الجمعة يوليو 26, 2024

بيان الحكم في بعض ما يروى

فإن قيل: أليس قال الرسولُ ﷺ: «كنتُ أوّل النبيين في الخلق وآخرهم في البعث»، وقال أيضًا: «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين»، وأيضًا: «كنت نبيًّا ولا ماء ولا طين».

فالجواب: أن الحديث الأوّل ضعيف كما نقل ذلك العلماء([1])، ففي إسناده بقيّة ابن الوليد وهو مدلّس، وسعيد بن بشير وهو ضعيف، ثمّ لو صحّ لم يكن فيه أنّه أوّل خلقِ الله وإنما فيه أنه أوّل الأنبياء، ومعلومٌ أن البشر أولهم آدم عليه السلام الذي هو آخر الخلقِ باعتبار أجناس المخلوقات.

وأمّا الثاني والثالث فلا أصل لهما([2])، ولا حاجة لتأويل قولِهِ تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] والحديث الصحيحِ المتقدم منْ أجلِ خبرٍ واهٍ ضعيف أو موضوع لا أصل له، كما فعل ذلك بعض أدعياء التصوف حيث أَوَّل الآية بحديث جابر السابق الذكر وقال: إنّ للآية معنىً مجازيًّا.

أما حديث ميسرة الفجر([3]) أنه قال: يا رسولَ الله متى كنت نبيًّا، فقال: «كنت نبيًّا وآدم بين الروح والجسد» فهو حديث صحيح رواهُ أحمد في مسنده([4])، وقال الحافظ الهيثميّ([5]) بعد عزوه لأحمد وللطبراني([6])أيضًا: «ورجاله رجال الصحيح»([7]).اهـ. وأمّا معناه فلا يدلّ على أوّليّته ﷺ بالنسبة لجميع الخلق، وإنما يدلّ على أنّ الرسول ﷺ كان مشهورًا بوصف الرسالة بين الملائكةِ في الوقتِ الذي لم يتم تكوُّنُ جسدِ آدم بدخولِ الروح فيه.

وقد أخرج أحمد والحاكم والبيهقيّ في الدلائل عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتمُ النبيّين، وإن آدم لمنجدل في طينته»([8]). قال البيهقيّ: «قوله ﷺ: «إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته»، يريد به أنّه كان كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأوّل الأنبياء صلوات الله عليهم»([9])اهـ.

ثم إن التشبث بقول: «إن نور محمد أول المخلوقات على الإطلاق» نوع من الغلوّ، وقد نهى الله ورسوله عن الغلو([10]). والأفضلية ليست بالأسبقية في الوجود؛ بل الأفضلية بتفضيل الله تعالى، فالله سبحانه يفضّل ما شاء من خلقه على ما شاء، ومحمد عليه الصلاة والسلام أفضل خلقه على الإطلاق وأكثرهم بركة([11]).

[1])) المقاصد الحسنة، السخاويّ، (ص520). كشف الخفاء، العجلونيّ (2/169، 170). أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب، محمد الحوت، (ص242).

[2])) التذكرة في الأحاديث المشتهرة، الزركشيّ (ص172)، المقاصد الحسنة، السخاويّ (ص522)، تمييز الطيب من الخبيث، ابن الديبع، (ص126)، كشف الخفاء، العجلونيّ (2/173). تنزيه الشريعة، ابن عراق، 01/341).

[3])) عبد الله بن أبي الجدعاء التميميّ، ميسرة الفجر، له صحبة، يعدّ من أعراب البصرة، قال ابن الفرضيّ: «ميسرة لقب له».اهـ. أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، (3/52). وأورده ابن حجر في الإصابة فقال: «ميسرة الفجر صحابيّ البخاريّ والبغويّ وابن السكن، وغيرهم في الصحابة».اهـ. الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر، (6/239).

[4])) مسند أحمد، أحمد، (5/59).

[5])) ابن الهيثميّ هو عليّ بن أبي بكر بن سليمان الهيثميّ (ت807هـ)، أبو الحسن، نور الدين المصريّ القاهريّ، حافظ له كتب وتخاريج في الحديث، منها: (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد)، و(ترتيب الثقات لابن حبان)، و(تقريب البغية في ترتيب أحاديث الحلية). الأعلام، الزركلي، (4/266).

[6])) المعجم الكبير، الطبرانيّ، (20/353).

[7])) مجمع الزوائد، ابن الهيثميّ، (8/223).

[8])) مسند أحمد، (4/127، 128). المستدرك، الحاكم، (2/600)، دلائل النبوة، البيهقيّ، (1/80 – 83).

[9])) دلائل النبوة، البيهقيّ، (1/81).

[10])) سنن ابن ماجه، ابن ماجه، كتاب المناسك، باب: قدر حصى الرمي، (4/227)، صحيح ابن حبّان، ابن حبّان، (9/183)، ونص الحديث: «يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين».

[11])) رسالة في بطلان دعوى أولية النور المحمديّ، الهرريّ، بتصرف.