الجمعة يوليو 26, 2024

الفصل العاشر:
في الرد على مزاعم تطعن في سيدنا سليمان
عليه السلام

سليمان عليه السلام لا يأمر بما حرم الله تعالى

عصم اللهُ سبحانَه أنبياءَه العظام الكرام من الكفر والكبائر وصغائر الخسّة، فمن كذب الكلام وزوره ما يُنسب لسيدنا سليمان عليه السلام أنه أمر بظلمٍ وهو شقّ ولدٍ نصفين على الحقيقة، وهذا مستحيل لأن الأنبياء جميعًا معصومون من مثل هذا.

وبيان حقيقة الأمر أنه مما يدلّ على حكمة وفطانة نبيّ الله سليمان عليه السلام وجودة رأيه في الحكم والقضاء ما جاء في الحديث أن الرسول ﷺ قال: «بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما فتنازعتا في الآخَر، فقالت الكبرى: إنما ذهب بابنك، وقالت الصغرى: بل إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فحكم به للكبرى فخرجتا على سليمان فقال: ائتوني بسكين أشقه بينكما نصفين لكل واحدة منكما نصفه، فقالت الصغرى: لا تفعلْ يرحَمْك الله، هو ابنها. فقضى به للصغرى»([1]) رواه البخاريّ ومسلم. ولـمّا قال سيدنا سليمان عن الغلام: «أشقه» كان ذلك منه على وجه العرض والاستفهام وهو يعتقد أنها تقول: «لا»، ويكفر من ظنَّ أنه أمر حقيقة بشقه نصفين بغير حق.

قال ابن حجر: «والذي ينبغي أن يقال إن داود عليه السلام قضى به للكبرى لسبب اقتضى به عنده ترجيح قولها؛ إذ لا بينة لواحدة منهما، وكونه لم يعين في الحديث اختصارًا لا يلزم منه عدم وقوعه، فيحتمل أن يقال إن الولد الباقي كان في يد الكبرى وعجزت الأخرى عن إقامة البينة، قال وهذا تأويل حسن جار على القواعد الشرعية، وليس في السياق ما يأباه ولا يمنعه، فإن قيل: فكيف ساغ لسليمان نقض حكمه؟ فالجواب أنه لم يعمد إلى نقض الحكم وإنما احتال بحيلة لطيفة أظهرت ما في نفس الأمر، وذلك أنهما لـمَّا أخبرتا سليمان بالقصة دعا بالسكين ليشقه بينهما، ولم يعزم على ذلك في الباطن، وإنما أراد استكشاف الأمر فحصل مقصوده لذلك لجزع الصغرى الدالّ على عظيم الشفقة ولم يلتفت إلى إقرارها بقولها: «هو ابن الكبرى» لأنه علم أنها آثرت حياته، فظهر له من قرينة شفقة الصغرى وعدمها في الكبرى مع ما انضاف إلى ذلك من القرينة الدالّة على صدقها ما هجم به على الحكم للصغرى، ويحتمل أن يكون سليمان عليه السلام ممن يسوغ له أن يحكم بعلمه أو تكون الكبرى في تلك الحالة اعترفت بالحق لـمَّا رأت من سليمان الجِدَّ والعزم في ذلك. وقال النوويّ: إن سليمان فعل ذلك تحيُّلًا على إظهار الحق، فكان كما لو اعترف المحكوم له بعد الحكم أن الحقَّ لخصمه، وفيه استعمال الحيل في الأحكام لاستخراج الحقوق، ولا يتأتى ذلك إلا بمزيد الفطنة وممارسة الأحوال»([2]).اهـ.

[1])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]، (4/196)، رقم 3427. صحيح مسلم، مسلم، باب: بيان اختلاف المجتهدين (5/133)، رقم 4592.

[2])) فتح الباري، ابن حجر، (6/464، 465).