الخميس يناير 2, 2025

الْحَلِيْمُ: هوَ ذو الصَّفحِ والأناةِ الذي لا يَستَفِزُّهُ غَضَبٌ ولا عِصيانُ العُصاةِ، والحليمُ هوَ الصَّفوحُ معَ القُدرَةِ ﭧﭐﭨﭐﱡﭐﱰ ﱱ ﱲ ﱳﱴ([1]) فاللهُ سبحانَه يغفرُ الزللَ ولو كَثُرَ إلا أنْ يشرَكَ به شىءٌ فلا يُعَجِّلُ للمذنبِ الانتقامَ إلا بما وردَ في الشرعِ كنحوِ قطيعةِ الرحمِ والبغيِ كمَا وردَ عنْ أَبي بَكْرَةَ  قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ في الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ في الآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ))([2]) اهـ وَالحِلْمُ إِذَا أُطْلِقَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَكُونُ بِمَعْنَى الانْفِعَالَاتِ وَإِذَا أُطْلِقَ الحِلْمُ عَلَى المخْلُوقِ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّأَنِّي وَعَدَمِ التَّسَرُّعِ وَهَذِهِ الخِصَالُ مِنْ خِصَالِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَكَانَ مِمَّا يُوَصِي بِهَا فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ((مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا فَإنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ، وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لِنَفْسِهُ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمَ للهِ بِهَا)) ([3]).

قِصَّةٌ: كَانَ أَحَدُ أَحْبَارِ اليَهُودِ مِنْ أَهْلِ المدِينَة المنَوَّرَةِ قَدْ وَجَدَ فِي بَعْضِ الكُتُبِ القَدِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّ ءاخرِ الزَّمَانِ لَا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الجَهْلِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا. فأراد هَذَا الحَبْرُ اليَهُودِيُّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بنُ سَعْيَه([4]) أَنْ يَمْتَحِنَ رَسُولَ اللهِ لِيَرَى إِنْ كَانَ الوَصْفُ الَّذِي وجَدَه فِي الكُتُبِ القَدِيمَةِ عَنْ نَبِيِّ ءاخر الزَّمَانِ يَنْطَبِقُ عَلَيْهِ، فَعَامَلَ الرَّسُولَ بَدَينٌ مُؤَجَّلٍ لِأَجْلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الأَجَلُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جَاءَ زَيْدٌ إِلَى النَّبِيِّ يُطَالِبُهُ بِالدَّيْنِ وَنَالَ مِنَ الرَّسُولِ بِكَلِمَاتٍ قَبِيحَةٍ وَشَتَائِمَ فأراد سَيِّدُنَا عَمَرُ بِنُ الخَطَّابِ  أَنْ يَنْتَقِمَ مِنْهُ وَكَادَ أنْ يَبْطِشَ بِهِ فَيَقْتُلَهُ، فَنَهَاهُ الرَّسُولُ الحَلِيمُ الصَّبُورُ عِنْدَهَا عَلِمَ اليَهُودِيُّ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا هُوَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا وَأَنَّهُ نَبِيُّ ءاخرِ الزَّمَانِ فَنَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ([5]). اهـ فَالحِلْمُ وَالأَنَاةُ خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولِهِ، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ أُمِّ أَبَانَ بِنْتِ الوَازِعِ بنِ زَارِعٍ عَنْ جَدِّهَا زَارِعٍ وَكَانَ فِي وَفْدِ عَبْدِ القيسِ قَالَ: “لَمَّا قَدِمْنَا المدِينَةَ فَجَعَلْنَا نَتَبَادَرُ مِنْ رواحِلِنا فَنُقَبِّلُ يَدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَرِجْلَهُ([6]) وَانْتَظَرَ المنْذِرُ([7]) الأشجُّ حَتَّى أَتَى عيبَتَه([8]) فَلَبِسَ ثَوْبَيْهِ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ فقالَ لهُ: ((إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمَ وَالأنَاةَ))، قالَ: يَا رَسُولَ الله أَنَا أَتَخلق بِهِمَا أَمِ اللهُ جَبَلَنِي([9]) عَلَيْهِمَا؟ قال: ((بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا))، قالَ: الْحَمْدُ لله الَّذي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ”([10]). وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَلَامُ بِالحِلْمِ بِقَولِهُ تَعَالَى: ﭐﱡﭐﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹﱺ ﱻ ﱼ ﱽ ﱾﱿ([11]). وَكَذَلِكَ وُصِفَ بِهِ سَيِّدُنَا إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَلَامُ قَالَ اللّه تَعَالَى: ﭐﱡﭐﳄ ﳅ ﳆﳇ([12]). فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَلَامُ وَابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السَلَامُ كَانَا حَلِيمَيْنِ انْقَادُوا لِأَمْرِ اللّه تَعَالَى كَمَا جَاءَ فِي كِتَابِ الله.

فائدةٌ: ورد عَنْ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ  قَالَ: لَقَّنَنِي رَسُولُ اللهِ هَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ وَأَمَرَنِي إِنْ نَزَلَ بِي كَرْبٌ أَوْ شِدَّةٌ أَنْ أَقُولَهُنَّ: ((لَا إِلهَ إِلَّا اللهُ الْكَرِيْمُ الْحَلِيْمُ وَسُبْحَانَهُ وَتَبَارَكَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) ([13]).

دُعَاءٌ: اللهُمَّ يَا حَلِيمُ يَا عَلِيمُ يَا رَبَّ العَالَمِينَ حَسِّنْ أَخْلَاقَنَا يَا اللهُ.



 سورة الحج / 59.([1])

 سنن الترمذي ج 7 ص 224.([2])

 صحيح البخاري كتاب المناقب باب صفةِ النبيِّ ﷺ. ([3])

 ([4]) قال ابن عبد البر: زيد بن سعنة، ويقال: سعية بالياء، كان من أحبار يهود، أسلم وشهد مع النبي مشاهد كثيرة، وتوفي في غزوة تبوك مقبلًا إلى المدينة روى عنه عبد الله بن سلام.اهـ  الاستيعاب في معرفة الأصحاب ج2 ص122.

 صحيح ابن حبان ج 1 ص 181.([5])

 ([6]) ومنه يستدل على أنه يجوز تقبيل أيدي الوالدين والصالحين والعلماء من أهل الدين والعلم والفضل، فعن أسامة ابن شريك قال: “قمنا إلى النبي ﷺ فقبَّلنا يده” رواه أبو بكر بن المقرئ في جزء “تقبيل اليد” (ص/58)، وقال الحافظ ابن حجر: “سنده قوي”. انظر: “فتح الباري” (ج11/ص 57)، وذكر هناك مجموعة من الأحاديث ووصفها بالجيدة الأسانيد.  وروى البيهقي في “السنن الكبرى” (ج7/ص 101) بسنده عن تميم بن سلمة قال: “لَمَّا قَدِمَ عُمَرُ t الشَّامَ اسْتَقْبَلَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ t، فَقَبَّلَ يَدَهُ، ثُمَّ خَلَوْا يَبْكِيَانِ”. قَالَ: فَكَانَ يَقُولُ تَمِيمٌ: “تَقْبِيلُ الْيَدِ سُنَّةٌ، قال الإمام النووي رحمه الله: “يُستحب تقبيل يد الرجل الصالح، والزاهد، والعالم، ونحوهم من أهل الآخرة.اهـ المجموع (ص4/ ج636) وقد صنّف أبو بكر بن المقرئ فيها جزءًا خاصًّا، وتوسع في تقريرها الإمام ابن حجر رحمه الله في “فتح الباري” (ج11/ص 56-57) وأفاض في ذِكْرِ الأدلة عليها، ومما قاله: “وإنما كرهها مالك إذا كانت على وجه التكبر والتعظم، وأما إذا كانت على وجه القربة إلى الله لدينه أو لعلمه أو لشرفه؛ فإن ذلك جائز اهـ، قال الذهبي: وقد كان ثابت البناني إذا رأى أنس بن مالك أخذ يده فقبلها ويقول: يد مست يد رسول الله .اهـ سير أعلام النبلاء ج 4 ص43 وكذلك يجوز تقبيل المواضع المباركة كقبر النبي ﷺ وقدصح في الحديث الذي رواه الحاكم أن أبا أيوب الأنصاري t زار قبر النبي ووضع وجهه على القبر الشريف.اهـ المستدرك على الصحيحين ج4 ص559 . وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يمس  قبر النبي ويقبله للتبرك فقال: لا بأس. العلل ومعرفة الرجال ج 2 ص 35 .

 ([7]) قال المزي: المُنْذِرُ بنُ عَائِذِ العَصَرِي، وهو من أهل عُمَان  وكان سيِّد قومه. وفَد علـى النَّبيِّ في وَفْد عبد القيس وقال له النَّبيُّ: «إِنَّ فيكَ لخَصْلَتين يُحِبُّهُما اللهُ ورسولُه: الحِلْمُ والأناةُ».اهـ تهذيب الكمال للمزي ج18 ص376.

([8]) عَيْبَتِهِ: مستودع الثياب.اهـ عون المعبود شرح سنن أبي داوود للآبادي ج14 ص135.

جبلني: أي خلقني. اهـ عون المعبود شرح سنن أبي داوود للآبادي ج14 ص135. ([9])

 سنن أبي داوود ج 14 ص 135.([10])

 سورة التوبة / 114.([11])

 سورة الصافات / 101.([12])

 سنن النسائي الكبرى ج 6 ص 162. ([13]