الجمعة أكتوبر 25, 2024

المجلِسُ الثّالِثُ: في ذِكرِ العَشرِ الأوسَطِ والنِّصفِ الأَخيرِ مِن رَمضانَ

ورد في «الصّحِيحَين» عن أبي سعيد الخُدرِيّ رضي الله عنه قال: كانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعتَكِفُ في العَشرِ الأَوسَطِ مِن رَمَضانَ، فاعْتَكَفَ عامًا حتَّى إذَا كانَتْ لَيلةُ إِحْدَى وعِشْرِينَ وَهِيَ الَّتِي يَخرُجُ في صَبِيحَتِها مِن اعتِكافِهِ قالَ: «مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِي، فَلْيَعْتَكِفِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، وقدْ أُرِيتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا، وقدْ رَأَيْتُنِي أسْجُدُ في مَاءٍ وطِينٍ مِن صَبِيحَتِهَا، فَالْتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، والتَمِسُوهَا في كُلِّ وِتْرٍ»، فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلكَ اللَّيْلَةَ وكانَ الـمَسْجِدُ علَى عَرِيشٍ، فَوَكَفَ الـمَسْجِدُ، فَبَصُرَتْ عَيْنَايَ رَسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم علَى جَبْهَتِهِ أثَرُ الـمَاءِ والطِّينِ، مِن صُبْحِ إحْدَى وعِشْرِينَ.

هذا الحدِيثُ يَدُلّ علَى أنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَعتكِفُ العَشرَ الأوسَطَ مِن رَمضانَ لابتِغاءِ لَيلةِ القَدرِ فيهِ، والسِّياقُ يَقتضِي أنّ ذلكَ تَكرَّرَ مِنهُ.

ورُوِيَ أنّ عُمَر جمَع جماعةً مِن الصّحابةِ فسأَلَهُم عَن لَيلةِ القَدرِ فقال بعضُهم: كُنّا نَراها في العَشرِ الأوسَطِ ثُمّ بَلَغَنَا أنّها في العَشرِ الأواخِر.

وأخرجَ ابنُ أبي عاصمٍ في «الصِّيام» وغيرِه مِن حدِيث خالدِ بنِ مَحْدُوجٍ عن أنَسٍ أنّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الْتَمِسُوهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ أَوْ فِي تِسْعٍ أَوْ فِي أَرْبَعَ عَشرَةَ» وخالِدٌ هذا فيه ضَعفٌ، وهذا يَدُلّ على أنّها تُطلَبُ في ليلتَينِ مِن العَشرِ الأُولَ وفي لَيلةٍ مِن العَشرِ الأوسَطِ وهي أربعَ عَشرةَ. وقد ورَد في أحادِيثَ أُخرَى الأمرُ بطلَبِ لَيلةِ القَدْرِ في النِّصفِ الآخِر مِن رَضمانَ وفي أفرادِ ما بَقِيَ مِن العَشرِ الأوسَطِ مِن هذا النِّصفِ وهُمَا لَيلةُ سَبعَ عَشْرَةَ وتِسعَ عَشرةَ.

وأخرَج الطّبرانِيُّ مِن روايةِ أبي الـمُهْزَم وهو ضَعِيفٌ عن أبِي هُريرةَ مَرفوعًا حديثًا فيهِ الأمرُ بالْتِماسِها في أفرادِ النِّصفِ الثانِي كُلِّها، وقد رُوِي عن طائفةٍ مِن الصّحابةِ أنّها تُطلَبُ لَيلةَ سَبعَ عَشْرَةَ، ورُوِي ذلكَ عن علِيّ وابنِ مَسعودٍ وزَيدِ بنِ أرقَمَ وزَيدِ بنِ ثابتٍ وعمرٍو بنِ حُرَيثٍ رضي الله عنهم، وحكَى الإمامُ أحمدُ هذا القولَ عن أهلِ المدينة، وعن أهلِ مكّةَ أنّهُم كانوا لا يَنامُون فيها بَل يقُومون بالطّاعاتِ ويَعتمِرُون، إلّا أنّ الـمُثبَت عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم الأمرُ بالْتِماسِها في العَشرِ الأواخِر.

وحُكِي عن أبي يوسُفَ ومحمّدٍ صاحِبَي أبِي حَنيفة رضي الله عنه أنّها في النِّصفِ الآخِر مِن رَمضانَ مِن غيرِ تَعِيينٍ، وعن عبدِ الرّحمنِ بنِ الحارثِ بن هشامٍ أنّها ليلةُ سَبعَ عَشْرةَ ليلةُ جُمعةٍ أي تكونُ ليلةَ القدرِ إذا كانتْ لَيلةَ جُمعةٍ.

وفي شَهرِ رَمضانَ يَلطُفُ اللهُ بأُمّةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم فيُعَلُّ فيه الشّياطِينُ مرَدةُ الجِنّ حتّى لا يقَدرُوا على ما كانُوا يَقدِرونَ علَيه في غَيرِه مِن الشَرِّ، ولهذا تَقِلُّ المعاصِي في رَمضانَ في الأُمّة، ففي «الصّحِيحَين» عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتِ الشَّياطِينُ»، ولِمُسْلِمٍ: «فُتِّحَتْ أَبُوابُ الرَّحْمَةِ».

وأخرَج البُخارِيّ والتّرمذِيُّ وابنُ ماجهْ عنه عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادِى مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ».

وللإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُعْطِيَتْ أُمَّتي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ لَمْ تُعْطَهَا أُمَّةٌ قَبْلَهُمْ: خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ حَتَّى يُفْطِرُوا، وَيُزَيِنُ اللهُ تعالى كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ([1])، ثُمَّ يَقُولُ([2]): يُوشِكُ عِبَادِي الصَّالِحُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ الْمَؤُونَةَ وَالْأَذَى وَيَصِيرُوا إِلَيْكِ، وَيُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ فَلاَ يَخْلُصُوا فِيهِ إِلَى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إلَيْهِ فِي غَيْرِهِ، وَيُغْفَرُ لَهُمْ([3]) فِي ءَاخرِ لَيْلَةٍ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَهِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟ قَالَ: «وَلَكِنَّ الْعَاملَ إِنَّمَأ يُوَفَّى أَجْرَهُ إِذَا قَضَى عَمَلَهُ».

وفي لَيلةِ القَدْرِ تَنتشِرُ الملائكةُ في الأرضِ فيَبطُل سُلطانُ الشّياطِين كما قال اللهُ تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4، 5]، وفي «مُسنَد أحمد» عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تِلكَ اللَّيْلَة فِي الْأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الْحَصَى»([4])، وفي «صحِيح ابنِ حِبّان» عن جابرٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في لَيلةِ القَدْر: «لَا يَخْرُجُ شَيْطَانُهَا حَتَّى يَخْرُجَ فَجْرُهَا»، وفي «مُسنَد أحمد» مِن حدِيث عُبادةَ بنِ الصّامتِ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ فيها: «وَإِنَّ أَمَارَتَها أَنَّ الشَّمْسَ صَبِيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَوِيَةً لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ مِثْلَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ([5])»، وقال مجاهِدٌ في قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] سَلامٌ أنْ يَحدُث فيها داءٌ أ ويَستطِيعَ شَيطانٌ العمَلَ فيها.

أبشِرُوا يا معاشِرَ الـمُسلمِينَ فهذه أبوابُ الجنّةِ الثّمانِيةُ في هذا الشَّهرِ قَد فُتِحَت، وأبوابُ الجَحِيم كُلُّها قَد أُغلِقَتْ، وأقدامُ الـمَرَدةِ مُوثَقةٌ، وفِي هذا الشّهرِ يَغتاظُ إبليسُ لِمَا يَرَى مِن تَنزُّلِ الرّحمةِ ومَغفِرة الأوزارِ للمُؤمنِينَ العُصاة.

عِبادَ اللهِ، إذا انتصَف شَهرُ رَمضانَ فمَن مِنكُم حاسَب نَفْسَه فيه، ومَن مِنكُم قامَ فيه بِحَقِّه، ألَا إِنَّ شَهرَ رَمضانَ كُلّ يومٍ مِنهُ يأخُذ في الانِقضاءِ فَزِيدُوا أنتُم في العمل، فكأنَّكُم بِه وقَدِ انصَرَف فكُلُّ شَهر عسَى أنْ يَكُون مِنهُ خَلَفٌ إِلّا شَهرَ رَمضانَ فمِن أينَ لكُم منه خَلَفٌ؟!

مَنْ فَاتَهُ الزَّرْعُ فِي وَقْتِ البِدَارِ فَمَا

 

 

تَرَاهُ يَحْصُدُ إِلَّا الْهَمَّ وَالنَّدَمَا

طُوْبَى لِمَنْ كَانَتِ التَّقْوَى بِضَاعَتَهُ

 

 

فِي شَهْرِهِ وَبِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِمَا

[1])) أي: يَخْلُق الله تعالَى فيها ذلك، وفِعلُ الله تعالى ذلكَ بلا مُباشَرةٍ منه ولا مُماسَةٍ، لا يُشبِهُ شيئًا مِن خلقه في ذاتِه ولا فِي صِفاتِه ولا في أفعالِه.

[2])) ليسَ معنَى ذلكَ أنّ اللهَ تعالَى يكُون ساكِتًا ثُمّ يتَكلَّم ثُمّ يَسكُت، حاشا للهِ، فاللهُ تعالَى له صِفةُ الكلامِ الأزليّ الأبَدِيّ الّذي ليسَ له بِدايةٌ ولا نهايةٌ، هي صِفةٌ أزليّةٌ أبدِيّةٌ لا تُشبِه صِفاتِ المخلُوقِينَ، فكلامُه تعالى كلامٌ واحِدٌ لا ابتِداءَ له ولا انقٍضاءَ، ليسَ كلامُه حرفًا ولا صوتًا ولا لُغةً ولا هو يَتقطَّع ولا يَتعاقَبُ ولا يَتّصِلُ ولا يَنفصِلُ ولا يتألَّفُ ولا يَتركَّبُ ولا يَتبعَّضُ ولا يَتجزَّأُ ولا يُشبِهُ كلامَ المخلوقاتِ بوَجهٍ مِن الوُجوهِ.

[3])) أي: لِمَن شاءَ اللهُ مِن المؤمنِينَ.

[4])) قال الحافظ نُور الدّين الهّيثميُّ: «رواه أحمدُ والبزّارُ والطبرانيُّ في «الأوسط»، ورِجالُه ثِقاتٌ».اهـ. وقال الحافظُ البُوصيريّ: «رواه الطَّيالسِي بإسناد حسَن».اهـ

[5])) أي: لا يَستطِيعُ ذلكَ مرَدةُ الشّياطِين أو أنّ الشّيطانَ لا يُمكِنُه الخروجُ فيها إلى النّاس كما هو شأنُه في بقيّةِ العام.