الخميس ديسمبر 12, 2024

بيان أن صوت المرأة ليس عورة على القول الصحيح

اعلم أن القول المعوّل عليه في المذاهب الأربعة في صوت المرأة أنه ليس بعورة، وكيف يقال إنه عورة وقد ثبت في الحديث أن الرسول رخص لجارية في الغناء عند إهداء العروس إلى زوجها، روى البخاريُّ في الصحيح عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها زفّت امرأة إلى رجل من الأنصار فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة ما كان معكم لهوٌ فإنَّ الأنصار يعجبهم اللهو”، وفي رواية الطبراني عن شريك عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدّف وتغني”؟ قالت عائشة: تقول ماذا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تقول:

أتيناكم أتيناكم

فحيّونا نحيّيكم

ولولا الذهب الأحمر

ما حلّت بواديكم

ولولا الحنطة السمرا

ءُ ما سَمِنَتْ عذاريكم”

ورواية الطبراني هذه صحيحة ففيها زيادة كما هو ظاهر على رواية البخاريّ وهي الضرب بالدّف والغناء بهذه الكلمات، ومعنى الجارية في اللغة الفتاة كما هو مذكور في القاموس المحيط ولسان العرب في مادة (ج ر ي).

وروى البخاري أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: “دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناءِ بعاث، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “دعهما” فلما غفل غمزتهما فخرجتا”.

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: “قوله: “جاريتان” زاد في الباب الذي بعده: “من جواري الأنصار” وللطبراني من حديث أم سلمة أن إحداهما كانت لحسّان بن ثابت، وفي الأربعين للسلميّ أنهما كانتا لعبد الله بن سلام، وفي العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فُلَيْح عن هشام ابن عروة: “وحمامة وصاحبتها تغنيان” وإسناده صحيح، ولم أقف على تسمية الأخرى ولكن يحتمل أن يكون اسم الثانية زينب، وقد ذكره في كتاب النكاح”. اهــ

وقال أيضًا ما نصه: “لكن عدم إنكاره صلى الله عليه وسلم دالٌّ على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقرّه”، وقال أيضًا: “واستدلّ به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره”. اهــ

وكذلك روى البخاري عن خالد بن ذكوان: قالت الرُبَيّعُ بنت معَوّذ ابن عفراء: جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم يدخل حين بُنِي عليَّ فجلس على فراشي كمجلسك منّي، فجعلت جويرياتٌ لنا يضربن بالدّف ويندبن مَن قتل من ءابائي يوم بدر إذ قالت إحداهنّ: “وفينا نبي يعلم ما في غد” فقال: “دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين” اهــ

قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري ما نصه: “وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بنساء من الأنصار في عرس لهنّ وهُنَّ يغنّين:

وأهدى لها كبشًا تنحنح في المربد

وزوجُك في النَادي ويعلم ما في غد

فقال: “لا يعلم ما في غدٍ إلا الله”.

قال المُهلَّب: “في هذا الحديث إعلان النكاح بالدّف وبالغناء المباح، وفيه إقبال الإِمام إلى العرس وإن كان فيه لهو ما لم يخرج عن حدّ المباح” انتهى. وروى الحديث أيضًا البزار.

وروى ابن ماجه وغيره عن أنس بن مالك أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرّ ببعضِ المدينة فإذا هو بجوار يضربن بدفّهِنّ ويتغنين ويقلنَ:

نحن جوار من بني النّجارِ

يا حبَّذا محمدٌ من جارِ

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “الله يعلم إنّي لأحبكنّ”.

قال الحافظ البوصيري: “هذا إسناد صحيح رجاله ثقات”.

وقال الحافظ اللغوي محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى في كتابه إتحاف السادة المتّقين ما نصه: “قال القاضي الروياني فلو رفعت صوتها – أي المرأة – بالتلبية لم يحرم لأن صوتها ليس بعورة” اهــ

وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ما نصّه: “وفي الحديث – يعني حديث مبايعة النساء بالكلام – أنّ كلام الأجنبية مباح سماعُه وأنّ صوتها ليس بعورة” اهــ

وذكر النووي في شرح صحيح مسلم في شرح حديث كيفية بيعة النساء ما نصّه: “وفيه أنّ كلام الأجنبية يباح سماعه عند الحاجة وأنّ صوتها ليس بعورة” اهــ

وقال ابن عابدين الحنفي ناقلًا عن كتاب القِنية: “ويجوز الكلام المباح مع امرأة أجنبية، وفي المجتبى رامزًا: وفي الحديث دليلٌ على أنّه لا بأس بأن يُتكلم مع النساء بما لا يُحتاج إليه، وليس هذا من الخوض فيما لا يعنيه” اهــ

وفي كتاب أسنى المطالب شرح روض الطالب للشيخ زكريا الأنصاري الشافعي ما نصّه: “وصوتها ليس بعورة على الأصح في الأصل”. اهــ

فالحكم في صوت المرأة بعد هذا البيان أنه ليس بعورة إلا لمَن كان يتلذذ بسماع صوتها فيحرم عليه الاستماع حينئذٍ.

فإن قيل: أليس في قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ {32} [سورة الأحزاب] تحريم الاستماع إلى صوت المرأة؟

فالجواب: أنّ الأمر ليس كذلك، قال القرطبي في تفسيره: “أمرهنّ الله – يعني نساء النبي – أن يكون قولهنّ جزلا وكلامهنّ فصلًا ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللّين كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه مثل كلام المُريبات والمومسات، فنهاهنّ عن مثل هذا” اهــ

وقال أبو حيان في تفسير البحر المحيط فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ {32} [سورة الأحزاب]: “قال ابن عباس: “لا ترخصن بالقول”. وقال الحسن: “لا تَكَلَّمْنَ بالرَّفَث”. وقال الكلبي: “لا تكلّمن بما يَهوى المريب”. وقال ابن زيد: “الخضوع بالقول ما يدخل في القلب الغزل” وقيل لا تُلِنَّ للرجال القول. أمر تعالى أن يكون الكلام خيرًا لا على وجه يظهر في القلب علاقة ما يظهر عليه من اللّين كما كان الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم الصوت ولينه مثل كلام المومسات، فنهاهنّ عن ذلك”. اهــ

فيعلم من ذلك أنه ليس المراد بهذه الآية أنه يحرم عليهنّ أن يتكلّمن بحيث يسمع الرجال أصواتهنّ، بل النهي عن أن يتكلمن بكلام رخيم يشبه كلام المريبات المومسات أي الزانيات، فقد صحَّ عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تدرّس الرجال من وراء ستار، ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير ما نصّه: “فإنه ثابت في الصحيح أنهم كانوا يسألون عائشة عن الأحكام والأحاديث مشافهة” اهــ

وروى الحاكم في المستدرك عن الأحنف بن قيس قال: “سمعت خطبة أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم والخلفاء هلم جرّا إلى يومي هذا، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن منه من فِيْ عائشة رضي الله عنها” اهــ

وفي التفسير الكبير للفخر الرازي عند تفسير قوله تعالى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ {31} [سورة النور] الآية ما نصّه: “وفي صوتها وجهان أصحهما أنّه ليس بعورة لأنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم كنّ يروين الأخبار للرجال”. اهــ

قلت: ومنهنَّ عائشة رضي الله عنها كانت تحدث الرجال بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفتيهم ولم تكن تُغيّر صوتها، وكذلك كانت تُحدّث بعض النساء من ءال صلاح الدين الأيوبي حديث رسول الله للرجال، ومن راجع كتب طبقات المحدثين والحفاظ والفقهاء لوجدها عامرة بتراجم من أخذ منهم العلم سماعًا وقراءة عن النساء.

والأفضل أن يُعلم النساءَ النساءُ في المكان الذي يوجدُ فيه من النساء من هنَّ أهل للتعليم من حيث الكفاءة والثقة، والله سبحانه وتعالى أعلم.