الحسن البصري
ترجمته:
هو الإمام العظيم والسيد الكريم المجتهد الحافظ أحد السادات التابعين أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن يسار بن مطهر بن غاضرة بن قرهد وقيل فرهد “بالفاء” العوفي، والده أبو الحسن يسار من سبي ميسان وهو كورة واسعة عظيمة كثيرة القرى والنخل بين البصرة وواسط من أرض العراق، سكن المدينة المنورة وكان مملوكًا فأعتق وبفي في المدينة حيث استقر وتزوج فيها وذلك في خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه فولد له بها الحسن لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه واسم أمه خيرة. وقيل إنها كانت مولاة لأم المؤمنين أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت السيدة أم سلمة ربما تبعث أم الحسن في الحاجة فيبكي وهو طفل رضيع فتسكته أم سلمة بثديها وتخرجه أحيانًا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير فكانوا يدعون له، وأخرجته مرة إلى سيدنا عمر فدعا له وقال: اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس. ومن ثم نشأ الحسن بوادي القُرى، وتجدر الإشارة إلى أنه كان لما ولد قد حنكه بالتمر سيدنا عمر وكان له من العمر يوم وفاة سيدنا عثمان سنة وحضر معه الجمعة وعلى هذا يكون عام مولد الحسن سنة إحدى وعشرين من الهجرة المباركة.
ذكر شيء من صفته:
كان الإمام الحسن رضي الله عنه عظيمًا مبجلاً جليلاً كبير القدر جليل الشأن ذا وسامة فائقة، حسن الصورة جميل الوجه حتى قيل إنه أجمل أهل البصرة في زمانه تام الشكل مهيبًا بهيًا، وكان مع ذلك مجاهدًا بطلاً شجاعًا من الموصوفين المعدودين، ليثًا من ليوث الحرب في مواطن الجهاد شديد القوة عظيم البطش، مجربًا في مواضع الناس.
ولقد حدث الأصمعي عن أبيه فقال: ما رأيت زندًا أعرض من زند الحسن البصري، كان عرضه شبرًا، وعن محمد بن سعد قال: كان الحسن رحمه الله جامعًا رفيعًا فقيهًا ثقة حجة مأمونًا عابدًا ناسكًا، كثير العلم فصيحًا جميلاً وسيمًا، لم ير في البصرة أجمل وجهًا منه في زمانه وكانوا يرون أنه أشبه الناس رأيًا بعمر رضي الله عنه.
مناقبه:
لقد كان الحسن رضي الله عنه من أشبه الناس سريرة بعلانية إن أمر بأمر كان من أعمل الناس له وإن نهى عن شيء كان من أبعد الناس عنه، عابدًا خاشعًا قانتًا زاهدًا تقيًا ورعًا ذا مروءة عجيبة وشهامة واسعة، وعلى جانب كبير من الخلق الحسن فكان شكله حسنًا وخلقه حسنًا وعلمه حسنًا ونهجه حسنًا وهو الحسن.
وكان مع ذلك قلما يرى ضاحكًا وقلما ضحك إلا تبسمًا، طويل الحزن كثير البكاء ما شوهد إلا كأنه حديث عهد بمصيبة، يبكي وله نشيج وصوت حتى كأن النار بين عينيه، وقد روي أنه كان مرة في مجلس فطلب الماء فلما جيء له به أغمي عليه مدة ما لبث بعد ذلك أن أفاق منه فسئل عن سبب ذلك فقال رضي الله عنه: تذكرت قول الله عز وجل: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا} [سورة الكهف/ءاية:29].
أي رجل هذا الذي بلغ به الخوف إلى هذا الحد الكبير فإذا به يغمى عليه خوفًا وخشية إثر ذكر ءاية من كتاب الله، وكيف لا وهو الذي قد اشتهر بطول حزنه وكثرة بكائه ووفور عبرته ونشيجه خوفًا من عذاب الله، وقد قيل فيه إنه بقي ثلاثين سنة لم يضحك وأربعين سنة لم يمزح، أجل لقد كان فطنًا يدرك أن الدنيا ليست منتهى الأمر فاتخذها لجة وصالح عمله سفينة يسير بها إلى مقر الأمان والنجاة، فكان نعم العالم العامل الأواب القوام بالليل والصوام بالنهار، كثير التهجد كثير الصوم.
وإن كان الرجل ليأتيه يطلب منه العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وزهده ولسانه وبصره رضي الله عنه، وكان رحمه الله مع ذلك جمع إلى هذه الخصال الكريمة الجهاد في سبيل الله وله في ذلك حظ جيد حتى إن المهلّب كان إذا أراد حرب الروم أو غيرهم وتهيأ لجهاد في سبيل الله قدم لحربه على ما كان فيه من الشجاعة والشدة والبأس والقوة في منازلة الرجال والثبات في المواطن التي يحجم فيها القوم، ولقد كان بطلاً مجربًا شديد الجسم مفتول العضلات وله في الواقع رأي ثاقب وبصيرة نافذة وحسن تخطيط وتصرف، كل ذلك مما رفع قدره وعظَّم شأنه عند طوائف الناس وعقلاء الرجال.
واعلم مع ما مر أن الحسن البصري رحمه الله كان مشهورًا بتعهده لنفسه فكان ينظف ثوبه وبدنه ويبالغ في ذلك جدًا، ومن أخباره عنايته بحسن ثيابه ما حكاه الذهبي عن سلام بن مسكين قال: رأيت على الحسن قباء مثل الذهب يتألق وعن يونس قال: كان الحسن يلبس في الشتاء قتاء حبرة وطيلسانًا كرديًا وعمامة سوداء وفي الصيف إزار كتان وقميصًا وبردًا حبرة وعن سلام بن مسكين قال: رأيت على الحسن طيلسانًا كأنما يجري فيه الماء وخميصة كأنها خز.
وكان رحمه الله يُصفّر لحيته في كل جمعة يغير ما شاب من شعره بالصفرة.
ذكر غزارة علمه:
أما العلم فقد بلغ فيه الحسن غاية كبرى قلما حظي بمثلها بين الناس، فلقد كان إمامًا في كثير من أنواع العلوم من فقه وحديث وتفسير وعلم القرءان واللغة والأدب والتصوف والبلاغة، سيدًا من سادات زمانه شيخًا مبجلاً روى عنه الصحابي الجليل عمران بن المعين وعن المغيرة بن شعبة وأبي بكر الثقفي والنعمان بن بشير وعبد الله بن عباس وأنس وغيرهم، ورأى عثمان وسمع منه بعضًا من خطب الجمعة وغيره من الصحابة الكبار وحدث عنه خلق من التابعين منهم ثابت البناني ومالك بن دينار وغيرهم كثير. وقد صحبه قوم للفقه فصاروا فقهاء وصحبه ءاخرون للحديث فصاروا محدثين وصحبه قوم للتصوف والزهد فبلغوا فيه شأوًا بعيدًا، وما زال الحسن بحرًا يزخر بشتى العلوم وأنواع الحكم والمعارف، وقد حدث حجَّاج الأسود فقال: تمنى رجل فقال: ليتني بزهد الحسن وورع ابن سيرين وعبادة عامر بن عبد قيس وفقه سعيد بن المسيب وذكر مطرف بن الشخير بشيء، قال: فنظروا في ذلك فوجدوه كله كاملاً في الحسن.
وعن قتادة قال: “كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام وكان رحمه الله يتكلم بكلام يخرج من جوفه كأنه الدر واللؤلؤ، وإذا حدث أخذ بكلامه القلوب وأثر بمواعظه في أفئدة الرجال” وهو مع ما مر على جانب واسع في الخطابة حتى قيل إنه أشهر خطباء عصره في المواعظ والتذكير، ترى في عباراته كلام إنسان عاقل كيس فطن علم مدارك الأمور وأحاط معرفة بقسط وافر من الدراية والحفظ، فعن الربيع بن أنس قال: اختلفت إلى الحسن عشر سنين فليس من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع من قبل، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا، وعن الذهبي عن أبي هلال قال: كنت عند قتادة فجاء الخبر بموت الحسن فقلت: لقد كان غمس في العلم غمسة، قال قتادة: بل نبت فيه وتحقبه وتشربه.
وعن عطاء وقد قيل له إن الحسن يقول في الجنازة إنه يقرأ عليها فقال عطاء للسائل: علمك بذاك، ذاك إمام ضخم يقتدى به.
وقد حدث يونس بن عبيد مرة وهو من المشايخ الصالحين وأهل العلم العاملين الثقات الأتقياء فقال: أما أنا فإني لم أر أحدًا أقرب قولاً من فعل من الحسن، وفي معرض ءاخر قال فيه: كان من رؤوس العلماء.
كل هذه الشهادات تثبت مقدار ما وصل إليه الرجل من العلم الواسع مما جعله مقصدًا حتى غدا من أساطين العلم وحبرًا من كبار علماء الأمة رضي الله عنه وأرضاه.
وفاته رضي الله عنه:
بعد حياة عظيمة أمضاها إمامنا الحسن في العلم والعمل والجهاد في سبيل الله، أدركه الموت الذي لا بد منه وكان ذلك في رجب سنة عشر ومائة وله من العمر نحو من ثمان وثمانين سنة، ومن ثم خرجوا به في جنازة مشهودة مهيبة عظيمة وصلوا عليه عقيب الجمعة بالبصرة فشيعه الخلق وازدحموا عليه، حتى إن صلاة العصر لم تقم في ذلك الجامع يومها وقد حزن لوفاته أعيان الرجال كابن سيرين وغيره، فعند الذهبي عن هشام بن حسان قال: كنا عند محمد “أي ابن سيرين” عشية يوم الخميس فدخل عليه رجل بعد العصر فقال: مات الحسن، فترحم عليه محمد وتغير لونه وأمسك عن الكلام فما تكلم حتى غربت الشمس، وأمسك القوم عنه لما رأوا من وجده عليه.
رحم الله الإمام الحسن البصري وأعلى مقامه في جنات النعيم إنه سميع الدعاء والحمد لله رب العالمين.