الْوَاْلِيْ: هوَ المالكُ
لكلِّ شىءٍ ونافذُ المشيئةِ في كلِّ شىءٍ، فمشيئتُه تنفذُ لا مشيئةَ للعبادِ إِلَّامَا شاءَ لهم مَا
شاءَ اللهُ كانَ ومَا لم يشأْ لم يكنْ. وَإِنَّ مِنْ
أصولِ عقائدِ المسلمينَ الإيمانَ بقَدَرِ اللهِ سبحانَه وتعالى، فقدْ صحَّ أَنَّ
رسولَ اللهِ ﷺ
لمَّا سئلَ عنِ الإيمانِ قالَ: ((الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ بالله ومَلائِكتِه
وكتبه ورُسُلِهِ واليوم الآخِرِ وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ))([1])
ومعنى قولِه ﷺ:
((وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ)) أَنَّ كلَّ مَا دخلَ في الوجودِ
مِنْ خيرٍ وشرٍّ هوَ بتقديرِ اللهِ الأَزليِّ، فالطاعةُ التي تحصُلُ مِنَ
المخلوقينَ والمعصيةُ التي تحصُلُ منهم كلٌّ بخلقِ اللهِ وإيجادِهِ إياهَا، وليسَ
معنى ذلكَ أَنَّ اللهَ يرضى بالشرِّ، ولا أَنَّه يأمرُ بالمعصيةِ، إِنَّما الخيرُ
مِنْ أعمالِ العبادِ بتقديرِ اللهِ ومحبَّتِهِ ورضاهُ، والشرُّ مِنْ أعمالِ العبادِ
بتقديرِ اللهِ لا بمحبَّتِهِ ورضاهُ، قالَ الإمامُ أبو حنيفةَ : والطاعةُ كلُّهَا
ما كانتْ واجبةً بأمرِ اللهِ تعالى ومحبتِهِ وبرضائِهِ وعلمِه ومشيئتِه وقضائِه
وتقديرِه، والمعاصي كلُّها بعلمِه وقضائِه وتقديرِه ومشيئتِه لا بمحبِته ولا برضائِه
ولا بأمرِه. ([2])اهـ
فَفَرْقٌ بينَ المشيئةِ وبينَ الأمرِ، فاللهُ لم يأمرْ بالكفرِ والمعاصي لكنْ كُفْرُ
الكافرينَ ومعصيةُ العصاةِ لا يمكنُ أنْ يحصلَ منها شىءٌ لو لم يُرِدِ اللهُ حصولَه،
وإِلَّالو كانَ يحصلُ ما لم يُرِدِ اللهُ حصولَه لكانَ عاجزًا والعجزُ على اللهِ
محالٌ، فالإيمانُ والطاعاتُ والكفرُ والمعاصي كلُّ ذلكَ يحصلُ بمشيئةِ اللهِ
وتقديرِه، ولَوْ لَـمْ يَشَإِ اللهُ عِصْيَانَ العُصَاةِ وكفْرَ الكَافرِيْنَ
وإيمانَ المؤمنينَ وطَاعَةَ الطّائِعِيْنَ لَمَا خَلَقَ الجَنَّةَ والنَّارَ، وليسَ
لقائلٍ أنْ يقولَ: إِنَّه إذا كانتِ المعصيةُ بمشيئةِ اللهِ فكيفَ يُعَذِّبُه اللهُ؟
فاللهُ لا يُسئلُ عمَّا يفعلُ، بلْ إِذَا عَذَّبَ اللهُ تَعَالى العَاصِيَ
فَبِعَدْلِه مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ، وَإِذَا أثَابَ الـمُطِيعَ فَبِفَضْلِهِ مِنْ
غَيرِ وجُوبٍ عليهِ، لأَنَّ الظُّلْمَ إنَّما يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ لهُ ءامِرٌ
ونَاهٍ، ولا ءامِرَ للهِ ولا نَاهيَ لَهُ، فَهُوَ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِه كَمَا
يَشَاءُ، لأَنَّهُ خالِقُ الأشياءِ ومَالِكُها، وَقَدْ جَاءَ في الحَديثِ
الصَّحِيحِ أَنَّ رسولَ اللهِ ﷺ
قالَ لسائلٍ سألَهُ عنِ القَدَرِ: ((إنَّ الله لَوْ عْذَّبَ أهْلَ أرَضِهِ
وسَمواتِه لعَذَّبَهُم وهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُم وَلَوْ رَحِمَهُم كَانَت
رَحْمَتُه خَيْرًا لَهُم مِنْ أعْمَالِهِم، ولَو أنفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا
في سَبِيْل اللهِ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤمِنَ بالقَدَرِ، وتَعْلَمَ
أنَّ مَا أصَابَكَ لم يَكُن لِيُخْطِئَكَ ومَا أخْطأَكَ لم يكنْ ليُصِيبَكَ ولو
مِتَّ علَى غَيْرِ هَذا دَخَلْتَ النَّارَ))([3])،
فكلُّ ما دخلَ في الوجودِ وُجِدَ بمشيئةِ اللهِ وعلمِهِ، فلا يَحدُثُ في العالمِ
شىءٌ إلا بمشيِئتِهِ، ولا يُصيبُ العبدَ شىءٌ مِنَ الخيرِ أو الشرِّ أوِ الصحةِ أو
المرضِ أوِ الفقْرِ أو الغِنى أوْ غيرِ ذلكَ إلا بمشيئةِ اللهِ تعالى، ولا يُخطئُ
العبدَ شىءٌ قدَّرَ اللهُ وشاءَ أنْ يصيبَهُ، وليسَ معنى هذا أَنَّ العبادَ لا
مشيئةَ لهمْ بالمرةِ، كمَا قالتْ فرقةٌ ظهرتْ في الماضي وانقرضتْ يقالُ لها
الجبريةُ([4])
ويقال لها الجهميةُ كانتْ تقولُ: إِنَّ العبدَ كالريشةِ في الهواءِ لا اختيارَ لهُ
بالمرةِ، بلِ اعتقادُ ذلكَ تكذيبٌ للدينِ، فقدْ قالَ اللهُ تعالى في القرءانِ
الكريمِ: ﭐﱡﭐ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﱠ([5])،
فأثبتَ اللهُ للعبدِ المشيئةَ ولكنْ تحتَ مشيئةِ اللهِ تعالى وليستْ غالبةً لها كمَا
قالتِ القدريةُ([6])
وهيَ فرقةٌ أخرى انتسبتْ للإسلامِ وليسَ لهم نصيبٌ فيهِ، قالوا: إِنَّ اللهَ شاءَ
الخيرَ لكلِّ العبادِ لكنْ بعضُ العبادِ عَصَوا وفعلُهُم هذا خارجٌ عنْ مشيئةِ
اللهِ. فجعلوا اللهَ مغلوبًا عاجزًا وإِنَّما العبادُ لهم مشيئةٌ واختيارٌ لكنها
تحتَ مشيئةِ اللهِ، فلا أحدَ يستطيعُ أنْ يفعلَ شيئًا لم يُرِدِ اللهُ حصولَه كمَا
يدلُّ على ذلكَ قولُه تعالى: ﭐﱡﭐﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﱠ([7])
فهذهِ الآيةُ فيها الردُّ على الجبريةِ الذينَ ينفونَ المشيئةَ والاختيارَ عنِ
العبادِ بالمرةِ، وفيها الردُّ على القدريةِ الذينَ كانوا يقولونَ بأَنَّ اللهَ
شاءَ لكلِّ العبادِ حتى لفرعونَ أنْ يكونَ مؤمنًا تقيًّا، وكذلكَ لإبليسَ، ولكنَّ
الكفارَ نَقَضُوا مشيئةَ اللهِ وغلبُوها، فجعلوا اللهَ مغلوبًا واللهُ تعالى غالبٌ
غيرُ مغلوبٍ،كمَا قالَ تعالى: ﱡﭐ ﲺ ﲻ ﲼ ﲽ ﳃ ﱠ([8])،
وكمَا قالَ سبحانَه: ﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘ ﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱠ([9])
. أمَّا معنى مَا ذُكِرَ في حديثِ جبريلَ مِنْ قولِ رسولِ اللهِ ﷺ:
((وُتُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) خَيْرِهِ وَشَرِّهِ هُنَا
وَصْفٌ لِلْمَقْدُورِ لَيْسَ وَصْفًا لِقَدَرِ اللهِ بِمَعْنَى تَقْدِيرِهِ لِأَنَّ
تَقْدِيرَهُ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَسَنٌ لَيْسَ قَبِيحًا مِنْهُ إِنَّمَا
الْمَقْدُورُ الَّذِي هُوَ شَرٌّ قَبِيحٌ مِنَ الْعَبْدِ
فِعْلُهُ. لأَنَّ المخْلُوقَ تَقُولُ عَنْهُ مِنْهُ خَيْرٌ وَمِنْهُ شَرٌّ. أَمّا
تَقْدِيرُ اللهِ الذي هُوَ صِفَتُهُ لا تَقُولُ: مِنْهُ شَرٌّ، إِذًا يَكُونُ
المعْنَى: أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ الخَيرَ وَالشّرَّ كِلَيْهِما يَحصُلانِ
بِتَقْدِيرِ اللهِ تعالى بِمَشيئَةِ اللهِ وَبِتَخْلِيقِهِ، هذهِ عَقِيدَةُ أَهْلِ
السنَةِ والجماعَةِ.
دُعَاءٌ:
اللَّهُمَّ احْفَظْ لَنَا دِيْنَنَاْ الذيْ هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا يا اللهُ.