الجمعة يوليو 26, 2024

بيان فضل التحاب فِي الله

درسٌ ألقاه المحدث الشيخ عبد الله بن محمد العبدريّ رحمة الله تعالى فِي سويسرة فِي السادس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة اثنتَيْ عشرة وأربعمائة وألف من الهجرة الشريفة الموافق للخامس من شهر تشرين الأول سنة إحدى وتسعين وتسعمائة وألف رومية وهو فِي بيان عظيم فضل التحاب فِي الله والتطاوع وحسن الخلق. قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:

الحمد لله وصلّى الله وسلم على رسول الله.

أمَّا بعدُ: فمن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله r قال: قال الله تعالى: «المتحابّون بجلالِي أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يوم لا ظِلّ إلا ظِلِّي»([i]).اهـ. هذا الحديث حديث صحيح رواه الإمام مالك فِي «الموطأ»([ii])، ورواه الحاكم فِي «المستدرك»([iii])، فيه الترغيب بالتحاب، أي: فِي أن يتحابّ المسلمون بعضهم بعضًا، وفيه بشارة عظيمة للمحتاجين فِي الله بأنهم يكونون يوم القيامة فِي ظلّ العرش، ذلك اليوم لا يوجد ظل إلا ظلُّ الله وظِلُّ اللهِ هو ظِلُّ العرش، الله تبارك وتعالى تشريفًا للعرش ولظله قال ظِلّي، وأما الله تبارك وتعالى فذاته ليس كسائر الذوات ليس جسمًا لطيفًا ولا جسمًا كثيفًا، هو خلق الجسم اللطيف وخلق الجسم الكثيف. فتبيّن أن معنى قوله تعالى فِي هذا الحديث القدسي ظلي، معناه: الظل الذي خلقتُهُ أنا وشَرَّفْتُهُ وكَرَّمْتُهُ؛ لأن العرش لم يُعْصَ اللهُ تبارك وتعالى فيه، إنما الملائكة الذين لا يُحصِي عددهم إلا الله حافّون من حوله يسبحون بحمد ربّهم ثم هو أعظم المخلوقات، من حيث المساحة لم يخلق الله أعظم منه.

قال الله تبارك وتعالى فِي هذا الحديثِ القدسي «المتحابُّون بجلالِي أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي يومَ لا ظلّ إلّا ظلّي» والحديثُ القدسيُّ هو ما يرويه رسول الله r بصيغة قال الله تعالى مما ليس فِي القرءان، إذا الرسول r قال: قال الله تعالى أو يقول الله تعالى مما ليس فِي القرءان فذلك يُسَمَّى حديثًا قدسيًّا. يوم القيامة لا يوجد ظل إلا ظل العرش، فِي الموقف لا يوجد ظل إلا ظل العرش؛ لأن الله تعالى ينسف الجبال نسفًا تصير كالغبار الناعم فتتطاير فِي الجو، لا يبقى على وجه الأرض جبل ولا شجرٌ ولا صخرة ولا كهف يستظل تحته، والحرُّ حرُّ الشمس أزيدُ من اليوم بكثير بمراتب كثيرة، الأتقياء يكونون تحت ظل العرش لا يصيبهم شيءٌ من حرّ الشمس، والرسول عليه الصلاة والسلام عدَّ أناسًا يكونون ذلك اليوم فِي ظل العرش من جملتهم المتحابون بجلال الله، أي: المسلمون إذا تحابّوا لله تعالى ليس للدنيا للمال ليس للقرابة؛ بل لأن هذا مؤمن وهذا مؤمن هذا يعينه على الخير على ما يرضى الله تعالى يعينه، كلاهما يتعاونان على عمل الخير وينصح أحدُهما الآخَرَ كلٌّ منهما إذا رأى الآخر على شيء مُنْكَرٍ ينصحه يقول له اترك هذا الشيء اتق الله وإن رءاه على عمل الخير يشجعه ولا يغشه، هذا معنى المتحابون بجلالي معناه لا يتغاشُّون لا يعامل بعضهم بعضًا بالغش والخيانة والمداهنة، هؤلاء صنف من الذين يظلهم الله يوم القيامة فِي ظل العرش وهناك أناس ءاخرون ورد فِي الحديث الصحيح أن الله يظلّهم فِي ظلّه ذلك اليوم، من جملة ذلك من كان له دَين على مسلم فأسقط عنه الدين لوجه الله تعالى أو حان أجل الدين فَأَنْظَرَهُ، أخَّر له المطالبة هذان من جملة من يظلهم الله تعالى فِي ظله يوم لا ظلّ إلا ظلّه.

الله تبارك وتعالى أخبر فِي القرءان الكريم أن الأرض يوم القيامة لا يكون فيها وِهادٌ حُفَرٌ ولا هِضاب، تُغَيّرُ الأرضُ لا تبقى على هذه الحال، ثم الله تبارك وتعالى أخبر بأنه يَدُكُّ الأرض والجبال دكًّا، معناه: تكسّر وتتحطّم، الجبال تتكسر فتصير كالغبار فتطير فِي الجو، الذي لا يعرف الحقيقة يظنها من كثرة ما تتطاير فِي الجو تنتشر فِي الجو يحسبها شيئًا جامدًا غبارًا جامدًا فِي الفضاء وهِيَ تمرّ مرًّا سريعًا هذا الذي قال الله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [سورة النمل: 88].

هذا الفضل الذي ذكر فِي هذا الحديث هو لمن يتعامل بالنصيحة لا بالغش والمداهنة لا يساعد هذا على هواه؛ بل يساعده على ما يحب الله وإن رءاه على منكر ينهاه، هؤلاء الذين هم يكونون ذلك اليوم تحت ظل العرش وورد فِي فضلهم فِي حديث([iv]) ءاخر صحيح أنهم يكونون ذلك اليوم على مَنَابِرَ من نور، منابر خلقها الله تعالى من النور يجلسون عليها، حتى الشهداء يعجبون بأمرهم والأنبياء، الأنبياء أعلى درجة ومع ذلك عندما ينظرون إلى أولئك الذين كانوا فِي الدنيا متحابّين فِي الله تعالى يُعجَبُونَ بهم ويفرحون لهم، أما الذين يتحابّون فِي الدنيا على الهوى على شيء من المعاصِي يتحولون أعداءً يوم القيامة ولو كانوا أقرباءَ يَتَعَادَوْنَ ذلك اليوم، لذلك إذا الإنسان أحبّ أخاه المسلم فليحبَّه بإخلاص، أي: لا يَغُشَّهُ لا يُزَيّنْ له الباطل ولا يَخُنْهُ، يُبَيّنُ له الحقيقة يدله على الخير الذي يحبه الله وينهاه عن الشر الذي يكرهه الله، هؤلاء هم المتحابون بجلال الله.

والله تعالى أعلم.

([i]) رواه مسلم فِي صحيحه، باب: فِي فَضْلِ الْحُبّ فِي اللهِ.

([ii]) رواه مسلم فِي الموطأ، باب: ما جاء فِي المتحابين فِي الله.

([iii]) رواه الحاكم فِي المستدرك، كتاب البر والصلة.

([iv]) روى الترمذي فِي سننه فِي باب ما جاء فِي الحب فِي الله عن مُعَاذ بْن جَبَل قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: قَال اللهُ U: «الـمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي، لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ».اهـ. قال وَفِي البَاب عَن أبِي الدَّرْدَاءِ وَابْنِ مَسعود وعَبادَةَ بْنِ الصَّامِت وَأَبِي هُرَيرَة وأَبِي مالِكٍ الأشْعَرِيّ هَذا حَديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.اهـ.