الجمعة يوليو 26, 2024

تبشير التقي برضوان الله عند الاحتضار
وأن التقوى تكون بتعلم ما افترض الله تعلُّمه
والعمل به

قال المحدث الأصوليُّ الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين.

أمَّا بعدُ: فإن الله تبارك وتعالى قال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [سورة مريم: 85، 86] المتقون: يحشرهم الله يوم القيامة مكرمين ليس عليهم نكد ولا فزع ولا خوف ليس عليهم خوف إلا خوفُ الإجلال أما خوفُ أن يصيبهم عذاب من الله فقد أمنوا أن يصيبهم عذاب وليس ذلك من تلك الساعة، أي: ساعة الحشر؛ بل هذا الفرح والأمن الذي فِي أنفسهم مستقر فِي أنفسهم بَدْؤُهُ من عند وقت النزع، أي: الاحتضار، فإن المؤمنَ التقيَّ حين يُحضَر يُبَشَّرُ برحمة الله ورضوانه فعندئذٍ يعرف مصيره أنه إلى الجنّة ورَوْحٌ وريحان ورضوان من الله فيحب الموت فيذهب عنه الخوف والكراهية للموت الذي كان يجده قبل ذلك ثم لا يزال وهو ءامن مطمئن فِي حال القبر فِي البرزخ وهو مدة القبر وفي ما بعد ذلك وهو ما بعد رجوع روحه إلى الجنّة حين يبلَى جسده فإنه يرجع إلى الجنّة الرُّوح يرجع إلى الجنّة ثم عند النفخة الثانية يعاد جسده الذي بَلِيَ إن كان من الأجساد التي تَبْلَى يعيد الله ذلك الجسد فيجمع الروح مع الجسد ثم ينشق عنه القبر فيخرج من القبر وهو فَرِحٌ مستبشر ثم لا يزال فرحًا مسرورًا إلى ما لا نهاية.

روينا فِي الصحيح «صحيح البخاري» من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال: «مَن أَحَبَّ لقاءَ الله أَحَبَّ اللهُ لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت: قلتُ: يا رسول الله إنا نكره الموت، فقال: ليس ذاكِ ولكن المؤمن إذا حُضِرَ بُشّرَ برحمة الله وثوابِه فيحب لقاء الله ويحب الله لقاءه وإن العبد الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته فكره لقاء الله وكره الله لقاءه»([i]).اهـ.

المتقون: هم المؤمنون الذين يؤدون ما فرض الله عليهم من الواجبات العملية والعلمية ويجتنبون ما حرّم الله، هي الواجبات قسمان واجبات علمية وواجبات عملية، والعلمية: معرفة ما فرض الله تعالى من علم دينه وما لا بد من علم دين الله وأداء الصلوات الخمس وصيام رمضان والأمر بالمعروف والنَهي عن المنكر إلى غير ذلك من الواجبات التِي لا يعلمها جميعها إلا من تعلم علم الدين؛ لأن الذي لم يتعلم علم الدين ويتعبد يعرف الجزء القليل من أمورٍ يعرف الصلوات الخمس من غير إتقان ويعرف صورة الصيام. هؤلاء المتقون هم الذين يقول الله تعالى فيهم فِي كتابه: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمـٰن وَفْدًا} [سورة مريم: 85]، أي: أنهم يحشرون وفودًا، أي: أنهم وفود الرحمـٰن وفود الله، فالله تبارك وتعالى شكور عليم يُعْطِي الثواب الكثير على العمل القليل. كان الوفد الذي يَفِدُ إلى الناس الكرماء يلقى نزلًا وإكرامًا مِنَ الذي يَفِدُ إليه فكيف الذي هو وفد الرحمـٰن أكرم الأكرمين.

ثم من كرامة المتقين عند الحشر أنهم يكونون راكبين ويكونون كاسين لا يحشرون حفاة عراة كغيرهم من المسلمين؛ لأن مَن سوى المتقين يحشرون حُفَاةً عُرَاةً، المسلم والكافر يحشرون حفاة، أي: بلا حذاء ولا نعل ولا ثياب يلبسونها.

وأما الكافر فإنه يُبَشَّرُ إذا حُضِرَ بعذاب الله وعقوبته يقول له ملائكة العذاب الذين يحضرون الكفار عند موتهم أبشر بسخط الله وعذابه ومن ذلك الوقت لا يفرح أبد الآبدين لا يلقى فرحًا أبد الآبدين ومن شدة خوفه وقلقه يُرى الكافرُ عندئذٍ كئيبًا لا يُرى فرِحًا مستبشرًا لا يوجد كافر يكون فِي حالة الاحتضار وجهه مشرقًا لو كان قبل ذلك حسنَ الشكل والهيئة لأن هذا الخوفَ الذي نزل به من تبشير ملائكة العذاب له بالعذاب والعقوبة لا يسعه بعد ذلك أن يفرح أو يستبشر. وأما ما يروى أن إبراهيم الخليل r جاءه ملك الموت عند مفارقته الدنيا وقال: هل يقبض الخليل خليله، أي: من الجزع فذهب ملك الموت فقال: يا ربِّ إن عبدك إبراهيم لا يحب الموت، فقال: ارجع إليه فقل له: الخليل يشتاق إلى خليله، فهذا غير صحيح هذا افتراء ليس له أصل عن إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء هم أولى الناس بأن يعرفوا مصيرهم الطيب الآمن، وكذلك ما يروى عن موسى r أنه لما جاءه ملك الموت فقأ عين ملك الموت فَرَقًا من الموت، أي: خوفًا من الموت، فليس الأمر كذلك إنما الصحيح أن ملك الموت فاجأه مفاجأة ولم يكن موسى تلك الساعة متصورًا أنه هو ملك الموت فظنه إنسانًا صائلًا جاء معتديًا فبطش به فَفَقَأَ إحدى عينيه فَفَقْأُ موسى لإحدى عيني عزرائيل ليس عن كراهية الموت إنما موسى ظنه إنسانًا جاء ليعتدِيَ ثم لما علم أنه عزرائيل استسلم ورضى بالموت فقبض روحه. انتَهَى.

وسبحان الله والحمد لله ربّ العالمين.

والله تعالى أعلم.

[i])) رواه البخاريّ فِي صحيحه، باب: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.