باب ذكر مولده الشريف وإرضاعه عليه السلام وما وقع فيهما من العجائب والآيات الخوارق الغرائب
وولد النبيُّ عامَ الفيلِ ***** أيْ في ربيعٍ الأولِ الفضيلِ
ليومِ الاثنين مُباركًا أتى ***** لليلتين مِنْ ربيعٍ خَلتا
وقيلَ بل ذاكَ لثنتيْ عشرة ***** وقيلَ بعدَ الفيل ذا بفترة
بأربعين أو ثلاثين سنة ***** ورُدَّ الخُلْفُ وبعضٌ وهَّنَهْ
ولد صلى الله عليه وسلم بمكة داخل الزقاق المعروف بزقاق المدكك [1] بالدال المهملة جعلتها بيد عقيل بن أبي طالب ثم باعها ولده من أخي الحجاج ثم جعلتها المدكك [2]، وقيل ولد: بالردم، وقيل: بالشعب، وقيل: بعسفان وهو شاذ، وذلك عام الفيل كما في المستدرك [3] عن ابن عباس.
قال ابن عبد البر: ويحتمل أن يريد بعامه اليوم الذي حبس فيه الفيل عن الحرم، وقال مغلطاي: ولد عند طلوع الفجر يوم أرسلت الطير الأبابيل، ومن قال ولد ليلًا أراد مجاز المجاورة، وقصة الفيل مشهورة.
وقوله: “أي في ربيه الأول” الذي ورد الشرع بتفصيله لا في صفر ولا في ربيع الآخر ولا رجب ولا رمضان ولا يوم عاشوراء على الأصح، و”الفضيل” بمعنى الفاضل والمفضل، واللام في قوله: “ليوم” بمعنى “في” كقوله تعالى: {ونَضَعُ الموازينَ القِسْطَ ليومِ القيامةِ} [سورة الأنبياء].
وقوله: “مباركًا أتى” أي من بركة يوم الاثنين كون النبي أتى أي ولد فيه ولهذا جاء في السنة تفضيله وتفضيل الصوم فيه، ففي المستدرك [4] أن أعرابيًا سأل المصطفى عن صوم يوم الاثنين فقال: “ذاك اليوم الذي ولدت فيه وأنزل عليّ فيه”، وفيه في الخبر [5] “ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ونبئ يوم الاثنين وهاجر يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ومات يوم الاثنين.
وكانت ولادته عند طلوع الفجر كما تقرر لليلتين مضتا من ربيع الأول على الأصح عند الأكثر، ولم يذكر الحافظ عبد الغني في سيرته غيره [6]، وقيل: بل ولد لثنتين عشرة ليلة خلت منه وهو الأشهر وعليه العمل، لكن الأصح عند الجمهور الأول، وقيل: لثمان، وقيل: لعشرة، وقيل: لسبع عشرة، وقيل: لثمان بقين منه، وقيل: ولد بعد عام الفيل بزمن طويل وهو مراد الناظم بقوله: “وقيل بعد الفيل ذا بفترة” أي وكان هذا بعد فترة طويلة بين وقعة الفيل وبين مولده، واختلف في ذلك فقيل بعشر سنين، وقيل: بأربعين، وقيل: بثلاثين، وقيل: بخمسين، وقيل: بخمسة وخمسين يومًا، وقيل غير ذلك.
وقوله: “ورُدَّ” بضم الراء وشد الدال، وقوله: “الخُلف” بضم الخاء المعجمة أي رد ابن الجزار على هذا الخلاف وحكى الإجماع على أنه ولد عام الفيل، وقوله: “بعضٌ وهنه” أي وبعض العلماء ضعّف الخلاف جدًا وقطع بأنه عام الفيل.
تنبيه: لم يولد في يوم جمعة ولا شهر حرام ولا رمضان دفعًا لتوهم تشرفه بذلك الزمن الفاضل.
وقد رأتْ إذ وَضَعتهُ نورا ***** خرجَ منها فأضا القُصورا
قصورَ بُصرى قد أضاءت ووُضعْ ***** بَصرُهُ إلى السماءِ مُرتفعْ
وقع في حال ولادة المصطفى خوارق منها أن أمه ءامنة رأت حين وضعته نورًا خرج منها أضاء وانتشر حتى رأت القصور أي قصور بُصْرَى بضم الموحدة التحتية وسكون الصاد المهملة وفتح الراء المهملة مدينة بالشام وهي حوران أو قيسارية، وقد أضاءت تلك القصور من ذلك النور كما ورد في عدة أخبار عند أحمد وغيره [7]، ووقع من بطن أمه على الارض شاخصًا رافعًا بصره إلى السماء لكونها أعلى الآيات الباهرة الدالة على وحدانيته تعالى، ومهبط الوحي ومنزل الملائكة. أخرج ابن عساكر عن أبي الحسن التنوخي: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة فيُكفين عليه بُرمة، فلما ولد المصطفى فعلن به ذلك، فلما أصبحن وجدن البرمة انقلبت عنه وهو مفتوح العينين شاخص ببصره إلى السماء. وفي حديث مخزوم بن هانئ عن أبيه وكان قد أتت عليه مائة وخمسون سنة قال [8]: “لما كانت الليلة التي ولد فيها انكسر إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفةً، وخمدت نار فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى [9] الموبذان [10] إبلًا صعابًا تقود خيلًا عرابًا قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى أفزعه ما وقع فسأل علماء مملكته عن ذلك فأرسل إلى سطيح [11]” فذكر القصة بطولها، أخرجها ابن عساكر وغيره في معرفة الصحابة بسنده.
تتمّة: ذكر القيرواني المعبر في البستان أن عبد المطلب كان رأى في منامه سلسلة فة خرجت منه أضاء لها العالم، لها طرف بالسماء وطرف بالأرض وطرف بالمشرق وطرف بالمغرب، ثم عادت كأنها شجرة على كل ورقة نور وأهل المشرق والمغرب متعلقون بها، فعبرت له بمولودٍ يتبعه أهل الأرض ويحمده أهل السماء، قال ابن حزم وغيره [12]: “ولم يلد أبواه غيره”.
ماتَ أبوهُ ولهُ عامانِ ***** وثلُثٌ وقيلَ بالنقصانِ
عنْ قدرِ ذا بلْ صحَّ كانَ حَمْلا ***** وأرضعتهُ حينَ كانَ طفلا
مع عمّهِ حمزةَ ليثِ القومِ ***** ومعْ أبي سلمةَ المَخزومي
ثويبةٌ وهْي التي أبو لهَبْ ***** أعتَقها وإنهُ حينَ انقَلبْ
هُلْكًا رُئي نومًا بشرِّ حِيبهْ ***** لكنْ سُقِي بعتقهِ ثويبهْ
مات والد المصطفى وهو ابن خمس وعشرين سنة، وقيل: ثلاثين وقيل: ثمانية وعشرين وللمصطفى سنتان وأربعة أشهر، وقيل: كان عمره أقل من ذلك فقيل: ابن سبعة أشهر، وقيل: ابن شهرين، وقيل: في المهد، قال السهيلي والدولابي وعليه الأكثر بل صح عند الحاكم في مستدركه [13] أنه كان حملًا. وأرضعته ثويبة بضم المثلثة مع عمه حمزة وأبي سلمة عبد الله المخزومي زوج أم سلمة، وثويبة منسوبة إلى أبي لهب أي كانت رقيقة لأبي لهب وأعتقها لما بشرته بولادته، وقد عدها ابن منده في الصحابة [14]، ونوزع بأنه لم يُر لغيره. ولما مات أبو لهب رئي في المنام بشرّ حيبة أي حالة لكنه سقي في جهنم في مثل النقرة وهي ما بين السبابة والإبهام جزاء بعتقه ثويبة لما بشرته بولادة المصطفى [15] وهو معنى قول الناظم: “وإنه” إلخ، فقوله: وإنه بكسر الهمزة لأنه بعد واو الحال. وقوله: “حين انقلب” أي انتقل إلى الله، و”هلكًا” بضم الهاء مصدر من الهلاك الموت، و”رئي” مبني للمفعول، و”نوما” أي في المنام، و”بشر حيبة” بكسر الحاء المهملة ومثناة تحتية ساكنة وباء موحدة أي في شر حالة، والرائي له العباس أو غيره، و”سقي” بالبناء للمجهول، وهذا الماء الذي يسقاه ليس من ماء الجنة لحرمة شرابها على الكافر.
وبعدها حليمةُ السّعديهْ ***** فظَفرتْ بالدُّرةِ السَّنيهْ
نالتْ بهِ خيرًا وأيّ خيرِ ***** مِنْ سَعةٍ ورَغَدٍ ومَيْرِ
أقامَ في سعدِ بنِ بكرٍ عندها ***** أربعةَ الأعوامِ تجني سعْدَها
وأرضعته بعد ثويبة حليمةُ بنت أبي ذؤيب السعدية نسبة إلى جدها سعد بن بكر ففازت حين أرضعته بالدرة السنية أي المضيئة المرتفعة القيمة، شبهه بها لإشراق لونه وضياء جسمه وعلو منصبه، وقد جاء في وصفه أنه أزهر اللون في صفاء الفضة كما سيأتي، فنالت برضاعته خيرًا كثيرًا وأيّ خير من سعة الرزق ورغد العيش وكثرة الميرة، روى ذلك ابن حبان والحاكم [16] في قصة رضاعه عليه السلام بإسنادهما إلى حليمة في حديث طويل، وفيه من العلامات كثرة اللبن في ثديها، ووجود اللبن في شارفها بعد الهزال الشديد وسرعة مشي حمارها، وكثرة الدر في شياهها وخصب أرضها وغير ذلك.
وأقام في بلاد سعد بن بكر عند حليمة أربعة أعوام على الصحيح تجني سعدها أي عزها وشرفها وتتعرف من الله بالخير والبركة.
وقول الناظم: “وأي خير” بنصب أي المشددة المضافة لخير النكرة وهي الدالة على معنى الكمال، فالمعنى هنا نالت حليمة به كمال الخير. وقوله: “سعة” بفتح السين و”رغد” بفتح الغين المعجمة، والرغد العيش الهنيء، والمِيرة الطعام الذي يجلب من البدو إلى الحضر، والعام الحول والنسبة إليه على لفظه، ولم يفرق العوام بين السنة والعام بل جعلوهما بمعنى، قال ابن الجواليقي: وهو غلط بل السنة من أيّ وقت عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاءً وصيفًا وفي التهذيب نحوه.
وحينَ شقَّ صدرَهُ جبريلُ ***** خافتْ عليهِ حَدَثًا يَؤولُ
ردَّتهُ سالمًا إلى ءامنة ***** وخرجتْ بهِ إلى المدينةِ
تزورُ أخوالًا لهُ فمرضت ***** راجعةً فقُبضت ودُفنتْ
هناكَ بالأبواءِ وهو عمرهْ ***** ستُّ سنين معَ شيء يقدُرُهُ
ضابطُهُ بمائةٍ أيامًا ***** وقيلَ بلْ أربعةٌ أعواما
أي ولما أقام في بني سعد أربع سنين جاء جبريل وميكائيل وعليهما ثياب بيض فأخذاه وأضجعاه وشق جبريل صدره الشريف واستخرج قلبه فشقه وأخرج منه علقةً سوداء فطرحها ثم غسله بثلج حتى أنقاه والتأم كما كان، قال السبكي: “وتلك العلقة خلقت في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فبإزالتها من قلبه لم يبق فيه محل قابل لإلقاء الشيطان”.
فلما علمت حليمة بشق صدره خافت أن يكون ذلك حدثًا يؤول إلى شيء يصاب به فأعادته إلى ءامنة سالمًا، ولما بلغ ست سنين خرجت به أمه ومعها أم أيمن المدعوة ببركة إلى المدينة الشريفة تزور به أخواله من بني النجار فأقامت به عندهم شهرًا ثم رجعت فمرضت في الطريق فماتت حال كونها راجعة به إلى مكة ودفنت بالأبواء بفتحٍ فسكون ومدٍ موضع معروف بين الحرمين وهو إلى المدينة أقرب وعمره حينئذٍ ست سنين ومائة يوم، وقيل: كان عمره سبع سنين، وقيل: ثمان، وقيل: أربع، وهذا معنى قول الناظم: “وهو عمره ست سنين” إلى ءاخره.
وقوله: “مع شي” أي من الأيام زائد عليها، وقوله: “يقدره” بفتح الياء وسكون القاف وضم الدال، وقوله: “ضابطه بمائة أيامًا” أي وهذا القدر ضبط بمائة من الأيام.
وحينَ ماتتْ حملتْهُ بركهْ ***** لجدّه بمكةَ المُباركهْ
كفلهُ إلى تمامِ عُمرهِ ***** ثمانيًا ثم مضى لقبره
لما دفنت أمه رجعت به أم أيمن بركة إلى جده عبد المطلب بمكة فكفله إلى أن صار عمره ثماني سنين، ثم هلك عبد المطلب عن سن عالية مختلف في قدرها، ومضى به أهله إلى قبره فدفنوه، ولما احتُضر وكان ضنينًا به ضمه إلى عمه أبي طالب وأكّد الوصية به.
[1] وقع في الأصل: “المدلل”، والتصويب من بعض المراجع.
[2] في نسخة: “المولد”.
[3] أخرجه الحاكم في المستدرك [2/603].
[4] أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الصيام: باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، وأحمد في مسنده [5/297-299]، والحاكم في المستدرك [2/602]، والطبراني في المعجم الكبير [12/183]، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [1/196]: “فيه ابن لهيعة وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح”، والبيهقي في السنن الكبرى [4/293].
[5] أخرجه أحمد في مسنده موقوفًا على ابن عباس [1/277]، والبيهقي في دلائل النبوة [7/233].
[6] سيرة النبي صلى الله عليه وسلم [ص/25].
[7] مسند أحمد [4/127-128]، مسند أبي داود الطيالسي [ص/155]، مستدرك الحاكم [2/600]، دلائل النبوة للبيهقي [1/80]، مجمع الزوائد للهيثمي [8/221-223].
[8] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة [1/126].
[9] أي في الرؤيا.
[10] الموبَذان للمجوس كقاضي القضاة للمسلمين، والموبذ: القاضي وفي القاموس: هو فقيه الفرس وحاكم المجوس.
[11] كاهن مشهور.
[12] جوامع السير [ص/6].
[13] أخرجه الحاكم في المستدرك ووافقه الذهبي على تصحيحه [2/600].
[14] ذكر ذلك عنه الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة [4/257].
[15] أما ما ورد هنا فهو قول بعضهم ولكنه لا يثبت لأنه لا يقوم على حجة شرعية فالرسول ما قاله إنما هو رؤيا منامية رءاها العباس ورؤيا غير الأنبياء ليست حجة، فلا يجب اعتقاد هذا القول. ثم إن هذا القول فيما هو في البرزخ قبل القيامة أن روحه أدخل جهنم فسُقي هذه السقية، أما من اعتقد أنه يخفف عنه العذاب في الآخرة في جهنم فهذا كافر لأنه كذب القرءان كذب قول الله تعالى: {ولا يُخَفَّفُ عنهُم من عذابها}، وقوله تعالى: {قالوا إنَّ اللهَ حرَّمها على الكافرين}.
[16] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير [24/ 212-213]، وابن حبان في صحيحه انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان [8/82-83]، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد [8/221]: “رواه أبو يعلى والطبراني ورجالهما ثقات”.