فبالإسنادِ إلى الإمام النسفيِّ رحمه الله قال: [قال أهلُ الحقِّ حَقَائِقُ الأشياءِ ثَابتَةٌ].
(الشرحُ): المراد بقوله: [أهل الحق] أهل السُّنَّة والجماعة، وأهل السُّنَّة معناه التابعون لسُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة أي الذين اتبعوا جماعة المسلمين أي اتبعوا ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ.
وفيه إشعارٌ بأنهم أكثر المنتسبين للإسلام وذلك لأن الأمة ما تزال على تلك العقيدة وإن أصاب ءَاخِرَهُمْ ما أصابه من التقصير في العمل بالأحكام الشرعية كما يدلُّ على ذلك ما رواه مسلم وإنَّ أُمَّتَكُمْ هذه جُعِلَ عافيتُها في أولها وسيصيبُ ءاخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها اهـ. وشاهد الوجود يدل على أن أكثر المنتسبين إلى الإسلام يعتقدون بالخلفاء الأربعة أنَّ كُلًّا كان خليفةً حقًّا لوقته، ويُفرِدونَ اللهَ تعالى بالتخليقِ إي إخراج المعدوم إلى الوجود، ولا يُشَبّهون الله بخلقه، ويثبتون الشفاعة، ولا يُوجِبون الخلود في النار لأهل الكبائر الذين ماتوا بغير توبة، ويُثبتون عذاب القبر، ويصححون رؤية الله في الآخرة للمؤمنين، على هذا الاعتقادِ خواصُّهم وعوامُّهم بخلاف الفرق الأخرى المنتسبة إلى الإسلام.
ومعنى [الحق] الحكمُ المطابق للواقع ومقابِلُ الحقِّ الباطلُ فأهلُ السُّنَّةِ هم المتمسكونَ بالحقِّ.
والحقائقُ في قوله [حقائق الأشياء ثابتةٌ] جمعُ حقيقةٍ، وحقيقةُ الشَّيءِ ما به الشَّيءُ هُوَ هُوَ. والشيْءُ هو الثابت الوجود. والتحقُّقُ والوجودُ والكَوْنُ ألفاظٌ مترادفةٌ. قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر [وهو] يعني اللهَ [شَيْءٌ لا كالأشياء ومعنَى الشَّيْءِ الثابتُ بلا جسم ولا جهر ولا عرض ولا حدَّ له ولا ضدَّ له ولا نِدَّ له ولا مثلَ له] اهـ.
والمعنَى أنَّ ما نعتقدُه حقائقَ الأشياء ونُسَمِّيهِ بالأسماء من الإنسان والفرس والسماء والأرض وغير ذلك أمورٌ موجودةٌ في نفس الأمر ليس تخيُّلًا كما يقول السُّوفسطائية بل هِيَ حقيقةٌ موجودةٌ يشهدُ بذلك الحسُّ وأثبتها الشرع كما قال تعالى في سورة الفاتحة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فإنه أثبت وجوده ووجود غيره من مخلوقاته.
قال المؤلف رحمه الله: [والعلمُ بها مُتَحَقِّقٌ خلافًا للسوفسطَائِيَّةِ].
(الشرحُ): أنَّ العلمَ والمعرفة بالحقائقِ من تَصَوُّرِها وتصديقٍ بها متحقِّقٌ حصولُهُ لنا ثابتٌ يقينًا.
ثم العلم إما تصوُّرٌ وإما تصديقٌ، فالتصور هو إدراك الماهية من غير أن يُحكَم عليها بنفيٍ أو إثباتٍ، والتصديقُ هو أن تَحْكُم عليها بالنَّفْيِ أو الإثباتِ فإذا سمعتَ عبارةَ الإنسانُ حيوانٌ ناطقٌ مثلًا فإنك تفهم أوَّلًا معناها وهذا هو التصوُّرُ ثم تحكم عليها إمّا بالثبوت وإما بالنَّفْيِ فذلك هو التصديق.
وكلٌّ من التصور والتصديق قد يكون بديهيًّا وقد يكون كسبيًّا. فتصوُّرُنا لمعنى الحرارة والبرودة مثلًا بديهِيٌّ، وتصوُّرُنا لمعنى الملك والجن كسبيٌّ، والتصديقُ بأنَّ الشَّيْءَ لا يكونُ ساكنًا ومتحركًا في ءَانٍ واحدٍ بديهِيٌّ، والتصديقُ بأنَّ الإلٰهَ قديمٌ والعالَمَ مُحْدَقٌ كسبِيٌّ.
وهذا متفق عليه بين الطوائف كلهم إلا السوفسطائية.