الجمعة يوليو 26, 2024

المجلس الثاني: في فَضل الجُود في رمضانَ وتِلاوةِ القُرءان

ثبتَ في «الصّحِيحَين» عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ([1]) مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» و أخرَجه الإمام أحمد بزيادةٍ في ءاخرِه وهي: «لَا يُسْأَلُ عَنْ شَيءٍ إِلَّا أَعْطَاهُ».

وللهِ تعالى عُتَقاءُ مِن النّارِ وذلك في كُلّ لَيلةٍ مِن رمضانَ، ولمّا كانَ اللهُ تعالى قد جبَلَ نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم على أكمَلِ الأخلاقِ وأشرَفِها كما في حديثِ أبي هريرةَ عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّما بُعْثِتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ» دَلَّ هذا على أنّه صلى الله عليه وسلم أجوَدُ بَنِي ءادمَ على الإطلاقِ كما أنّه أفضَلُهم وأعلَمُهم في الدِّينِ وأشجَعُهم وأكمَلُهم في جميع الأوصافِ الحَمِيدة، وكان جُودُه صلى الله عليه وسلم بجَمِيع أنواع الجُودِ مِن بَذلِ العِلمِ والمالِ وبَذلِ جُهدِه في إظهارِ دِين اللهِ وهِدايةِ عِبادِه وإيصالِ النّفعِ إليهم بِكُلّ طَريقٍ مِن إطعامِ جائِعِهم ووَعْظِ جاهِلِهم وقَضاءِ حَوائجِهم وتَحمُّل أثقالِهم، ولَم يَزَلْ صلى الله عليه وسلم عَلَى هذه الخِصالِ الحَمِيدة مُنذ نَشأَ ولهذا قالتْ له خَدِيجةُ رضي الله عنها أوّلَ مَبعَثِه: «وَاللهِ مَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلَ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ الـمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ» ثُمّ تزايدَتْ هذه الخِصالُ فيه بَعدَ البِعثةِ كَمالًا وتضاعفَتْ أضعافًا كثِيرةً.

وكان جُودُه صلى الله عليه وسلم كُلُّه للهِ وفِي ابتِغاءِ مَرضاتِهِ، فإنّه كان يَبذُلُ المالَ إمّا لفَقِيرٍ أو مُحتاجٍ أو يُنفِقُه في سَبيلِ اللهِ أو يَتألَّفُ بِه علَى الإسلامِ مَن يَقوَى الإسلامُ بإسلامِه وهو يأتِي علَيه الشَّهرُ والشَّهْرانِ لا يُوقَد في بَيتِهِ نارٌ؛ بل أَكلُهُ وأكلُ زَوجَاتِه التمر والماء، وقد ربَط علَى بَطنِه الحجَر مِن الجُوعِ في بعضِ الأيّام، وكان جُودُه صلى الله عليه وسلم يَتضاعَفُ في شَهرِ رَمضانَ على غَيرِهِ مِن الشُّهورِ، وكان يَلتقِي هو صلى الله عليه وسلم وجِبريلُ عليه السلام فيُدارِسُه جِبريلُ ما نزَلَ مِن القرءانِ الّذي هو أشرَفُ الكتُب وأفضَلُها والّذي يَحُثُّ على الإحسانِ ومَكارِم الأخلاقِ، وقد كان القُرءانُ خلُقًا لرسولِ صلى الله عليه وسلم بحَيثُ كان يَرضَى لِما يُرضي اللهَ ويَسخَطُ لِسَخَطِ اللهِ ويُسارِع إلى ما حَثَّ علَيه اللهُ في كِتابِه ويَمتنِعُ ويَمنَع ممّا زَجَر اللهُ في الكتابِ عنه، ولِهذا كُلِّه كان صلى الله عليه وسلم أبدًا مُضاعَفَ الجُودِ.

وفي تضَاعُف الجُودِ في شَهرِ رَمضانَ بخُصوصِه فوائِدُ كثِيرةٌ، منها:

  • شرَفُ الزّمانِ ومُضاعَفةُ أجرٍ العمَل فيه: ففي «سُنَن التّرمِذي» عن أنسٍ مرفوعًا: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ صَدَقَةُ رَمَضَانَ»([2]).
  • وإعانةُ الصّائمِين والقائمِين والذَاكرين على طاعَتِهم: لأنّ مَن أعانَ على الخَيرِ ودَلَّ عليه كان له أجرٌ يُشبِهُ أجرَ مَن فعَلَه، ففي حدِيثِ زيدِ بنِ خالدٍ عن النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا فَلَهُ مِثْلُ أجْرِهِ([3]) مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْءٌ» أخرجَه الإمام أحمدُ والنَّسائِيُّ والتِرمذِيُّ وابنُ ماجهْ.

وأخرَج ابنُ خزَيمة في «صَحِيحِه» مِن حدِيث سلَمانَ مرفُوعًا في فضل شهر رمضان وفيه: «هُوَ شَهْرُ الْمُوَاسَاةِ، وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ، وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ».

  • رَحمةُ اللهِ الخاصّةُ بالمؤمنِينَ الرُّحَماءِ في شَهر رَمضانَ: فيَرحَم بعضُ المؤمنِينَ رحمةً خاصّةً ويَغفِرُ لبعضٍ بعضَ الذُّنوبِ ولِبَعضٍ كُلَّ الذُّنوبِ ويُعتِقُ مَن شاءَ مِنهُم مِن النّارِ لا سِيَّما في ليلةِ القَدْر، واللهُ تعالَى يَرحَم مِن عبادِه الرُّحماءَ كما قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللهُ([4]) مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ([5])»، فمَن جادَ مِن المؤمِنينَ على بعضِ المؤمِنينَ جادَ اللهُ علَيه بواسعِ العَطاءِ والفَضلِ.
  • وفضِيلةُ الجمعِ بينَ الصِّيام والصَّدَقة في شَهر رَمضانَ: وذلك مِمّا يَستحِقُّ به فاعِلُه دُخولَ الجنّةِ مع نَيلِ مَنزِلةٍ خاصّةً فيها، فقد رَوَى التّرمذيُّ مِن حديثِ عليّ رضي الله عنه عَن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا»، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الكَلَامَ، وَأَطْعَمُ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ»، فمَنِ اجتمعَتْ فيه هذِه الخِصالُ كان ذلَكَ أدعَى للانتِهاء عنِ الباطِل. والجَمع بينَ الصِّيام والصَّدَقة في رَمضانَ أرجَى في تَكفِير الخطايا واتِّقاءِ جَهنَّم والمباعَدة عنها وخصوصًا إنْ ضُمّ إلى ذلك قِيامُ اللَّيل بالطّاعةِ، وقد ثبَت عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ»، أي: سببٌ للوِقايةِ مِن عذابِ الآخِرة، وكان أبو الدَّرْداءِ رضي الله عنه يقول: «صَلُّوا في ظُلْمةِ الليلِ رَكعتَين لِظُلمةِ القُبور، صُومُوا يومًا شَدِيدًا حَرُّه لِحَرّ يَومِ النُّشورِ، تَصَدَّقُوا بِصدَقةٍ لِشَرِّ يَومٍ عَسِيرٍ».

وللجُودِ في رَمضانَ فوائِدُ أُخَرُ، ولِذا قال الشافعِيُّ رضي الله عنه: «أُحِبُّ للرّجُلِ الزِّيادةَ في الجُودِ في شَهرِ رَمضانَ اقتِداءً بِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ولِحاجةِ النّاسِ فيه إلى مَصالحِهم ولِتَشاغُل كَثِيرٍ مِنهُم بالصَّومِ والصّلاةِ عَن مكاسبهم([6])».

ومِمّا يَتأكّدُ استِحبابُه في رَمضانَ مُدارَسةُ القُرءان والاجتِماعُ على ذلكَ بالقراءةِ جماعةً بصَوتٍ واحِدٍ أو بطريقةِ الإدارةِ([7]) وعَرضِ القُرءانِ علَى مَن هو أَحفَظُ لَهُم كما يُستحَبُّ الإكثارُ مِن تِلاوتِه في شَهرِ رَمضانَ، وقَد ثبتَ في حديثِ فاطمةَ عليها السّلامُ عَن أبِيها رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّه أسَرَّ لها قائلًا: «إنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعَارِضُنِي القُرْآنَ([8]) كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وإنَّه عَارَضَنِي العَامَ مَرَّتَين، ولَا أُرَاهُ إلَّا حَضَرَ أجَلِي، وإنَّكِ أوَّلُ أهْلِ بَيْتي لَحَاقًا بِي»، وفي حديثٍ عِندَ ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهُما أنّ الـمُدارسَة بيَنَه صلى الله عليه وسلم وبَين جِبريلَ عليه السلام كانَتْ ليلًا، ويَدُلّ ذلك على استِحبابِ الإكثارِ مِن التِّلاوةِ في رَمضانَ ليلًا، فإنّ اللَّيلَ تَنقطِعُ فِيه الشَّواغِل وتَجتمِعُ فيه الهِمَمُ ويَتواطأُ فيه القَلبُ واللِّسان على تَدَبُّر مَعاني الآياتِ كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزَّمِّل: 6]، وشَهرُ رَمضانَ له خصُوصِيّةٌ بالقُرءانِ كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ} [البقرة: 185]، وقال ابنُ عبّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «أُنزِلَ جُملةً واحِدةً مِن اللَّوحِ المحفُوظِ إلى بَيتِ العِزّةِ في لَيلةِ القَدرِ، ويَشهَدُ لذلك قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} [القدر: 1]، وقولُه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3].

ويُستحَبُّ الإكثارُ مِن تِلاوةِ القُرءانِ في الأوقاتِ الفاضِلةِ كشَهرِ رمَضانَ خصوصًا اللّيالِي الّتِي تُطلَبُ فيها لَيلةُ القَدْر أو في الأماكِن المفضَّلة كمكّة لِمَن دَخَلَها مِن غَيْرِ أهلِها اغتِنامًا للزّمانِ والمكانِ.

وكان سيّدُنا عُمَرُ قد أمر أُبَيَّ بنَ كَعبٍ وتَمِيمًا الدّارِيَّ رضي الله عنهما أنْ يقُوما بالنّاسِ في شَهرِ رَمضانَ، فكان القارئُ يَقرأ بالمائَتينِ في ركعةٍ حتّى كانوا يَعتمِدُون على العصِيِّ مِن طُول القِيام وما كانوا يَنصرِفُون إلّا عِندَ الفَجرِ، ورُوِي أنّ عُمَرَ جمَع ثلاثةَ قُرّاءٍ فأمَرَ أسرعَهُم قِراءةً أنْ يَقرأَ بالنّاسِ ثلاثيِنَ وأوسَطَهم بخَمسٍ وعِشرِينَ وأبطأَهم بعِشرينَ، ثُمّ كانَ في زمَنِ التابعِينَ يَقرَءُون بالبقَرةِ في قِيامِ رمَضانَ في ثَمانِ ركَعاتٍ، فإنْ قرَأَ بها في اثنتَيْ عَشْرَةَ ركعةً رأَوا أنّه قد خَفَّف.

وسُئِلَ أحمَدُ رضي الله عنه عمّا رُوِي عن عُمَر رضي الله عنه كما تَقدَّم ذِكرُه في السّرِيع القِراءةِ والبَطِيء فقال: في هذا مشَقةٌ على النّاس([9])، ولا سِيَّما في هذه اللّيالِي القِصار، وإنّما الأمرُ على ما يَحتمِلُه النّاسُ.

فمَن أرادَ أنْ يَزِيد في القراءةِ ويُطِيل وهو يُصَلِّي لِنَفْسِه فلْيُطِل ما شاءَ كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك مَن صلَّى بجَماعةٍ محصُورِين يَرضَون بالتّطوِيل.

وكان بعضُ السّلَف يَختِمُ القُرءانَ في قيامِ رمَضانَ في كلِّ ثَلاثِ ليالٍ، وبعضُهم في كُلّ سَبعٍ، وبعضُهم في كُلّ عشَرةٍ، وكان للشافعِيّ رضي الله عنه في رمَضانَ سِتُّونَ خَتْمةً يَقرؤُها في غَيرِ الصّلاةِ وعن أبي حَنِيفَة نَحوُه، وكان الزُّهرِيُّ إذا دخَل شَهرُ رَمضانَ قال: فإنّما هو تِلاوةُ القُرءانِ وإطعامُ الطّعامِ، وكانتْ عائِشةُ رضي الله عنها تَقرأُ في المصحَفِ أوّلَ النّهارِ في شَهرِ رمَضانَ فإذا طلَعتِ الشّمسُ نامَتْ.

واعلَم أنّ المؤمِنَ يَجتمِعُ له في شَهرِ رمَضانَ جِهادانِ لِنَفْسِه: جِهادٌ بالنّهار على الصِّيام، وجِهادٌ باللّيلِ على القِيام. ويَشفَعُ الصِّيامُ والقِيامُ في صاحبِهما يومَ القِيامة، قد جاءَ في الحديثِ الّذي رواهُ أحمدُ في «مُسنَدِه» مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عمرٍو رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصِّيَامُ وَالْقُرْءانُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ([10])، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْءانُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ([11])».

قال ابنُ مَسعودٍ رضي الله عنه: «يَنبغِي لقارِئ القُرءانِ أنْ يُعرَف([12]) بِلَيلِه إذا النّاسُ نائِمُون، ونَهارِه إذا النّاسُ يُفطِرُون، وبِبُكائِه إذا النّاسُ يَضحكُون، وبِوَرَعِه إذا النّاسُ يَخلِطُون، وبِصَمْتِه إذا النّاسُ يَخُوضُون، وبِخُشُوعِهِ إذا النّاسُ يَختالُون، وبِحُزنِه إذا النّاسُ يَفرَحُون».

قال أحمدُ بنُ أبِي الحوَارِيّ([13]) رضي الله عنه: «إنّي لأقرأُ القُرءانَ وأنظُر في ءايةٍ فيتَحيَّرُ عَقلِي بِها واعجَبُ مِن حُفّاظ القُرءانِ كَيفَ يُهَنِّئهِم النّومُ ويَسعهُم أنْ يُشغَلُوا بِشيءٍ مِن الدُّنيا وهُم يَتلُون كلامَ اللهِ، وأمَا إنّهُم([14]) لَو فَهِمُوا ما يَتلُون وعرَفُوا حقَّه وتلَذَّذُوا بِه واستَحْلَوا المناجاةَ بِه لذهَب عنهُم النّومُ فرَحًا بما قد رُزِقُوا». وأنشَد ذُو النُّونِ المصرِيُّ:

مَنَعَ القُرَاْنُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ

 

 

مُقَلَ العُيُونِ بِلَيْلِهَا لَا تَهْجَعُ

فَهِمُوا عَنِ الْمَلِكِ العَظِيمِ كَلَامَهُ

 

 

فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ

 

   

أمّا حافِظُ القُرءان أو مُتعهِّدُهُ بالقِراءةِ الّذي لا يَعمَل بأحكامِهِ فيضيِّعُ الفرائضَ ويَرْتَكِبُ المنَاهِي فقد جاء فيه حديثٌ رواهُ ابنُ أبي شَيبةَ مِن حديثِ عمرو بن شُعَيبٍ عن أبيه عن جدِّه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلًا، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ فَخَالَفَ في أَمْرِهِ فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا لَهُ فَيَقُولُ([15]): يَا رَبِّ، حَمَّلْته إيَّايَ فَشَرُّ حَامِلٍ، تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي، وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي، وَتَرَكَ طَاعَتِي، فَمَا يَزَالُ يَقْذِفُ عَلَيْهِ بِالْحُجَجِ حَتَّى يُقَالَ: فَشَأْنُك بِهِ، فَيَأْخُذُ بِيَدِهِ، فَمَا يُرْسِلُهُ حَتَّى يَكُبَّهُ عَلَى مَنْخِرِهِ فِي النَّارِ».

هذا عبادَ اللهِ شَهرُ رَمضانَ الّذي أُنزِلَ فيه القُرءانُ وفي بَقِيّتِه للعابدِين مُستَمتَع، وهذا كِتابُ اللهِ يُتلَى فِيه بَين َأظهُرِكُم ويُسمَعن وهو القُرءانُ الّذي لَو أُنزِلَ على جبَلٍ لرأيتَه خاشِعًا يَتصَدَّع، ومَع هذا فلا قَلبَ يَخشَعُ ولا عَينَ تَدمَع، ولا صِيام يُصانُ عَن الحرامِ فيَنفَع([16])، ولا قِيام استَقامَ فيُرجَى في صاحبِه أنْ يَشفَع، قلُوبٌ خلَتْ مِن التّقوَى فهي خَرابٌ بَلْقَع([17])، وتَراكَمتْ علَيها ظُلمةُ الذُّنوبِ فهي لا تُبصِرُ ولا تَسمَع، كَم تُتلَى علَينا ءاياتُ القُرءانِ وقُلوبُنا كالحِجارةِ أو أشَدُّ قَسوَة([18])، وكَم يَتوالَى علَينا شَهرُ رَمضانَ وحَالُنا فيه كحالِ أهلِ الشِّقْوةِ([19])، لا الشّابُ مِنّا يَنتهِي عن الصَّبْوةِ، ولا الشّيخُ يَنزجِرُ عنِ القَبِيح فيَلتحِقَ بالصَّفوة، أينَ نَحنُ مِن قَومٍ إذا سَمِعُوا داعِيَ اللهِ أجابُوا الدَّعوة، وإذا تُلِيَت علَيهِم ءاياتُ اللهِ جَلَتْ قُلوبهم جُلْوة، وإذا صامُوا صامَتْ مِنهُ الأَلْسِنةُ والأسماعُ والأبصارُ أفَما لَنا فيهِم أُسْوة؟! فَما بَينَنا وبَين حالِ الصَّفا أبعَدُ مِمّا بَيننا وبَين الصَّفا والـمَروة، كُلّما حَسُنَت مِنّا الأقوال، ساءَتِ الأعمال، فلا حولَ ولا قُوّة إلّا باللهِ العَلِيِّ العَظِيم وحَسبُنا الله.

يَا نَفْسُ فَازَ الصَّالِحُونَ بِالتُّقَى

 

 

وَأَبْصَرُوا الحَقَّ وَقَلْبِي قَدْ عَمِيْ

تَرنَّمُوا بِالذِّكْرِ فِي لَيْلِهمُ

 

 

فَعَيْشُهُمُ قَدْ طَابَ بِالتَّرَنُّمِ

يَا حُسْنُهْمْ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ([20])

 

 

وَنُورُهُمْ يَفُوقُ نُورَ الأَنْجُمِ

قُلُوبُهُمْ لِلذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ

 

 

دُمُوعُهُمْ كَلُؤْلُؤٍ مُنْتظِمِ

   

أَسْحَارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قَدْ أَشْرَقَتْ

 

 

وَخِلَعُ الْغُفْرَانِ خَيْر الْقِسَمِ

ويْحَكِ يا نفسُ أَلاَ تَيَقَّظِي

 

 

للنَّفْعِ قَبْلَ أنْ تَزِلَّ قَدَمِي

مَضَى الزَّمانُ فِي تَوَانٍ وَهَوًى

 

 

فَاسْتَدْرِكِي مَا قَدْ بَقِيْ وَاغْتَنِمِي

[1])) الجُودُ سَعةُ العَطاءِ وكَثرَتُه. ولَفظُ: «أَجْوَدُ» بالرّفعِ لأنّه اسمُ «يَكُونُ» وخبَرُه محذوفٌ، وهو نَظِيرُ: «أخطَبُ ما يكُونُ الأمِيرُ قائِمًا».

[2])) الصدَقة نوعان: صدقةٌ واجبةٌ كزَكاة التّجارة لِمَن وجبَتْ علَيه بِشرُوطها، وصدقةٌ نافِلةٌ غيرُ واجِبة ولا شَكّ أنّ الواجِبةَ أفضَلُ مِن النّافلِة. وليُحذَر مِن تأخيرِ إخراج الزّكاةِ الواجِبة بغَيرِ عُذرٍ عَن وَقتِها إذا وجبَ إخراجُها.

[3])) أي: له أجرٌ يُشبِهُ أجرَ الصّائِم، فصائِم الفَرضِ أجرُهُ أعلَى مِن الـمُتصدِّقِ بِصدَقةٍ نافِلةٍ.

[4])) أي: برَحمةٍ خاصّةٍ مِنه تعالى.

[5])) أي: الّذين يَرحمُون عِبادَ الله المؤمنِينَ.

[6])) لا بحيثُ يُضيِّعُون النَّفقة الواجبةَ.

[7])) ولَنا في هذه المسألة رِسالةٌ في وَرقاتٍ مُفرَدةٌ لبَيان جوازِ قِراءةِ القُرءان جماعةٌ وبطريقةِ الإدارةِ وجوازِ الذِّكر الجَماعِيّ، وقَد فنَّدْنا فيها ورَدَدْنا قولَ الوهّابيَة الـمُجسِّمة ومَن وافقَهُم في فَتواهُم الفاسِدةِ بتحريمِ التِلاوةِ والذِّكرِ الجَماعِيَّين.

[8])) أي: يُدارِسُنِي جَميعَ ما نَزَل مِن القُرءانِ، وهو مأخوذٌ مِن الـمُعارَضة بمعنَى الـمُقابَلةِ، تقُول: عارَضتُ الكِتابَ بالكِتابِ، أي: قابَلْتُه بِه.

[9])) أي: هذا الّذي رَءاه أحمدُ رضي الله عنه في غالِب أُناسِ زَمانِه.

[10])) يَجوزُ عقلَا تصوِيرُ العرَضِ بصُورةٍ، كما جاءَ في حديثٍ ءاخَرَ أنّ الرَّحِمَ المقطُوعةَ تُصَوَّرُ قائمةً وتقولُ: «هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ».

[11])) وهو محمولٌ على ما إذا كانَ هذا الـمَرءُ مُحتاجًا للشّفاعةِ.

[12])) أي: أنْ يكونَ هذا حاله لا أنْ يَشهَر نَفْسَه بَين الخلائِق.

[13])) قال يَحيَى بنُ مُعِينٍ: «إنِّي لأظُنّ أنّ اللهَ يَسقِي أهلَ الشّامِ بِه»، وقال الجنَيد البغداديَ رضي الله عنه: «هو رَيحانةُ الشّامِ».

[14])) يعنِي: كثيرًا مِنهُم.

[15])) أي: الكِتابُ الذي هو اللَّفظُ الـمُنزَّلُ.

[16])) أي: المنفعةَ التّامّة بنَيل الثّواب الكامِل كما هو حالُ صِيام الأتقياء الّذين ينتفِعُون مِن جِهة سُقوط الفرض وكمال الثّواب مع نَيل الأسرار والبركات.

[17])) أي: كأَرضٍ قَفْرٍ لا شيءَ فيها.

[18])) أي: هذا حالُ أكثرِ النّاسِ لا يَتدبَّرون ولا يعتبِرُون فيتُوبوا.

[19])) يُشبِهُم في بعضِ الخِصالِ الرّديئة الّتي لا تُخرِج عن الإسلامِ.

[20])) أي: أظلَم علَيهِم اللّيلُ حال كَونِ نُورِهم ساطِعًا.