الجمعة أكتوبر 11, 2024

الفصل الثالث:
رد ما يفترى عليه
بأنه يعلم كل الغيب والعياذ بالله

ليعلَمْ أن علم الله قديم أزليٌّ كما أن ذاته أزليٌّ، فلم يزل سبحانه عالـِمًا بذاته وصفاته وما يُحْدِثهُ من مخلوقاته، فلا يتصف بعلم حادثٍ، لأنه لو جاز اتصافـه بالحوادث لانتفى عنه القِدَمُ، لأن ما كان محلًّا للحوادث لا بُدَّ أن يكون حادثًا.

وأما علم النبيّ ﷺ فهو حادث ضرورةَ أن النبيّ نفسه حادث، فوصف النبي ﷺ بأنه يعلم كل الغيب فيه جعل صفة أزلية للنبيّ الذي هو بشر مخلوق، وهذا مستحيل لأن الحادث لا يتصف بصفة أزلية، فالله سبحانه وتعالى وحده يعلم بعلمه الأزليّ كلَّ شيءٍ، يعلمُ ما كان وما يكون وما لا يكون، ولا يقبلُ علمُهُ الزيادةَ ولا النقصانَ، فهو سبحانه وتعالى محيطٌ علمًا بالكائناتِ التي تَحدُثُ إلى ما لا نهاية له، حتى ما يحَدُثُ في الدارِ الآخرةِ التي لا انقطاعَ لها يعلَمُ ذلك جمُلةً وتفصيلًا، قال تعالى: { وَلِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} [النساء: 126].

وأما قوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، فمعناه: أن أهل السموات وهم الملائكة، وأهلَ الأرض من أنبياء وأولياء فضلًا عن غيرهم، لا يحيطون بشيء من علمه، أي: معلومه، إلا بما شاء أي إلا بالقدر الذي علَّمهم، هذا الذي يحيطون به.

أما قوله سبحانه: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].

فالمنفيّ عن الخلق إنما هو عِلْمُ جميع الغيب، أما بعض الغيب فإن الله يُطلِعُ عليه بعضَ الخلق كالأنبياء.

ثم إن الله سبحانه وتعالى تمدّح بكونه عالـمًا بكل شيء بقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] فلو كان يصحّ لغيره تعالى العلم بكلّ شيء لفات معنى التمدّح، ولكان حصرُ علم كل شيء بالله عبثًا لا معنى له، وحاشا أن يكون هذا في القرآن، فإن تقديم الجار والمجرور أعني (بكل شيء) على متعلقه (عليم) يفيد الاختصاص، فَمَنْ يقولُ إن الرسول ﷺ يعلم بكل شيءٍ يعلمه الله، جعل الرسول مساويًا لله في صفة العلم، فيكون كمن قال: الرسول قادر على كل شيء، سواءٌ قال هذا القائل إن الرسول عليه الصلاة والسلام عالم بكل شيء بإعلام الله له أم لا، فلا مخْلَصَ له من الكفر والعياذ بالله تعالى.

ومما يُرَدُّ به على هؤلاء قول الله تعالى: {وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ لا يَعلَمُها إِلّا هُوَ وَيَعلَمُ ما فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَما تَسقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلّا يَعلَمُها وَلا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأَرضِ وَلا رَطبٍ وَلا يابِسٍ إِلّا في كِتابٍ مُبينٍ} [الأنعام: 59]، وقوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 8، 9] قال القرطبيّ: «هذه الآية تمدَّح الله سبحانه وتعالى بها بأنه {عَالِمُ الْغَيْبِ والشَّهَادَةِ}، أي: هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب، والشهادة مصدر بمعنى الشاهد، فنبّه سبحانه على انفراده بعلم الغيب والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد»([1]).اهـ.

وقال القرطبيّ أيضًا: «فهو العالم بخفيات الصدور وما اشتملت عليه، وبما في السموات والأرض وما احتوت عليه، علام الغيوب لا يَعْزُبُ([2]) عنه مثقال ذرة ولا يغيب عنه شيء، سبحانه لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة»([3]).اهـ.

ومما يُردُّ به على هؤلاءِ أيضًا قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] فإذا كان الرسول ﷺ بنصّ هذه الآية لا يعلم جميع تفاصيل ما يفعله الله به وبأمته، وليس المراد من الآية أن النبي لا يعلم هل سيدخل الجنة أم لا، فكيف يتجرأ مُتَجرّئ على قول: إن الرسول يعلم كل شيء، فقائل هذه المقالة قد غلا الغلوّ الذي نهى الله ورسوله عنه. قال الله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة: 77]، وقال رسول الله ﷺ: «إياكُم والغُلوَّ في الدين، فإنما أهلَكَ من كان قبلَكُم الغُلوُّ في الدين»([4]) رواه ابن حبان، وقد صحّ أن الرسول ﷺ قال: «يا أيها الناس عليكم بتقواكم، ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمُ الشيطان، أنا محمدُ بنُ عبدِ الله عبدُ الله ورسولُه، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منـزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجلَّ»([5]).

وروى البخاريّ في الجامع من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «إنكم محشورونَ حفاةً عُراةً غُرلًا، ثم قَرأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] وأولُ من يُكْسى([6]) يوم القيامة إبراهيم، وإن أُناسًا من أصحابي يُؤخذُ به ذات الشمالِ، فأقولُ: أصحابي، فَيُقالُ: إنهم لم يزالوا مرتدّينَ على أعقابهم منذ فارقتهم، فأقولُ كما قال العبدُ الصَّالح: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 117، 118]»([7]).

ومن أعجب ما ظهر من هؤلاء الغُلاةِ لـمَّا قيل لأحدهم: كيف تقول الرسول يعلم كلّ شيء يعلمه الله، وقد أرسل سبعين من أصحابه إلى قبيلة ليُعلّموهم الدين فاعترضتهم بعض القبائل فحصدوهم، فلو كان يعلم أنه يحصل لهم هذا هل كان يرسلهم إلى الهلاك؟ فقال: نعم، يرسلهم مع علمه بذلك. ومثلُ هذا الغالي في شدة الغُلوّ رجل كان يدَّعي أنه شيخ أربع طرق فقال: الرسول ﷺ هو المراد بهذه الآية: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] وهذا من أكفر الكفر، لأنه جعل الرسول الذي هو بَشَرٌ من خَلْقِ الله أزَليًّا أبَديًّا، لأن الأول في هذه الآية هو الذي ليس لوجوده بداية وهذا وصفٌ خاص بالله تعالى فقط.

[1])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (9/289).

[2])) عَزَبَ: بعُد وغاب، وبابه دخل وجلس. مختار الصحاح، الرازي، مادة: (ع ز ب)، (ص432).

[3])) الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، (4/58).

[4])) صحيح ابن حبّان، باب: رمي جمرة العقبة، (9/183).

[5])) مسند أحمد، أحمد، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه، (3/153)، رقم 12573.

[6])) «قوله: «وأول من يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام» وروى البيهقيّ في الأسماء من وجه آخر عن ابن عباس مرفوعًا: «وأول من يكسى من الجنة».اهـ. فتح الباري، ابن حجر، (6/389، 390)، وليس المعنى أنه يكون عاريًا، وكذا كل الأنبياء لا يبعثون عراة.

[7])) صحيح البخاريّ، البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب: قَوْلِ الله تَعَالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، (4/169)، رقم 3349.