقوله بعدم صحة تعدد الجمعة فِي بلد واحد وإن كبر البلد ما لم يشقَّ الاجتماع فِي بلد واحد أما إذا شق الاجتماع فِي موضع واحد فلا يرى تعدد الجمعة ممنوعًا؛ بل يرى ذلك صحيحًا وقال بعضهم من أجل هذا إعادة الجمعة فِي بلد تعددت فيه الجمعة مستحبةٌ سنةٌ وقال بعض أتباعه الإمامُ الشافعي يعني الإطلاق يعني لا تصح جمعتان فِي بلد واحد لو كان يشق الاجتماع فِي موضع واحد قالوا هذا مراد الشافعي t فعند هؤلاء إذا صليت جمعٌ متعددة فِي بلد واحد ولم تعلم السابقة فالإعادة فرض، إعادة تلك الجمعة ظهرًا فرض عند هؤلاء، وأما عند القسم الأول من أتباع الشافعي الذين قالوا: إذا تعددت الجمعة فِي بلد واحد لأجل مشقة الاجتماع فِي موضع واحد صحت كلها فالإعادة، أي: إعادة الجمعة ظهرًا عندهم مستحبة ليست فرضًا، على ما ذهبوا إليه يجوز للمصلي أن يعيدها ظهرًا وأن لا يعيدها لكنه تستحب الإعادة عندهم وعند الآخرين تجب الإعادة ظهرًا، هذا معنى إعادة الجمعة ظهرًا ليس معناه إيجابَ فرض سادس فِي يوم واحد لا يقصدون هذا لأن مَن تعمد إيجابَ فرض سادس فإن ذلك تكذيبٌ للشرع؛ لأنه ثبت فِي الحديث أن رجلًا أعرابيًّا، أي: بدويًّا جاء إلى رسول الله r وسأله قال: أخبرني بما افترض الله عليَّ من الصلاة قال r: «خمسُ صلوات» قال: هل عليَّ غيرها، قال: «لا إلا أن تطَّوع»، ثم سأله عما افترض الله عليه من الصيام والزكاة فعلّمه شرائع الإسلام فعلمه كل ما افترض الله على الأمة المحمدية، فقام الرجل وانصرف قائلًا: والذي أكرمك بالنبوة لا أتطوع ولا أنقص مما افترض اللهُ عَلَيَّ شيئًا فقال رسول الله r: «دخل الجنة إن صدق»([ii]).اهـ.، وفِي روايةٍ: «أفلح الرجل إن صدق»([iii]).اهـ. هذا الرجل لما حلف أمام الرسول r أنه لا يتطوع، أي: لا يصلِّي سُنَّةً ولا يصوم سُنَّةً ولا يفعل فِي ماله غير الذي افترض الله عليه من التطوع شيئًا، أي: لا يدفع من ماله غيرَ ما افترض الله عليه ما قال الرسولُ r له كيف تحلف هذا الحلِف أنك لا تعمل سُنَّةً؛ بل قال عليه الصلاة والسلام: «دخل الجنّة إن صدق».اهـ. من هذا الحديث الصحيح باتفاق علماء الحديث الذي رواه البخاريُّ فِي الصحيح وغيره من المحدّثين فِي كتبهم علمنا أنه لا يُفترض على أحد منا صلاة غير هؤلاء الخمس، فليُعلم أن ما خالف هذا فهو كذب على رسول الله r كما يقول بعض الناس إن الذي لا يُصلِّي السُّنَّة يأتي يوم القيامة إلى النبيّ r وليس على وجهه قطعة لحم، أي: من شدة الخجل هذا كذب ليس له أصل، وكذلك ما يقول بعض الناس مَن لم يصلّ سُنَّتِي فليس من أمتِي هذا أيضًا من جملة الكذب على رسول الله r وكذلك قول بعض الجهلة عن النبيّ r أنه قال من لم يصلّ سُنَّتِي لم تنله شفاعتِي، كل هذه الأقوال الثلاثة خلاف الشرع ليس لها أصل فحذّروا منها وعلموا الناس أن هذا الكلامَ فاسدٌ لا يُرضِي الله ورسوله إنما الذي على المكلف أداء الصلوات الخمس بأركانها وشروطها مع الإخلاص لله تعالى. وهكذا كل أعمال الدين يشترط أداؤها على الوجه الصحيح والصيام والحج والزكاة وغير ذلك إن لم تُفعل على الوجه الموافق لما جاء عن رسول الله r من الأركان والشروط فذلك العمل فاسد مردود على صاحبه فيجب على المكلف الذي يريد النجاة فِي الآخرة أن يتعلم كيف تكون صلاته صحيحة وصيامه صحيحًا وكيف تكون زكاته صحيحة وكيف يكون حجه صحيحًا لأنه إن لم يتعلم قد يؤديها على وجه فاسد ثم هو يظن أنه أداها على الوجه الصحيح وأنها تكون له ذخرًا فِي الآخرة وهيهات هيهات أن يكون ما يعمله من صلاة أو صيام أو حج أو زكاة على خلاف تعاليم رسول الله r صحيحًا يؤجر عليه يوم القيامة فعليكم بمعرفة ما تصح به الصلاة والصيام والحج والزكاة حتى توافوها يوم القيامة على الوجه الصحيح فتؤجروا عليها ما وعد الله عليها عباده المؤمنين، فإن مَن لم يطبق ذلك على الوجه الصحيح بإخلاص النية وصحة العقيدة وإتمام الركوع وإتمام الأركان والشروط، فإنه لا يجد لذلك العمل فِي الآخرة ثوابًا لذلك قال رسول الله r: «رُبَّ قائم ليس له مِن قيامه إلا التعبُ ورُبَّ صائمٍ ليس له مِن صيامه إلى الجوعُ والعطشُ»([iv]).اهـ.

هذا سببه أن بعضَ الناس يكونون على غير عقيدة الإسلام فِي باطن الأمر فِي نفس الأمر عند الله فلا تقبل لهم أعمالهم، وبعضَ الناس يكونون مرائين والمرائي فِي عمل الآخرة ليس له ثواب بالمرة، وإما أن يكونوا فعلوا تلك العبادات على غير شروطها وأركانها، أي: من غير الإتيان بشروطها وأركانها لذلك يكونون لم يستفيدوا من قيامهم، أي: من صلاتهم بالليل والناسُ نيام، القيام هو صلاة الليل، قيامهم ذلك لا ينفعهم عند الله فِي الآخرة إنما سهروا فِي الدنيا، من أجل ذلك القيام منعوا أنفسهم حِصَّةً من النوم أما الأجر فلا أجر، كذلك أولئك الذين صاموا على غير تطبيق لصيامهم على الشرع إنما استفادوا من ذلك أنهم أجاعوا أنفسهم، هذا كان نتيجة أعمالهم السهر بقيامهم بالليل والناس نيام وأنهم جاعوا وعطشوا بصيامهم بمنع أنفسهم من الطعام والشراب، هذا جزاؤهم ليس لهم فِي الآخرة شيء، كذلك الحج كثير من الناس لا يكون حجهم مطابقًا موافقًا لشريعة الله هؤلاء ليس لهم من حجهم شيء من الثواب إنما نتيجة حجهم أنهم قاسَوا المشقات أنهم كابدوا المشقات وأنهم صرفوا أموالهم وأنهم فارقوا أهاليَهم وأوطانهم هذا نتيجة حجهم أما الثوابُ فلا ثواب لهم.

فإذا رأيتم إنسانًا يعترض على إعادة الجمعة ظهرًا فِي بلدة من البلاد التي تقام فيها جمعتان فأكثر فيقول: هل من فرض سادس فِي اليوم يقال له: هذا ليس معناه أنهم زادوا فرضًا سادسًا إنما معناه الخروج من الشك؛ لأن هذه الجمعة لم تصح عند بعض الأئمة؛ لأنه لم يكن فِي زمن الرسول r إلى مائتين وثمانين عامًا جمعتان فِي بلد واحد، كانوا يتحملون المشقات للحضور لأداء الجمعة فِي مكان واحد كانوا يجتمعون فِي المدينة وفي مكة وفي بغداد مع أن بغداد كانت أيام العباسيين وصلت فِي كثرة السكان إلى حد أنه كان فيها خمسة وعشرون ألف مسجد ذكر ذلك الحافظ الخطيب البغدادي فِي تاريخ بغداد إنما حدث تعدد الجُمَع فِي البلد أيام الخليفة العباسي المعتضد بالله رحمه الله. سبب تعدد الجمعة فِي ذلك الوقت أن الخليفة خاف على نفسه من الاغتيال من أن يعترض له بالاغتيال إن صلى فِي المسجد القديم الذي كان تقام الجمعة فيه فقط فأحدث جمعة ثانية فِي دار الخلافة.

أيام الرسول r ما كانت تقام فِي المدينة جمعتان مع أن الصلوات الخمس كانت فِي مسجده r وفي ثمانية مساجد أخرى فِي المدينة أما يومَ الجمعة كانوا يَنْزَوُونَ إلى مسجد الرسول r ما كانوا يصلون فِي مسجد من هذه المساجد الثمانية الجمعة وكذلك فِي مكة كانوا ينزوون إلى المسجد الحرام وكانت بها مساجد عديدة كذلك فِي بغداد كان فيها أضعاف أضعاف أضعاف ذلك من عدد المساجد ما كانوا يصلون إلا فِي موضع واحد إلى هذا التاريخ، أي: مائتين وثمانين عامًا مع العلم بأن المدينة حرُّها حر وبردها برد كذلك مكة حرها معروف مع ذلك قبل هذا التاريخ ما كانوا يقيمون جمعتين فِي مكة ولا فِي المدينة من استطاع أن يحضر إلى هذا المكان الواحد حضر ومن لم يستطع فهو معذور يصلّي ظُهره فِي بيته، ثم بعد ذلك بعض الأئمة أئمة الاجتهاد قالوا: إن كان يشق الاجتماع فِي مكان واحد جاز أن تُعَدَّدَ الجمعة فِي بلدة واحدة بقدر الحاجة لا أزيد إن كانت المشقة ترتفع بمكانين لا يجوز إحداث جمعة ثالثة بمكان ثالث وإن كانت المشقة تزول بثلاث جُمَعٍ لا يجوز إحداث جمعة رابعة وإن كانت المشقة تزول بخمس جُمَعٍ لا يجوز لأهل تلك البلدة إحداثُ جمعة سادسة ولْيُقَسْ على هذا. انتهَىَ.

والله سبحانه وتعالى أعلم.

[i])) رواه الدارقطني فِي سننه، باب: الخراج بالضمان والحاكم فِي المستدرك وله شواهد عدة وقد حسَّنه الحافظ أبو بكر بن السّمعانيّ فِي أماليّه والحافظ النوويّ فِي الأربعين.

[ii])) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام.

[iii])) رواه مالك فِي الموطأ، باب: جامع الترغيب فِي الصلاة.

[iv])) رواه أحمد فِي مسند أبي هريرة من مسنده وابنُ حبّان فِي باب ذكر الزجر عن أن يخرق المرء صومه بما ليس لله فيه طاعة. وغيرهما.