بيان خروج عبد الله بن عمرو بن العاص
روى ابن عبد البر في مسألة خروج عبد الله بن عمرو مع الذين كانوا ضد علي بن أبي طالب بسنده قال: “قال عبد الله بن عمرو: ما لي ولصفّين، ما لي ولقتال المسلمين، والله لوددت أني مت قبل هذا بعشر سنين، ثم يقول: أما والله ما ضربت فيها بسيف ولا طعنت برمح ولا رميت بسهم، ولوددت أني لم أحضر شيئًا منها، وأستغفر الله من ذلك وأتوب إليه، إلا أنه ذكر أنه كانت بيده الراية يومئذ فندم ندامة شديدة على قتاله مع معاوية وجعل يستغفر الله ويتوب إليه” انتهى.
وروى أحمد في مسنده عن حنظلة بن خويلد العنبري قال: “بينما أنا عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمّار، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله – أي ابن عمرو بن العاص -: لِيَطِبْ به أحدكما نفسًا لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تقتله الفئة الباغية” فقال معاوية: ألا تغني عنّا مجنونك يا عمرو فما بالك معنا، قال ابن عمرو: إن أبي شكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله: “أطع أباك ما دام حيًّا ولا تعصه” فأنا معكم ولست أقاتل”. اهــ
وليعلم أن خروج عبد الله لم يكن في محله ولا يدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم له: “أطع أباك” إذ من المعلوم أن النبيّ إنما أمره بطاعة أبيه فيما لا معصية فيه، وكانت طاعة عليّ في قتال معاوية واجبةً إذ كان هو الخليفة الراشد الواجب طاعتهُ كما تقدّم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ {59} [سورة النساء] وقد قال صلى الله عليه وسلم: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق” رواه أحمد.
فيُعلم مما تقدم أن سيّدنا عليًّا كان الخليفة الراشد من أُولي الأمر، وأن مَن خرج عليه وقاتله وقع في المعصية والظلم، وأنه وجب عليه التوبة والرجوع عن ذلك.
زيادة تفصيل في قتال معاوية لعلي:
قتال معاوية لعليّ هو خروج عن طاعة الإِمام كما سبق وذكرنا فيكون بذلك مرتكبًا للكبيرة، فقد روى البخاري حديث: “ويح عمّار تقتله الفئة الباغية” في موضعين الأول في كتاب الصلاة في باب التعاون في بناء المساجد بلفظ: “ويح عمّار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار”، ورواهُ في كتاب الجهاد والسير بلفظ: “ويح عمّار تقتله الفئة الباغية، عمار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار”، ورواه أيضًا ابن حبان في صحيحه، وقال عمار بعد أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك: “أعوذ بالله من الفتن”. وهذا القدر: “ويح عمار تقتله الفئة الباغية” من الحديث متواتر، ذكر ذلك الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى وغيره كالمناوي في شرحه على الجامع الصغير المسمى بفيض القدير.
وروى ابن حبان عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تقتل عمارًا الفئة الباغية”، وفيه أيضًا عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ويح ابن سُميَّة تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار”، ورواية الطبراني فيها زيادة وهي: “ويح عمار تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الحق”.
فعمّار الذي كان في جيش عليّ كان داعيًا إلى الجنّة بقتاله مع عليّ، فعليٌّ داعٍ إلى الجنّة بطريق الأولى والمقاتلون لعليّ دعاةٌ إلى النار.
ولقد قال عمّار بن ياسر لما سمع بعض الناس يقولون كفر أهل الشام – أي المقاتلون لعليّ -: “لا تقولوا كفرَ أهل الشام ولكن قولوا فسقوا أو ظلموا” رواهُ البيهقي وابن أبي شيبة.
وروى عمرو بن مرّة قال: سمعت عبد الله بن سلمة يقول: “رأيت عمّار بن ياسر يوم صفّين شيخًا طوالا أخذ الحربة بيده ويده تَرْعدُ، فقال: “والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرّات وهذه الرابعة، ثمَّ قال: والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا شَعَفَات هَجَر لعرفت أنّا على الحقّ وهم على الباطل”، أخرجه ابنُ سعد في الطبقات والحاكم وصحّحه.
وفي رواية لأبي داود الطيالسي وأبي يعلى وأحمد: “لعرفت أن مصلحينا على الحق وأنهم على الضلالة”، قال الحافظ البوصيري: “رواه أبو داود الطيالسي وأبو يعلى وأحمد بن حنبل بسند صحيح” اهــ
ولا شك أنَّ عمّارًا رضي الله عنه مصيبٌ في قوله، وهو أحدُ السابقين الأوّلين من المهاجرين الذين أخبر الله أنه رضي عنهم ورضوا عنه في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ {100} [سورة التوبة]، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ملئ عمّار إيمانًا إلى مشاشه” أي إلى رءوس عظامه. رواه النسائي وغيره.
وروى ابن ماجَه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عمّار ما عُرِض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما”.
وأخرج ابن حبان في صحيحه وغيرُه عن خالد بن الوليد قال: “كان بيني وبين عمار بن ياسر كلام فانطلق عمار يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فجعل خالد لا يزيده إلا غِلْظَةً ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، قال: فبكى عمار وقال: يا رسول الله ألا تسمعه، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليَّ رأسه وقال: “من عادى عمارًا عاداهُ الله ومن أبغَضَهُ أبغضَه الله”، قال فخرجت فما كان شىء أحب إلي من رضا عمار فلقيته فرضي”.
المقاتلون لعليّ بغاة ءاثمون:
ثم إن وصف النبي لمعاوية وفئته الذين قاتلوا عليًّا بالبغي صريحٌ في أنهم ءاثمون، لأن البغي إذا أطلق في مقام الذمّ لا يكون إلا بمعنى التعدّي الذي هو ظلم، فمَن زعم أن الوصف بالبغي لا يستلزم الوقوع في المعصية فقد خالف مفهوم الكلمة من حيث اللغة.
قال العلامة اللغوي ابن منظور في لسان العرب ما نصه: “والبغي: التعدي، وبَغَى الرجل علينا بغيًا: عَدَل عن الحق واستطال” اهــ
ثم قال: “وقال الأزهري: معناه الكِبرُ، والبغي: الظلم والفساد” اهــ
ثم قال: “والفئة الباغية: هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: “ويح ابن سمية تقتله الفئة الباغية” اهــ
أما البغي بمعنى الطلب فهو متعدٍ بنفسه يقال: بغيت الشىء طلبته، والبغي اللازم الذي يتعدّى بحرف الجرّ تصريفه بغى يبغي يقال: بغى فلان على فلان يبغي فهو باغ. ومثال المتعدّي في القرءان قوله تعالى: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ {47} [سورة التوبة]، وهذا البغي المتعدي ورد للذمّ، ويأتي المزيد منه للمدح أيضًا قال تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا {29} [سورة الفتح]، وورد بلفظ المصدر في القرءان في قوله تعالى: إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى {20} [سورة الليل]، أما البغي بمعنى التعدّي فقد ورد في قوله تعالى: فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي {9} [سورة الحجرات]، وقد بيّن القرءان أن البغي اللازم معناه التعدّي والخروج عن طاعة الله لقوله: حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ {9} [سورة الحجرات]، لأن أمرَ الله هو طاعة الإِمام، فمَن قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: “تقتله الفئة الباغية” ليس فيه ذم، فهو مخالف لما كان عليه عليّ ومعاوية كلاهما، لأن كلًّا منهما اتّهم الآخر بأن هذا الحديث فيه ودفعه عن نفسه، وما ذاك إلا لما فيه من ذم لتلك الفئة.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه فقال ما نصه: “حدّثنا هُشَيْمٌ، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ {9} [سورة الحجرات]، قال: بالسيف، قلت: فما قتلاهم؟ قال: شهداء مرزوقون، قال: قلت: فما حال الأخرى أهل البغي مَن قتل منهم؟ قال: إلى النار” اهــ
وقال القرطبي في حديث “ويح عمّار”: “وهو – أي هذا الحديث – من أثبت الأحاديث كما تقدم، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره لثبوته عنده قال: إنما قتله من أخرجه، ولو كان حديثًا فيه شكّ لردَّه معاوية وأنكره وأكذب ناقله وزوّره، وقد أجاب علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذًا قتل حمزة حين أخرجه، قال ابن دِحْيَة: وهذا من علي إلزام مفحم لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها” انتهى كلام القرطبي.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه: “ودلَّ حديث: “تقتل عمارًا الفئة الباغية” على أن عليًّا كان المصيب في تلك الحرب لأن أصحاب معاوية قتلوه، وقد أخرج البزار بسند جيد عن زيد بن وهب قال: “كنا عند حذيفة فقال: كيف أنتم وقد خرج أهل دينكم يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف، قالوا: فما تأمرنا، قال: انظروا الفرقة التي تدعو إلى أمر علي فالزموها فإنها على الحق”.
وأخرج يعقوب بن سفيان بسند جيد عن الزهري قال: لما بلغ معاوية غلبة عليّ على أهل الجمل دعا إلى الطلب بدم عثمان فأجابه أهل الشام، فسار إليه علي فالتقيا بصفين”، وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في كتاب صفين في تأليفه بسند جيد عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: “أنت تنازع عليًّا في الخلافة أَوَ أنت مثله؟، قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمهِ، فأتوا عليًّا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، فامتنع معاوية، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين، وسار معاوية حتى نزل هناك وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين، فتراسلوا فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال إلى أن قتل من الفريقين فيما ذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه نحو سبعين ألفًا، وقيل: كانوا أكثر من ذلك”، اهــ
ثم قال الحافظ: “وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي الرضا سمعت عمارًا يوم صفين يقول: “من سرَّه أن يكتنفه الحور العين فليتقدم بين الصفين محتسبًا”، ومن طريق زياد بن الحارث: كنت إلى جنب عمار فقال رجل: كفر أهل الشام، فقال عمار: لا تقولوا ذلك نبينا واحد، ولكنهم قوم حادوا عن الحق فحقَّ علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا” اهــ
وقال القرطبي في تفسيره ما نصه: “فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن عليًّا رضي الله عنه كان إمامًا، وأن كل من خرج عليه باغٍ وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح؛ لأن عثمان رضي الله عنه قُتل والصحابة بُرءاء من دمه، لأنه منع من قتال من ثار عليه وقال: لا أكون أوّل من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة وفدى بنفسه الأمة. ثم لم يمكن ترك الناس سُدى، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى وتدافعوها، وكان عليّ كرّم الله وجهه أحق بها وأهلها، فقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل، فربما تغيّر الدين وانقض عمود الإسلام. فلما بويع له طلب أهل الشام في شرط البيعة التمكن من قَتَلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم عليّ رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه. فقالوا: لا تستحق بيعةً وقتلة عثمان معك تراهم صباحًا ومساء. فكان عليّ في ذلك أسدَّ رأيًا وأصوبَ قيلًا؛ لأن عليًّا لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حربًا ثالثة؛ فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم؛ فيجري القضاء بالحق.
ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وكذلك جرى لطلحة والزبير، فإنهما ما خلعا عليًّا من ولاية ولا اعترضا عليه في ديانة؛ وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى” اهــ
وقال ملا علي القاري في شرح المشكاة ما نصه: “(تقتلك الفئة الباغية) أي الجماعة الخارجة على إمام الوقت وخليفة الزمان، قال الطيبي: ترحم عليه بسبب الشدة التي يقع فيهما عمار من قبل الفئة الباغية يريد به معاوية وقومه فإنه قتل يوم صفين، وقال ابن الملك: اعلم أن عمارًا قتله معاوية وفئته فكانوا طاغين باغين بهذا الحديث لأن عمارًا كان في عسكر علي وهو المستحق للإمامة فامتنعوا عن بيعته، وحكي أن معاوية كان يؤوّل معنى الحديث ويقول: نحن فئة باغية طالبة لدم عثمان وهذا كما ترى تحريف إذ معنى طلب الدم غير مناسب هنا لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر الحديث في إظهار فضيلة عمار وذم قاتله لأنه جاء في طريق ويح، قلت: ويح كلمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرثى له بخلاف ويل فإنها كلمة عقوبة تقال للذي يستحقها ولا يترحم عليه، هذا وفي الجامع الصغير برواية الإمام أحمد والبخاري عن أبي سعيد مرفوعًا: “ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار” وهذا كالنص الصريح في المعنى الصحيح المتبادِر من البغي المطلق في الكتاب كما في قوله تعالى: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ {90} [سورة النحل] وقوله سبحانه: فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى {9} [سورة الحجرات] فإطلاق اللفظ الشرعي على إرادة المعنى اللغوي عدول عن العدل وميل إلى الظلم الذي هو وضع الشىء في غير موضعه.
والحاصل أن البغي بحسب المعنى الشرعي والإطلاق العرفي خصص عموم معنى الطلب اللغوي إلى طلب الشر الخاص بالخروج المنهي، فلا يصح أن يراد به طلب دم خليفة الزمان وهو عثمان رضي الله عنه.
وقد حكي عن معاوية تأويل أقبح من هذا حيث قال: إنما قتله علي وفئته حيث حمله على القتال وصار سببًا لقتله في المآل، فقيل له في الجواب: فإذن قاتل حمزة هو النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان باعثًا له على ذلك والله سبحانه وتعالى حيث أمر المؤمنين بقتال المشركين. والحاصل أن هذا الحديث فيه معجزات ثلاث إحداها أنه سيقتل وثانيها أنه مظلوم وثالثها أن قاتله باغ من البغاة والكل صدق وحق” اهــ
ثم قال: “قلت: فإذا كان الواجب عليه أن يرجع عن بغيه بإطاعته الخليفة ويترك المخالفة وطلب الخلافة المنيفة فتبين بهذا أنه كان في الباطن باغيًا وفي الظاهر متسترًا بدم عثمان مراعيًا مرائيًا فجاء هذا الحديث عليه ناعيًا وعن عمله ناهيًا، لكن كان ذلك في الكتاب مسطورًا فصار عنده كل من القرءان والحديث مهجورًا، فرحم الله من أنصف ولم يتعصب ولم يتعسف وتولى الاقتصاد في الاعتقاد لئلا يقع في جانبي سبيل الرشاد من الرفض والنصب بأن يحب جميع الآل والصحب” اهــ
وقال المناوي في شرح الجامع الصغير ما نصه: “(ويح عمار) بن ياسر (تقتله الفئة الباغية) قال البيضاوي: يريد به معاوية وقومه (يدعوهم إلى الجنة) أي إلى سببها وهو طاعة الإمام الحق (ويدعونه إلى) سبب (النار) وهو عصيانه ومقاتلته وقد وقع ذلك يوم صفين دعاهم فيه إلى الإمام ودعوه إلى النار وقتلوه” اهــ
وقال في موضع ءاخر من شرحه على الجامع الصغير ما نصه: “(ويح عمار) بالجر على الإضافة وهو ابن ياسر (تقتله الفئة الباغية) قال القاضي في شرح المصابيح: يريد به معاوية وقومه اهــ وهذا صريح في بغي طائفة معاوية الذين قتلوا عمارًا في وقعة صفين وأن الحق مع عليّ وهو من الأخبار بالمغيبات (يدعوهم) أي عمار يدعو الفئة وهم أصحاب معاوية الذين قتلوه بوقعة صفين في الزمان المستقبل (إلى الجنة) أي إلى سببها وهو طاعة الإمام الحق (ويدعونه إلى) سبب (النار) وهو عصيانه ومقاتلته. قالوا وقد وقع ذلك في يوم صفين دعاهم فيه إلى الإمام الحق ودعوه إلى النار وقتلوه فهو معجزة للمصطفى وعلم من أعلام نبوته” اهــ
ثم قال المناوي بعد ذلك ما نصه: “(تتمة) في الروض الأنف أن رجلًا قال لعمر رضي الله تعالى عنه: رأيت الليلة كأن الشمس والقمر يقتتلان ومع كل نجوم قال عمر: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر قال: كنت مع الآية الممحوة اذهب ولا تعمل لي عملًا أبدًا فعزله فقتل يوم صفين مع معاوية واسمه حابس بن سعد” اهــ
وقال مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري ما نصه: “على أن معشر أهل الحق من أهل السنة والجماعة يعتقدون أن معاوية كان مخطئًا بغى على الإمام الحق علي بن أبي طالب لسبق البيعة والخلافة له رضي الله عنه وهو مصيب بمحاربة معاوية وأصحابه بحكم قتال أهل البغي من المسلمين ولذا لم يعاملهم معاملة المرتدين ولا الكافرين، وأن عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم قد رجعوا عن خطئهم بخروجهم متأسفين والندم توبة من الخطيئة، فاتبع الحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله والله اعلم” اهــ
وقد نقل الفقيه المتكلم ابن فورك في كتاب مقالات الأشعري كلام أبي الحسن الأشعري في أمر المخالفين لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال ما نصّه: “وكان – أي الأشعري – يقول في أمر الخارجين عليه والمنكرين لإِمامته إنهم كلهم كانوا على الخطإ فيما فعلوا، ولم يكن لهم أن يفعلوا ما فعلوا من إنكار إمامته والخروج عليه. وكان يقول في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها إنها إنما قصدت الخروج طلبًا للإِصلاح بين الطائفتين بها للتوسط في أمرهما، فأما طلحة والزبير فإنهما خرجا عليه وكانا في ذلك متأولين مجتهدين يريان ذلك صوابًا بنوع من الاجتهاد، وإن ذلك كان منهما خطأ وإنهما رجعا عن ذلك وندما وأظهرا التوبة وماتا تائبين مما عملا. وكذلك كان يقول في حرب معاوية إنه كان باجتهاد منه وإن ذلك كان خطأ وباطلًا ومنكرًا وبغيًا على معنى أنه خروج عن إمام عادل، فأمّا خطأ طلحة والزبير فكان يقول إنه وقع مغفورًا للخبر الثابت عن النبيّ أنه حكم لهما بالجنّة فيما روي في خبر بشارة عشرة من أصحابه بالجنّة فذكر فيهم طلحة والزبير، وأمّا خطأ من لم يبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنّة في أمره فإنه مجوّز غفرانه والعفو عنه” اهــ
وهذا نص صريح من شيخ أهل السنّة أبي الحسن الأشعري بأن كل مقاتليه عصوا، وأن طلحة والزبير تابا من ذلك جزمًا، وأما الآخرون فهم تحت المشيئة يجوز أن يغفر الله لمن شاء منهم. فبعد هذا لا يسوغ لأشعري أن يخالف كلام الإِمام فيقول: إن معاوية وجيشه غيرُ ءاثمين مع الاعتراف بأنهم بغاة، وأمّا من قال إنهم مأجورون فأبعد من الحق.
وليعلم أن ما ذكر في بعض كتب الأشاعرة كالغزالي مما يخالف كلام الأشعري مردود لا يلتفت إليه.
وفي تعبير الإِمام الأشعري عن حرب معاوية بأنه باطل ومنكر وبغي الحكم بأن ذلك معصية. وكلامه هذا بعيد من كلام أولئك الذين قالوا إن عمل هؤلاء الذين قاتلوا عليًّا يدخل تحت حديث: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر”. لأن الاجتهاد الذي نصّ عليه الحديث هو الاجتهاد الذي يكون فيما لم يرد فيه نص صريح، ومسئلة مقاتلة الإِمام الرشيد كعلي معلوم حرمتها من عدة أحاديث كحديث: “من كره من أميره شيئًا فليصبر عليه فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية” رواه مسلم وغيره.
قال الفقيه الأصولي بدر الدين الزركشي بعد كلام في شرحه على جمع الجوامع: “هذا مع القطع بتخطئة مقاتلي عليّ وكل من خرج على من اتفق على إمامته، لكن التخطئة لا تبلغ إلى حد التفسيق عند القاضي أبي بكر، وقالت الشيعة بالتفسيق، ونسبه الآمدي لأكثر أصحابنا” اهــ
وقوله: “أصحابنا” يعني به الأشاعرة.
ولا نعتقد نحن أن الصحابي منهم فسق فسقًا يمنع قبول روايته للحديث، بل نعتقد أنهم كغيرهم ءاثمون بلا استثناء، والدليل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم للزبير رضي الله عنه: “إنك لتقاتلنه وأنت ظالم له” رواه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي، والأشعري في عبارته المذكورة لم ينف الإِثم عن الذين قاتلوا عليًّا بل قال: إثم طلحة والزبير وقع مغفورًا بكونهما من المبشّرين بالجنّة بالتعيين، وقال عن خطإ غيرهما إنه مجوز غفرانه والعفو عنه.
فتبيّن أن تعبيره بالخطإ ليس معناه أنهما لم يعصيا إنما مراده أن إثمهما كان صادرًا عن خطإ في الرأي، ومثل هذا لا يدخل تحت حديث:”وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” لأن هذا الخطأ المذكور في هذا الحديث المراد به ما حصل بلا إرادة من فاعله كالذي ينطق بالقول المحرم الكفر وغيره عن سبق لسان، والفعل الذي يكون على هذا الوجه كفعل من أراد أن يرمي إلى صيد فأصاب سهمه إنسانًا مسلمًا مؤمنًا فقتله. كما أن هذا لا يدخل تحت حديث: “إذا اجتهد الحاكم …” المتقدم ذكره، يمنع من ذلك قوله عليه الصلاة السلام للزبير: “وأنت ظالم له”، ولا يخفى على القارئ أن الخطأ في عبارات العلماء يقع على معنيين: أحدهما مخالفة الصواب إن كان مما يؤدي إلى معصية أو إلى ما دونها، والثاني ما يحصل من الإنسان من قول أو فعل بلا إرادة كالذي حصل من الرجل الذي أضلّ دابته ثم وجدها فقال: “اللهم أنت عبدي وأنا ربك” أخطأ من شدة الفرح فسبق لسانه إلى ما لم يرده.
فالخطأ الذي أورده الإِمام الأشعري من القسم الأول، أراد أن هؤلاء عصوا بدليل قوله في طلحة والزبير: “إنهما تابا”، فلا يشتبه عليك الأمر يا طالب العلم. ولا ينبغي أن يفهم من كلام الأشعري من تعبيره بالخطإ في أمر معاوية أنه كان حصل منه ذلك باجتهاد كاجتهاد الأئمة في استخراج المسائل من الكتاب والسنّة على حسب أفهامهم، وذلك لأن سيدنا عليًّا رضي الله عنه قال: “إن بني أمية يقاتلونني يزعمون أني قتلت عثمان، وكذبوا إنما يريدون المُلك” رواه مسدَّد بن مُسَرْهَد في مسنده كما سيأتي، وكذلك قال سيدنا عمّار بن ياسر رضي الله عنهما عن معاوية إن همه كان الدنيا ودعواه إلى الأخذ بدم عثمان إنما هو اتخذها ذريعة للوصول إلى الملك، ذكر ذلك الحافظ المجتهد ابن جرير الطبري كما سيأتي.
ودعوى أن معاوية حصل منه ذلك على طريقة الاجتهاد المعروف بين الأئمة تخيّلٌ لما هو مخالف للواقع، ويؤيد ذلك أنه لو كان الإِمام الأشعري أراد بقوله إن معاوية اجتهد ذلك الاجتهاد الذي رفعت المؤاخذة عن المخطئ فيه لم يقل إن ما حصل منهم مجوّز الغفران، وهذا ظاهر لمن يفهم العبارات.
قال المؤرخ ابن العماد الحنبلي في كتابه شذرات الذهب عند ذكر وقعة صفّين ما نصّه: “والإِجماع منعقد على إمامته – أي عليّ – وبغي الطائفة الأخرى ولا يجوز تكفيرهم كسائر البغاة، واستدلّ أهل السنّة والجماعة على ترجيح جانب عليّ بدلائل أظهرها وأثبتها قوله صلى الله عليه وسلم لعمّار ابن ياسر: “تقتلك الفئة الباغية” وهو حديث ثابت. ولما بلغ معاوية ذلك قال: إنما قتله من أخرجه، فقال عليٌّ: إذًا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة لأنه أخرجه، وهو إلزام لا جواب عنه وحجة لا اعتراض عليها، وكان شبهة معاوية ومن معه الطلب بدم عثمان، وكان الواجب عليهم شرعًا الدخول في البيعة ثمَّ الطلب من وجوهه الشرعية” اهــ
وهذا من معاوية بحسب الظاهر لا بحسب الباطن، أمّا من ناحية جماعته فقد يكونون على ظن أنهم على حق. وإنما قلنا ذلك لما سبق من أن عليًّا قال: “إنّما يريدون الملك”.
ويؤيد قول علي رضي الله عنه ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده.
قال القرطبي: “والإِجماع منعقد على أن طائفة الإِمام طائفة عدل والأخرى طائفة بغي، ومعلوم أنَّ عليًّا رضي الله عنه كان الإِمام” اهــ
وأخرج البزار بسند جيد عن زيد بن وهب قال: “بينما نحن حول حذيفة إذ قال: كيف أنتم وقد خرج أهل بيت نبيّكم فرقتين يضرب بعضكم وجوه بعض بالسيف، فقلنا: يا أبا عبد الله وإن ذلك لكائن، فقال بعض أصحابه: يا أبا عبد الله فكيف نصنع إن أدركنا ذلك الزمان، قال: انظروا الفرقة التي تدعو إلى أمر عليّ رضي الله عنه فالزموها فإنها على الهدى” اهــ ومعنى هذا أن الأخرى على الباطل.
مراد معاوية من القتال:
ثم ليعلم أن معاوية كان قصده من هذا القتال الدنيا، فلقد كان به الطمع في الملك وفرط الغرام في الرئاسة، فلما وصل إلى الخلافة وصار ملك مصر وغيرها تحت يده كفّ عن المطالبة بدم عثمان وهو ما اتخذه حجة للخروج على عليّ وقتاله وأكثر المتهمين من أهل مصر والكوفة والبصرة كلهم تحت حكمه وغلبته كما ذكر القرطبي في التذكرة.
روى أبو داود في سننه عن سَفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله المُلْك” أو: “ملكه مَن يشاء”.
قال سعيد: قال لي سفينة: “أمسك عليك أبا بكر سنتين، وعمر عشرًا، وعثمان اثنتي عشرة، وعليًّا كذا، قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليًّا عليه السلام لم يكن بخليفة، قال: كذبت أسْتَاه بني الزرقاء يعني مروان”. اهــ
وروى هذا الحديث أيضًا الحاكم والبيهقي بنحوه وذكر أن خلافة علي كانت ست سنوات.
وروى أحمد في المسند والبيهقي والطيالسي واللفظ لأحمد عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوّة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكًا عاضًّا…” الحديث، وفي رواية: “عضوضًا”. أي ظلومًا.
وحديث أبي داود المتقدّم أخرجه أيضًا الترمذي وحسّنه، وأبو نعيم بنحوه عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خلافة النبوّة”، وعند أحمد بلفظ: “الخلافة ثلاثون عامًا ثم يكون بعد ذلك الملك”.
وأخرج البيهقي عن أبي بكرة قال: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خلافة النبوّة ثلاثون عامًا ثم يؤتي الله المُلْكَ مَن يشاء”، فقال معاوية: “قد رضينا بالمُلْك”.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ما نصّه: “وقد ذكر يحيى بن سليمان الجُعْفي، أحد شيوخ البخاري في “كتاب صفّين” في تأليفه بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: “أنت تنازع عليًّا في الخلافة أَوَأَنْتَ مِثْلُهُ؟ قال: لا، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحقُّ بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أنّ عثمان قتل مظلومًا، وأنا ابن عمّه ووليّه أطلب بدمه، فأتوا عليًّا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان. فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إليّ فامتنع معاوية، فسار عليّ في الجيوش من العراق حتى نزل بصفّين” اهــ
وروى مسدد في مسنده عن عبد الله بن أبي سفيان أن عليًّا قال: “إن بني أمية يقاتلونني، يزعمون أني قتلت عثمان وكذبوا إنما يريدون المُلْك، ولو أعلم أن يذهب ما في قلوبهم أني أحلف لهم عند المقام والله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله لفعلت، ولكن إنما يريدون المُلْك، وإني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممّن قال الله عزّ وجلّ: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ {43} [سورة الحجر] الآية”، وروى نحوه سعيد بن منصور في سننه.
قال ابن كثير في البداية والنهاية ما نصّه: “وهذا مقتل عمّار بن ياسر رضي الله عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله أهل الشام. وبان وظهر بذلك سرّ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه تقتله الفئة الباغية، وبان بذلك أن عليًّا محقّ وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوّة” اهــ
قال ابن الأثير في الكامل نقلًا عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال يوم صفّين: “من يبتغي رضوان الله ربّه ولا يرجع إلى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة فقال: اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبّوها وعلموا أن الحقّ إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا: إمامنا قُتل مظلومًا، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكًا، فبلغوا ما ترون، فلولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرتَ، وإن تجعل لهم الأمر فادّخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم”. اهــ
ومما يدل على ما قدمنا أن معاوية سعى قبل موته في استخلاف ابنه يزيد، وذلك مع وجود من هو أهل لتلك الخلافة من الصحابة كالحسين ابن علي وابن الزبير فليراجع ما ذكره الحافظ ابن حجر في ذلك.
قال الطبري في تاريخه ما نصّه: “وكان عهده – أي معاوية – الذي عهد ما ذكر هشام بن محمّد، عن أبي مخنف قال: حدّثني عبد الملك ابن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها دعا يزيد ابنه فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذلّلت لك الأعداء وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوّف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتبّ لك إلا أربعة نفر من قريش: الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر. فأمّا عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأمّا الحسين بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحمًا ماسّة وحقًّا عظيمًا، وأمّا ابن أبي بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئًا صنع مثلهم ليس له همّة إلا في النساء واللهو. وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ويراوغك مراوغة الثعلب فإذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطّعه إربًا إربًا” اهــ وفي رواية أخرى أن يزيد كان غائبًا فأوصى له بذلك.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية ما نصّه: “محمد بن سيرين قال: لما أراد معاوية أن يستخلف يزيد بعث إلى عامل المدينة أن أَوْفِد إليَّ مَن شاء، قال: فوفد إليه عمرو ابن حزم الأنصاري يستأذن، فجاء حاجب معاوية يستأذن، فقال: هذا عمرو قد جاء يستأذن. فقال: ما جاء بهم إليَّ قال: يا أمير المؤمنين يطلب معروفك فقال معاوية: إن كان صادقًا فليكتب إليّ فأعطيه ما سأله ولا أراه، قال: فخرج إليه الحاجب فقال: ما حاجتك اكتب ما شئت، فقال: سبحان الله أجيء إلى باب أمير المؤمنين فأُحجب عنه، أُحِبُّ أنْ ألقاه فأكلمَه، فقال معاوية للحاجب: عده يوم كذا وكذا، فإذا صلّى الغداة فليجئ، قال: فلما صلّى معاوية الغداة أمر بسريره فجعل في الإِيوان ثم يخرج الناس عنه فلم يكن عنده أحد إلا كرسي وضعَ لعمرو، فجاء عمرو فاستأذن فأذن له فسلّم عليه ثم جلس على الكرسي فقال له معاوية: حاجتك؟ قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: لعمري لقد أصبح يزيد بن معاوية واسط الحسب في قريش غنيًّا عن المال غنيًّا عن كل خير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله تعالى لم يسترع عبدًا رعية إلا وهو سائله عنها يوم القيامة كيف صنع فيها” وإني أذكّرك الله يا معاوية في أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم من تستخلف عليها قال: فأخذ معاوية ربوٌ ونفس في غداة قَرٍّ حتى عرق وجعل يمسح العرق عن وجهه مليًّا ثم أفاق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنك امرؤ ناصح قلت برأيك بالغًا ما بلغ، وإنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم فابني أحقّ من أبنائهم، حاجتك؟ قال: ما لي حاجة، قال: قم، فقال له أخوه: إنما جئنا من المدينة نضرب أكبادها من أجل كلمات، قال: ما جئت إلا للكلمات، قال: فأمر لهم بجوائزهم وأمر لعمرو بمثلها. “لأبي يعلى””. اهــ
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ما نصّه: “وأخرج أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح إلى جويرية بن أسماء: سمعت أشياخ أهل المدينة يتحدثون أن معاوية لما احتضر دعا يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يومًا فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة فإني عرفت نصيحته، فلما ولي يزيد وفد عليه عبد الله بن حنظلة وجماعة فأكرمهم وأجازهم، فرجع فحرّض الناس على يزيد وعابه ودعاهم إلى خلع يزيد فأجابوه، فبلغ يزيد فجهز إليهم مسلم بن عقبة، فاستقبلهم أهل المدينة بجموع كثيرة، فهابهم أهل الشام وكرهوا قتالهم، فلما نشب القتال سمعوا في جوف المدينة التكبير وذلك أنّ بني حارثة أدخلوا قومًا من الشاميين من جانب الخندق، فترك أهل المدينة القتال ودخلوا المدينة خوفًا على أهلهم، فكانت الهزيمة وقتل مَن قتل، وبايع مسلم الناس على أنهم خَوَلٌ ليزيد يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء” اهــ
قلت: وفي سند الطبري المتقدم أبي مخنف وهو متكلم فيه، والعمدة في نقلنا على الروايات الصحيحة الثابتة التي أوردها الحافظ ابن حجر.
وروى مسلم وابن حبان في صحيحه واللفظ له قال: “أخبرنا أبو خليفة قال: حدّثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد ربّ الكعبة قال: سمعت عبد الله ابن عمرو يحدّث في ظل الكعبة قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فمنّا مَن ينتضل ومنّا مَن هو في جشره ومنّا مَن يصلح خباءه، إذ نودي بالصلاة جامعة فاجتمعنا فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: “لم يكن قبلي نبي إلا كان حقًّا على الله أن يدلّ أمّته على ما هو خير لهم ويُنذِرهم ما يعلم أنه شر لهم، وإن هذه الأمة جُعلت عافيتُها في أولها، وسيصيب ءاخرها بلاء فتجيء فتنة، فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثمّ تجيء فيقول هذه مهلكتي ثمّ تنكشف، فمَن أحبّ منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنّة فلتدركه منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأتِ إلى النّاس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومَن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع” قال: قلت: هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا ونهريق دماءنا وقال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ {29} [سورة النساء]، وقال: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ {29} [سورة النساء] قال: ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله” انتهى. ورواه أبو داود مختصرًا.
وقال الطبري: “وحدّثنا محمّد بن بشار قال: حدّثنا عبد الرحمن قال: حدّثنا سفيان عن الأعمش، عن أبي وائل قال: كنت مع مسروق بالسلسلة، فمرّت عليه سفينة فيها أصنام ذهب وفضة بعث بها معاوية إلى الهند تُباع، فقال مسروق: لو أعلم أنهم يقتلوني لغرَّقتها ولكني أخشى الفتنة” اهــ
قال القرطبي في كتابه التذكرة ما نصه: “روى ابن وهب عن مالك قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها، واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه عن أرض معاوية حين أعلن بالرباء فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها. خرّجه أهل الصحيح” اهــ
وعن بحير، عن خالد قال: “وفد المقدام بن معد يكرب وعمرو بن الاسود ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان، فقال معاوية للمقدام: أعلمت أنّ الحسن بن علي توفي؟ فرجّع المقدام، فقال له رجل: أتراها مصيبة؟ قال له: ولِمَ لا أراها مصيبة وقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره فقال: “هذا منّي وحسين من عليّ”، فقال الأسدي: جمرة أطفأها الله عزّ وجلّ، قال: فقال المقدام: أما أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأسمعك ما تكره ثم قال: يا معاوية إن أنا صدَقت فصدّقني، وإن أنا كذبت فكذبني، قال: افعل، قال: فأنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب؟ قال: نعم، قال: فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبس الحرير؟ قال: نعم، قال: فأنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبس جلود السّباع والركوب عليها؟ قال: نعم، قال: فوالله لقد رأيت هذا كلّه في بيتك يا معاوية، فقال معاوية: قد علمتُ أني لن أنجوَ منك يا مقدام”. رواهُ أبو داود في السنن.
وروى الحاكم في المستدرك من طريق إسماعيل ابن عليّة، عن هشام بن حسّان، عن ابن سيرين “أنَّ زيادًا أطال الخطبة، فقال حُجر بن عدي: الصلاة، فمضى في خطبته، فقال له: الصلاة، وضرب بيده إلى الحصى وضرب الناس بأيديهم إلى الحصى، فنزل فصلّى ثمّ كتب فيه إلى معاوية، فكتب معاوية أن سرّح به إليّ فَسرحه إليه فلما قَدِمَ عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين قال: وأمير المؤمنين أما إني لا أقيلك ولا أستقيلك، فأمر بقتله؛ فلما انطلقوا به طلب منهم أن يأذنوا له فيصلّي ركعتين فأذنوا له فصلّى ركعتين ثمّ قال: لا تطلقوا عنّي حديدًا ولا تغسلوا عنّي دمًا وادفنوني في ثيابي فإني مخاصم، قال: فقتل” اهــ
قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب في معرفة الأصحاب ما نصّه: “كان حُجر من فضلاء الصحابة”. ثم روى أيضًا عن ابن سيرين أنه كان إذا سُئل عن الركعتين عند القتل قال: “صلّاهما خُبيب وحُجر وهما فاضلان”. ثم قال أيضًا: “قال أحمد: قلت ليحيى بن سليمان: أبلغَكَ أنّ حجرًا كان مستجاب الدعوة، قال: نعم، وكان من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم”. اهــ
قال الذهبي في سيره ما نصه: “ابن أبي أُويس، عن أبيه، عن الوليد ابن داود بن محمد بن عُبادة بن الصامت عن ابن عمه عبادة بن الوليد، قال: كان عُبادة بن الصامت مع معاوية، فأذَّنَ يومًا فقام خطيبٌ يمدح معاوية ويُثني عليه، فقام عُبَادةُ بتراب في يده، فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاويةُ، فقال له عُبادة: إنك لم تكن معنا حين بايعْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة على السَّمع والطَّاعة في مَنْشَطِنَا ومَكْرهِنَا ومَكْسَلِنَا، وأَثَرَة عَلَيْنَا، وألاَّ نُنازعَ الأمر أهلَه، وأن نقومَ بالحقّ حيثُ كنا لا نخافُ في الله لومة لائم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذَا رَأَيْتُم المَدَّاحِينَ، فاحثُوا في أفواهِهِم التُّرَابَ” اهــ
ونقل الحافظ ابن حجر أن معاوية أرسل بُسر بن أرطأة إلى اليمن لينظر من كان في طاعة علي رضي الله عنه ليوقع بهم، ففعل بمكة والمدينة واليمن أفعالا قبيحة، وهذه سيرته المتواترة من إيذاء من كان مع علي رضي الله عنه.
وما يروى في معاوية من الفضائل فإنه لم يصحّ منه شىء، فقد قال الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري: “تنبيه: عبَّر البخاري في هذه الترجمة بقوله “ذكر” ولم يقل فضيلة ولا منقبة لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، لأن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير، وقد صنّف ابن أبي عاصم جزءًا في مناقبه وكذلك أبو عمر غلام ثعلب وأبو بكر النقاش، وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها ثمّ ساق عن إسحاق بن راهويه – شيخ البخاري – أنه قال: لم يصحّ في فضائل معاوية شىء، فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادًا على قول شيخه.
وأخرج ابن الجوزي أيضًا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألتُ أبي ما تقول في عليّ ومعاوية؟ فأطرق ثمّ قال: اعلم أنّ عليًّا كان كثير الأعداء، ففتش أعداؤه له عيبًا فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجلٍ قد حاربه فأطروه كيادًا منهم لعليّ، فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له. وقد وردَ في فضائل معاوية أحاديث كثيرة لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإِسناد، وبذلك جزم إسحاق بن راهويه والنّسائي وغيرهما والله أعلم” اهــ
قلت: وقوله: “ليس فيها ما يصح” معناه ليس فيها ما هو صحيح ولا حسن وليس كما ادّعى بعض الأدعياء أنه لم ينف أن يكون فيها حسن وهذا لا يقوله متمرّس إلا جاهل بصناعة الحديث.
قال المؤرخ عبد الحي بن العماد الحنبلي في ترجمة النسائي ما نصّه: “قال ابن خلّكان: قال محمّد بن إسحاق الأصبهاني: سمعت مشايخنا بمصر يقولون: إنّ أبا عبد الرحمن فارق مصر في ءاخر عمره وخرج إلى دمشق، فسئل عن معاوية وما روي من فضائله فقال: أما يرضى معاوية أن يخرج رأسًا برأس حتّى يفضَّل، وفي رواية: ما أعرف له فضيلة إلا: “لا أشبع الله بطنه” وكان يتشيّع، فما زالوا يدافعونه في خصيتيه وداسوه ثمَّ حُمِلَ إلى مكّة فتوفيَ بها وهو مدفونٌ بين الصفا والمروة. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني: لما داسوه بدمشق مات بسبب ذلك الدّوس فهو مقتول، وكان صنّف كتاب الخصائص في فضل الإِمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل البيت، وأكثر روايته فيه عن الإِمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فقيل له: ألا صنّفت في فضل الصحابة رضي الله عنهم كتابًا، فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن عليّ كثير فأردت أن يهديهم الله بهذا الكتاب، وكان إمامًا في الحديث ثقة ثبتًا حافظًا”. انتهى كلام ابن العماد.
وذكر الذهبي في تذكرة الحفّاظ في ترجمة النسائي أنه قال: “دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنّفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله، ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الصحابة فقيل له: ألا تخرج فضائل معاوية؟ فقال: أيّ شىء أخرج؟ حديث: “اللهم لا تشبع بطنه”. فسكت السائل”. اهــ
وأما اتّهامهم له بالتشيّع فليس صحيحًا إذ إنهم اتهموه بذلك لقوله: لم يصحّ في فضائل معاوية إلا: “لا أشبع الله بطنه”، ولأنه ألّف في فضل عليّ ولم يصنّف في مناقب غيره بالتخصيص، والصواب أنه إنّما قال: لم يصحّ في فضائل معاوية إلا: “لا أشبع الله بطنه” لأنَّ الحقيقة هي هذه، وليس هو أوّل قائل لهذا بل سبقه إلى هذا كما سبق وذكرنا شيخ البخاري إسحاق بن راهويه، وهو إنما صنّف في مناقب عليّ ولم يصنّف في مناقب غيره بالتخصيص لما بَيّنَهُ بقوله: “دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله”.