الأحد نوفمبر 9, 2025

قال المؤلف رحمه الله: [واللهُ تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ويَهدى مَنْ يَشَاءُ].

(الشرحُ): أنَّ اللهَ تعالى يُضِلُّ أيْ يخلق الضلالة في قلبِ مَنْ يشاء مِن عباده كما أنه سبحانه يخلق الاهتداء في قلب مَن يشاء مِن عباده لأنه الخالق وحدَهُ فلا أحد يَهدِي أو يُضِلُّ بهذا المعنى إلا اللهُ فالأنبياءُ وأتباعهم لا يهدون بهذا المعنَى إنما هم يَهدون بمعنَى أنهم يدلون الناس على طريق الهُدَى وأما خلقُ الاهتداء فليس مِمَّا يدخل في إمكانهم لذلك لم يَهْدِ الأنبياءُ بهذا المعنَى الذي هو خَلْقُ الاهتداء كثيرًا مِن أقاربهم فنوحٌ عليه السلام ما استطاع أن يقلب قلبَ ابنِهِ الذي عصاه فغرق مع الكفار كذلك إبراهيمُ ما استطاع أن يخلق في أبيه الاهتداءَ لكن كلٌّ منهما هَدَى بمعنَى دَلَّهُ على طريق الرشاد، وكذلك سينا محمد صلى الله عليه وسلم بعضُ أقاربه ما اهتدَوْا لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يخلق الاهتداء في قلوب الناس إنما اقدره الله على الدّلالة بالبيان وهذا معنى {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99] أي أنه يدل الناس على طريق الهداية ولا قدرة له على خلق الهداية فيهم وعلى هذا المعنى يُنَزَّل قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ} [فصلت: 17] أيْ دَلَلْناهم على طريق الهُدَى وليس معناه خلقنا في قلوبهمُ الاهتداءَ لأنه لو خلق في قلوبهم الاهتداء لحصل منهم الاهتداء فالحاصلُ: أنَّ الهداية تكونُ بمعنَى خلقِ الاهتداءِ كما كونُ أيضًا بمعنى الدلالة على طريقٍ يوصل إلى المطلوب سواءٌ حصل الوصول والاهتداء أم لم يحصل.

وأوَّلت المعتزلة قوله تعالى: {يُضِلُّ مَن يَشاءُ} [فاطر: 8] على معنى أنه يُسَمِّيهِمْ ضَالِّين لا على معنى أنه يخلق الضلالة فيهم وهذا تبديلٌ وليس بتأويلٍ. قال التفتازانيُّ وفي التقييد بالمشيئة إشارةٌ إلى أن ليس المراد بالهداية بيان طريق الحق لأنه عامٌّ في حقِّ الكل ولا الإضلال عبارة عن وِجدان العبد ضالًّا وتَسْمِيَتِهِ ضالًّا إذ لا معنى لتعليق ذلك بمشيئة الله تعالى اهـ.

قال المؤلف رحمه الله: [وما هُوَ الأصلحُ للعبدِ فليسَ ذلك بواجبٍ على الله تعالى].

(الشرحُ): أنَّ هذا ردٌّ على المعتزلة لأنهم قالوا وابجٌ على الله أن يفعل بالعبد ما هو الأصلحُ له وأمَّا أهلُ السُّنَّةِ فقالوا إنَّ اللهَ يفعلُ ما يشاءُ ولا يحكمُهُ في فعلِهِ حاكمٌ وإلا لَمَا خلقَ اللهُ الكافرَ الفقيرَ المعذَّبَ في الدنيا والآخرة، ولَمَا كان له سبحانه مِنَّةٌ على العباد واستحقاقُ شكرٍ في الهداية وإفاضةِ أنواع الخيرات لكونه إنما يُؤدِّي الواجبَ، ولَمَا كان امتنانُهُ على النبيِّ عليه السلام فوق امتنانه على أبي هل غذ فعل الله لكل منهما غايةَ مقدورِهِ مِن الأصلحِ له، ولَمَا كان لسؤالِ العصمةِ والتوفيقِ وكشفِ الضراء والبسطِ في الخصب والرخاء معنى لأنَّ ما لم يفعله في حقِّ كلِّ واحدٍ فهو مفسدةٌ له يجب على الله تركه، ولَمَا كان سبحانَهُ قادرًا على خلقِ شَيٍْ زائدٍ مِمَّا فيه مصلحةٌ للعبادِ إذْ قد أتى بالواجب اهـ. قاله التفتازانِيُّ وقال وَلَعَمْرِي إن مفاسد هذا الأصل أعنِي وجوب الأصلح بل أكثرِ أصول المعتزلة أظهرُ مِن أن يَخفى وأكثرُ مِن أنْ يُحْصَى وذلك لقصور نظرهم في المعارف الإلهية ورسوخ قياس الغائب على الشاهد في طباعهم اهـ.

وقد ذكر تاج الدين السبكي في طبقاته وغيرُهُ عن أبي الحسن الأشعريِّ أنه ناظر أبا عليٍّ الجُبَّائيَّ فقال له الأشعريُّ م اقولك في ثلاثة مؤمن وكافر وصبيٍّ فقال الجبائيُّ المؤمنُ من أهل الدرجات والكافر من أهل الهلكات والصبيُّ من أهل النجاة فقال الأشعريُّ فإن أراد الصبيُّ أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن فقال الجبائيُّ لا يُقال له إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة وليس لك مثلُها فقال الأشعريُّ فإن قال أيِ الصبيُّ التقصير ليس مِنِّي فلو أحيَيْتَنِي كنتُ عملتُ مِن الطاعات كعمل المؤمن قال الجُبَّائيُّ يقول له اللهُ كنتُ أعلمُ أنك لو بقيتَ لَعَصَيْتَ وَلعُوقبتَ فراعيتُ مصلحتَكَ وأمَتُّكَ قبل أن تنتهِيَ إلى سن التكليف فقال له الأشعريُّ رَضِيَ اللهُ عنه فلو قال الكافرُ يا ربِّ علمتَ حاله كما علمتَ حالِي فهلَّا راعيتَ مصلحتِي مثله فانقطع الجُبَّائِيُّ اهـ.