إنَّ رمضانَ موعدٌ مع طاعةِ اللهِ ومناسبةٌ للتزودِ لِما فيهِ رضا اللهِ بالابتعادِ عن تضييعِ أيامهِ بالنوم ولياليهِ بالسهرِ، كم ضيّعَ كلٌّ منا مِنْ ثوابٍ وأجرٍ عظيمٍ على نفسهِ بسببٍ تفريطهِ وكسلهِ. فاتقوا ربَّكم واشكروهُ إذا بلَّغَكُم هذا الشهرَ الكريمَ وسلوهُ سبحانَهُ أنْ يُحببَ إليكم فعلَ الخيراتِ وأن يعينَكم على أداءِ ما شرعَ لكم منَ الطاعاتِ والواجباتِ والمستحبات وعلى تركِ المحرماتِ والمشتبهاتِ لتكونوا من المؤمنين حقًّا والمتقينَ صدقًا.
فيا أحبتي أعمُروا أوقاتَكم بالأعمالِ الصالحةِ فإنها هي التجارةُ الرابحةُ، فلا تُضَيِّعُوا لِما يُفسدُهُ أو يُخِلُّ بهِ أو يُذهبُ أجرَهُ مِنَ الأعمالِ المحرَّمةِ والأقوالِ الآثِمةِ.
فالصائمُ الحقيقيُ هو الذي صامَتْ جوارحُهُ عَنِ الآثامِ، حفظَ لسانَهُ عن الكذبِ والنميمةِ وقولِ الزورِ، وبطنَهُ عَنِ الأكلِ والشربِ وفرجَهُ عَنِ الرفثِ. فإنْ تكلَّمَ لم يتكلمْ بما يجرحُ صومَهُ وإن فعلَ لم يفعلْ ما يُفسدُ صومَهُ، فيخرجُ كلامُهُ نافعًا صالحًا، وكذلكَ أعمالُهُ فهي بمنزلةِ الرائحةِ التي يشمُّها مَن جالسَ حاملَ المسكِ، كذلكَ مَنْ جالسَ الصائمَ انتفعَ بمجالستِهِ وأمِنَ مِنَ الزورِ والكذبِ والنميمةِ والظلمِ، هذا هو الصومُ الأكملُ لا مجردُ الإمساكِ عن الطعامِ والشرابِ.
وقد روى البخاريُّ وأبو دَاودَ واللفظُ لَهُ مِنْ حديثِ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم يدعْ قولَ الزورِ والعملَ بِهِ والجهلَ فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يدَع طعامَهُ وشرابَهُ»، معناهُ: اللهُ لا يُحبُّ صيامَهُ ليسَ معناهُ أنَّ الله لهُ حاجةٌ في صيامِ عبدهِ لأنَّ الإلهَ مِنْ شأنهِ أن لا يحتاجَ إلى غيرِهِ ويحتاجُ إليهِ كلُّ شيءٍ؛ بل معنى الحديثِ أن اللهَ لا يُحبُّ صيامَهُ ولا يَقبلُهُ، أي: لا يقبلُ اللهُ منهُ إمساكَهُ عَنِ الطعامِ والشرابِ ولا يُثيبهُ أي لا يُعطيهِ ثوابا إنما حظُّهُ مِنْ صيامهِ الجوعُ والعطشُ ومع ذلكَ يكونُ هو خيرًا مِنَ الذي لَم يَصُمْ؛ لأنهُ لا يُسألُ يومَ القيامةِ.
وأما الغيبةُ فلا تُفطَرُ الصائمَ، فقد قالَ الإمامُ أحمدُ: «لو كانتِ الغيبةُ تُفَطَرُ ما كانَ لنا صومٌ». فعلى المؤمنِ أن يصونَ صومَهُ ولا يُماري.
وروى ابنُ حبانَ أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم قالَ: «رُبَّ قائمٍ ليسَ لَهُ مِنْ قيامهِ إلا السهرُ ورُبَّ صائمٍ ليسَ لَهُ مِنْ صيامِه إلا الجوعُ والعطشُ»، معناهُ: كثيرٌ مِنَ الناسِ ليسَ لهم مِنْ تهجدِهم في الليالي ثوابٌ إلا السهرُ أي أنهم منعوا أنفسَهم من لذةِ النومِ، أما الثوابُ فليسَ لهم. وقالَ: «ورُبَّ صائمٍ ليسَ لَهُ مِنْ صيامِهِ إلا الجوعُ والعطشُ» كذلكَ كثيرٌ مِنَ الناسِ ليسَ لهم من صيامهم إلا أنهم أعطشوا أنفسَهم وأجاعوها.
الرسولُ صلى الله عليه وسلم ذكرَ اثنينِ حتى نفهمَ أنَّ الحاجَّ كذلكَ، والمتصدقَ كذلكَ، وقارئَ القرءانِ كذلكَ. والذاكرَ الذي يُسبِّحُهُ ويُمجدُهُ ويُكبرُهُ كذلك إذا أخلَّ بشرطٍ مِنْ شروطهِ محرومٌ من الثوابِ، مهما أتعبَ لسانَهُ ليسَ لَهُ ذرةٌ مِنَ الحسناتِ. فلذلكَ العلمُ فرضٌ من الفرائضِ العظيمةِ لأنَّ العلمَ الدينيَّ هو الذي يُنيرُ السبيلَ للذاكر، يعلمُ الذاكرُ كيفَ يكونُ ذكرُهُ صحيحًا يرجعُ بهِ بالأجرِ، ويعلمُ الصائمُ كيفَ يصحُ صومُه، كيفَ يكونُ مقبولًا عندَ اللهِ، وكيفَ يكونُ صومُهُ فاسدًا ليسَ لَهُ فيهِ أجرٌ.
يقولُ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم فيما رواهُ البيهقيُّ: «طَلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ»، أي: أنَّ طلبَ العلمِ الشرعيِّ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ مكلفٍ، وليسَ المرادُ أنهُ يجبُ على كلِّ مسلمٍ معرفةُ جميعِ مسائلِ الدينِ بتفاصيلها، إنما المرادُ أنَّ هناك قدرًا مِنْ علمِ الدينِ يجبُ معرفتُهُ على كلّ مسلمٍ مكلفٍ ذكرًا كانَ أو أنثى.
اللَّهُمَّ علّمنا ما جهلنا، وذكّرنا ما نسينا، واجعلِ القرءانَ ربيعَ قلوبِنا
ونورًا لأبصارِنا وجوارِحنا، وتوفّنا على هديهِ، وأكرمنا بحفظهِ
وأحفظنا ببركتهِ، واغفِرِ اللَّهُمَّ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ
والأمواتِ إنك سميعٌ قريبٌ مجيبُ الدعواتِ