التأويل التفصيلي – وإن كان عادة أكثر الخلف – ثبت أيضًا عن غير واحد من أئمة السلف وأكابرهم، كابن عباس رضي الله عنهما وأبي موسى الأشعري من الصحابة، ومجاهد تلميذ ابن عباس من التابعين، والإمام أحمد ممن جاء بعدهم، وكذلك البخاري وغيره.
أما ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر في «شرح البخاري»([1]): «وأما الساق فجاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [سورة القلم: 42] قال: عن شدة من الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق إذا اشتدت، ومنه: [الرمل]
قد سَنّ أصحابُك ضربَ الأعناقْ |
| وقامتِ الحربُ بنا على ساقْ |
وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها: عن نور عظيم، قال ابن فورك: معناه ما يتجدد للمؤمنين من الفوائد والألطاف، وقال الـمُهَلَّب: كشف الساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم نقمة، وقال الخطابي([2]): تهيَّب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس أن الله يكشف عن قدرته([3]) التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي([4]) الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن، وزاد: إذا خفي عليكم شيء من القرءان فابتغوه من الشعر، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد: [الرجز]
في سَنَةٍ قَدْ كَشَفَتْ عَنْ سَاقِهَا».اهـ.
وأما مجاهد فقد قال الحافظ البيهقي([5]): «وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا الحسن ابن علي بن عفان، ثنا أبو أسامة، عن النضر، عن مجاهد في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} [سورة البقرة: 115] قال: قِبلة الله، فأينما كنت في شرق أو غرب فلا توجهن إلا إليها».اهـ.
وأما الإمام أحمد فقد روى البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأوَّل قول الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [سورة الفجر: 22] أنه جاء ثوابه، ثم قال البيهقي: «وهذا إسناد لا غبار عليه».اهـ. نقل ذلك ابن كثير في تاريخه([6]).
وقال البيهقي في «مناقب أحمد»([7]): «أنبأنا الحاكم، قال: حدَّثنا أبو عمرو بن السماك، قال: حدَّثنا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت عمي أبا عبد الله ـ يعني: أحمد – يقول: احتجوا عليَّ يومئذٍ – يعني: يوم نُوْظرَ في دار أمير المؤمنين – فقالوا: تجيء سورة البقرة يوم القيامة وتجيء سورة تبارك، فقلت لهم: إنما هو الثواب، قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [سورة الفجر: 22] إنما تأتي قدرته، وإنما القرءان أمثال ومواعظ.
[قال البيهقي:] وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السُّنَّة انتقالًا من مكان إلى مكان، كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته، فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذٍ فعبَّر عن إظهاره إياها بمجيئه». انتهى كلام البيهقي.
وهذا دليل على أن الإمام أحمد ما كان يحمل ءايات الصفات وأحاديث الصفات التي توهم أن الله متحيّز في مكان أو أن له حركة وسكونًا وانتقالًا من علو إلى سفل على ظواهرها، كما يحملها ابن تيمية وأتباعه المشبهة كوهابية العصر، فيثبتون اعتقادًا التحيز لله في المكان والجسمية، ويقولون لفظًا ما يموّهون به على الناس ليظن بهم أنهم منزهون لله عن مشابهة المخلوق، فتارة يقولون: بلا كيف كما قالت الأئمة، وتارة يقولون: على ما يليق بالله. أقول: لو كان الإمام أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال لترك الآية على ظاهرها وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو إلى سفل كمجيء الملائكة، وما فاه بهذا التأويل.
وقد روى البيهقي في «الأسماء والصفات»([8]) عن أبي الحسن المقرئ قال: «أنا أبو عمرو الصفار، ثنا أبو عوانة، ثنا أبو الحسن الميموني قال: خرج إليَّ يومًا أبو عبد الله أحمد بن حنبل فقال: ادخل، فدخلت منزله فقلت: أخبرني عما كنت فيه مع القوم وبأيّ شيء كانوا يحتجون عليك؟ قال: بأشياء من القرءان يتأولونها ويفسّرونها، هم احتجوا بقوله: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} [سورة الأنبياء: 2] قال: قلت: قد يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو الـمُحْدَثُ لا الذكر نفسه هو الـمُحْدَثُ. قلت [البيهقي]: والذي يدل على صحة تأويل أحمد بن حنبل رحمه الله ما حدَّثنا أبو بكر محمد بن الحسن ابن فورك، أنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل عن عبد الله – هو ابن مسعود – قال: «أتيت رسول الله فسلمت عليه فلم يرد عليَّ فأخذني ما قَدُمَ وما حَدَث، فقلت: يا رسول الله، أحدث فيَّ شيء؟ فقال رسول الله : «إن الله تعالى يُحْدِثُ لنبيِّه مِن أمرِه ما شاء، وإنَّ مما أَحدث ألَّا تكلَّموا في الصلاةِ».اهـ.
نقل الزرقاني([9]) عن أبي بكر بن العربي أنه قال في حديث([10]): «ينزلُ ربُّنا»: «النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته؛ بل ذلك عبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره ونهيه. فالنزول حسيّ صفة الـمَلَكِ المبعوث بذلك، أو معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل، فسمّى ذلك نزولًا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة».اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في «شرح البخاري»([11]): «وقال ابن العربي: حكي عن المبتدعة ردّ هذه الأحاديث، وعن السلف إمرارها، وعن قوم تأويلها وبه أقول. فأما قوله: «ينزل» فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته؛ بل ذلك عبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره ونهيه، والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني، فإن حملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الـمَلَك المبعوث بذلك، وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمّى ذلك نزولًا عن مرتبة إلى مرتبة، فهي عربية صحيحة.اهـ. والحاصل: أنه تأوَّله بوجهين: إما بأن المعنى ينزل أمره أو الـمَلَك بأمره، وإما بأنه استعارة بمعنى التلطّف بالداعين والإجابة لهم ونحوه». انتهى كلام الحافظ، وكذا حكي([12]) عن مالك أنه أوَّله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال: فعل الـمَلِك كذا أي أتباعه بأمره.
وورد التأويل أيضًا عن الإمام سفيان الثوري وهو من السلف الصالح، فقد روى الحافظ البيهقي أيضًا([13]) عن أبي عبد الرحمـٰن محمد بن الحسين السلمي، قال: «أنا أبو الحسن محمد بن محمود المروزي الفقيه، ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، ثنا أبو موسى محمد بن المثنى، حدَّثني سعيد بن نوح، ثنا علي بن الحسن بن شقيق، ثنا عبد الله بن موسى الضبي، ثنا معدان العابد قال: سألت سفيان الثوري عن قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [سورة الحديد: 4] قال: علمه».اهـ.
وقد ورد التأويل التفصيلي أيضًا عن الإمام البخاري، فقد قال في صحيحه([14]) عند قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [سورة القصص: 88] قال البخاري: «إلا ملكه، ويقال: إلا ما أُريد به وجهُ الله».اهـ.
وثَبَتَ أيضًا([15]) عن أبي هريرة : «أن رجلًا أتى النبي فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء فقال رسول الله : «من يضمُّ» أو: «يضيفُ هذا؟» فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئتي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونوَّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانِه أنهما يأكلان، فباتا طاويين([16])، فلما أصبح غدا إلى رسول الله فقال: «ضَحِكَ اللهُ الليلةَ» أو: «عَجِبَ مِن فعالِكما». فأنزل {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر: 9].
قال الحافظ ابن حجر([17]): «ونسبة الضحك والتعجُّب إلى الله مجازية، والمراد بهما الرضا بنصيعهما».اهـ.
وأوّل البخاري الضحك الوارد في الحديث بالرحمة، نقل ذلك عنه الخطابي([18]) فقال: «وقد تأوَّل البخاري الضحك في موضع ءاخر على معنى الرحمة وهو قريب، وتأويله على معنى الرضا أقرب»([19]).اهـ.
ونلزم المشبهة بالتأويل الذي لا يستطيعون التهرب منه بما ورد في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} [سورة الفرقان: 45، 46]، أي: تقلّص الظل يسيرًا يسيرًا، فماذا يقولون في قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} هل يحملون هذه الآية على ظاهرها فيزعمون أن الله هنا على الأرض أم يؤولونها؟ هذه الآية قاصمة لظهورهم. اللَّهُمَّ ثبتنا على عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، وأحينا عليها وأمتنا عليها.
خلاصة ما يتعلق بمسألة التأويل أن يقال: هناك مسلكان كل منهما صحيح: الأول: مسلك السلف، وهم أهل القرون الثلاثة الأولى، أي: الغالب عليهم، فإنهم يؤولونها تأويلًا إجماليًّا بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته بلا تعيين؛ بل ردّوا تلك الآيات إلى الآيات المحكمة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: 11].
الثاني: مسلك الخلف وبعض الأئمة من السلف: وهم يؤولونها تفصيلًا بتعيين معانٍ لها مما تقتضيه لغة العرب ولا يحملونها على ظواهرها أيضًا كأغلب السلف، ولا بأس بسلوكه ولا سيما عند الخوف من تزلزل العقيدة حفظًا من التشبيه.
قال ابن دقيق العيد([20]): «نقول في الصفات المشكلة إنها حق وصدق على المعنى الذي أراده الله، ومن تأوَّلها نظرنا فإن كان تأويله قريبًا على مقتضى لسان العرب لم ننكر عليه، وإن كان بعيدًا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع التنزيه».اهـ.
[1]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (13/428).
[2]() البيهقي، الأسماء والصفات (2/183).
[3]() أي: عن ءاثار قدرته تبارك وتعالى.
[4]() البيهقي، الأسماء والصفات (2/184).
[5]() البيهقي، الأسماء والصفات (2/107).
[6]() ابن كثير، البداية والنهاية (10/327).
[7]() البيهقي، مناقب أحمد، تعليق: الزاهد الكوثري على السيف الصقيل للإمام السبكي (ص120، 121).
[8]() البيهقي، الأسماء والصفات (ص572، 573).
[9]() شرح الزرقاني على الموطأ (2/218)، وشرح الترمذي المسمّى عارضة الأحوذي، أبو بكر بن العربي (2/236).
[10]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب: الدعاء في الصلاة من ءاخر الليل (1/384).
[11]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (3/30).
[12]() شرح الزرقاني على الموطأ (2/46).
[13]() البيهقي، الأسماء والصفات (2/341).
[14]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب: تفسير سورة القصص، في فاتحته (4/1787).
[15]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب: قول الله : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (3/1382).
[16]() الطوى: الجوع (الرازي، مختار الصحاح، ص403).
[17]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (7/120).
[18]() البيهقي، الأسماء والصفات (ص402).
[19]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (6/40).
[20]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (13/383).