روى مسلم في صحيحه في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، بَاب تحريمِ الكلام في الصلاة، ونَسخِ ما كان من إباحة[(267)]: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الحَدِيثِ قَالاَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ حَجَّاجٍ الصَّوَّافِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ بَيْنَا أَنَا أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنْ القَوْمِ فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَرَمَانِي القَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَبِأَبِي هُوَ وَأُمِّي، مَا رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَاللَّهِ مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي، قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شىء مِنْ كَلاَمِ النَّاسِ إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ القُرْآنِ، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالإِسْلاَمِ، وَإِنَّ مِنَّا رِجَالاً يَأْتُونَ الكُهَّانَ. قَالَ: فَلاَ تَأْتِهِمْ. قلت: وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قَالَ: ذَاكَ شىء يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلاَ يَصُدَّنَّهُمْ. قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ: فَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ، قَالَ: قُلتُ وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ قَالَ كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ. قَالَ: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُعْتِقُهَا، قَالَ: ائْتِنِي بِهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا: فَقَالَ لَهَا: أَيْنَ اللَّهُ، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: مَنْ أَنَا، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ» .
هذا الحديث المعروف بحديث الجارية ، ليس معناه أن الله يسكن السماء كما توهم بعض الجهلة، بل معناه أن الله عالي القدر جدًا. وهذا يوافق اللغة؛ قال النابغة الجعدي[(268)]: (الطويل)
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ثم إن رواية مسلم طعن فيها بعض العلماء سندًا ومتنًا لأمرين، الأول: الاضطراب؛ لأنه ورد بلفظ رواه ابن حبان في صحيحه عن الشريد بن سويد الثقفي قال[(269)]: قلت يا رسول الله: إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء، قال: «ادع بها» فجاءت فقال: «من ربك» قالت: الله، قال: «من أنا» ، قالت: رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» ، ورواه البيهقي بلفظ[(270)]: «أين الله» ، فأشارت إلى السماء بإصبعها، وروي بلفظ: «من ربك» قالت: الله ربي، قال: «فما دينك» قالت: الإسلام، قال: «فمن أنا» قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها» . وروي بلفظ عند مالك[(271)]: أتشهدين أن لا إله إلا الله»، قالت: نعم، قال: «أتشهدين أني رسول الله» ، قالت: «نعم»، قال: «أتوقنين بالبعث بعد الموت» ، قالت: «نعم»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أعتقها» .
فرواية مالك هي الصحيحة التي توافق الأصول لكونها جاءت على الجادَّة، إلا أنه ليس فيها: «فإنها مؤمنة»، فترجح على رواية مسلم لأنها في معنى الحديث المشهور الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما: «أُمِرتُ أن أُقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» الحديثَ، وفي معنى الحديث الذي رواه النسائي[(272)] عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على غلام من اليهود وهو مريض فقال له: «أسلِم» . فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: «أطع أبا القاسم». فقال: «أشهد أن لا إلـه إلا الله وأن محمدًا رسول الله» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار» .
والأمر الثاني: أن رواية: «أين الله» مخالفة للأصول؛ لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يُحكَمُ له بالإسلام بقوله: «الله في السماء» لأنها ليست كلمة التوحيد، ولأن هذا القولَ مشترَكٌ بين اليهود والنصارى وغيرهم، وإنما الأصل المعروف في شريعة الله ما جاء في الحديث المشهور المتقدم ذكره.
فإن قيل: كيف تكون رواية مسلم «أين الله، فقالت: في السماء» إلى ءاخره، مردودة مع رواية مسلم له وكلّ ما رواه مسلم موسومٌ بالصحة؟! فالجوابُ: أن عددًا من أحاديث مسلم ردَّها علماء الحديث كما تراه واضحًا في هذه الرسالة التي اعتمدنا فيها النقل عن أهل العلم.
ولو صحّ حديثُ الجارية لم يكن معناه أن الله ساكنُ السماء كما توهّم بعضُ الجهلة، بل لكان معناه أن الله عالي القَدْرِ جدًا، وعلى هذا المعنى أقرَّ بعض أهل السنة بصحة رواية مسلم هذه، وحملوها على خلاف الظاهر، وحملها المشبهة على ظاهرها فضلّوا، ولا ينجيهم من الضلال قولهم: «إننا نحمل كلمة في السماء بمعنى أنه فوق العرش”؛ لأنه بقولهم ذلك أثبتوا له مِثْلاً وهو الكتاب الذي كتب الله فيه: «إن رحمتي سبقت غضبي» وهو فوق العرش، فيكونون أثبتوا المماثلة بين الله وبين ذلك الكتاب لأنهم جعلوا الله وذلك الكتاب مستقِرَّيْن فوق العرش فيكونون بذلك قد كذَّبوا قول الله تعالى {…لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ… *} [سورة الشورى] .
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (458هـ) في كتابه «الأسماء والصفات»[(273)]: وَأَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بنُ حَبِيبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا حَرْبُ بنُ شَدَّادٍ، وَأَبَانُ بنُ يَزِيدَ، عَن يَحيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَن هِلالِ بنِ أَبِي مَيمُونَةَ، عَن عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ، عَن مُعَاوِيَةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ فَذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ. وَهَذَا صَحِيحٌ قَد أَخرَجَهُ مُسلِمٌ مُقَطَّعًا مِن حَدِيثِ الأَوزَاعِيِّ وَحَجَّاج الصَّوَّافِ عَن يَحيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ دُونَ قِصَّةِ الجَارِيَةِ، وَأَظُنُّهُ إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنَ الحَدِيثِ لاختِلافِ الرُّوَاةِ فِي لَفْظِهِ، وَقَد ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ مِنَ السُّنَنِ مُخَالَفَةَ مَن خَالَفَ مُعَاوِيَةَ بنَ الحَكَمِ فِي لَفظِ الحَدِيثِ» اهـ.
وقال شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي (483هـ) في كتابه «المبسوط»[(274)]: فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات أن الرجل قال: علي عتق رقبة مؤمنة أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة فلهذا امتحنها بالإيمان مع أن في صحة ذلك الحديث كلامًا. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أين الله؟ فأشارت إلى السماء ولا نظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه يطلب من أحد أن يثبت لله تعالى جهة ولا مكانًا» اهـ.
وفي كتاب «إكمالُ إكمالِ المُعَلِّم»، في شرح صحيح مسلم لمحمد بن خليفة الوَشتاني الأُبيّ (827 أو 828هـ) وشرحه المسمى «مُكَمّل إكمال الإكمال» لمحمد بن محمد بن يوسف السنوسي الحسني (895هـ)[(275)]: قال القاضي عياض: لم يختلف المسلمون في تأويل ما يوهم أنه تعالى في السماء كقوله تعالى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ… *} [سورة الملك] اهـ.
وقال الحافظ النووي الشافعي (676هـ) في شرحه على صحيح مسلم[(276)]: قال القاضي عياض لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم» اهـ.
قال الإمام الحجة تقي الدين السبكي في ردِّه على نونية ابن قيم الجوزية المسمى «السيف الصقيل»: «أما القول فقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله، قالت: في السماء. وقد تكلم الناس عليه قديمًا وحديثًا، والكلام عليه معروف ولا يقبله ذهن هذا الرجل لأنه مشَّاء على بدعة لا يقبل غيرها» اهـ.
وقال الإمام تاج الدين السبكي في كتابه «طبقات الشافعية الكبرى» [(277)]: وفي المبتدعة لا سيما المجسمة زيادة لا توجد فى غيرهم، وهو أنهم يرون الكذبَ لنصرة مذهبهم، والشهادة على من يخالفهم فى العقيدة بما يسوءه في نفسه وماله بالكذب، تأييدًا لاعتقادهم. ويزداد حنَقُهُم وتقرُّبُهُم إلى الله بالكذب عليه بمقدار زيادته في النيل منهم، فهؤلاء لا يحل لمسلم أن يعتبر كلامهم… ويرون أنهم المسلمون وأنهم أهل السنة، ولو عُدُّوا عَدَدًا لما بلغ علماؤهم، ولا عالم فيهم على الحقيقة مبلغًا يُعتبر، ويُكَفِّرون غالبَ علماء الأمة، ثم يَعتَزُونَ إلى الإمام أحمدَ بنِ حنبل رضي الله عنه، وهو منهم بريء» اهـ.
وقال ذلك الحافظ جلال الدين السيوطي (911هـ) في كتابه «الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج»[(278)].
ويقول السيوطي أيضًا في كتابه «تنوير الحوالك على موطأ مالك»[(279)]: عن عطاء بن يسار عن عمر بن الحكم قال النسائي كذا يقول مالك عمر بن الحكم وغيره يقول معاوية بن الحكم السلمي، وقال ابن عبد البر: هكذا قال مالك (عمر بن الحكم)، وهو وهم عند جميع أهل العلم بالحديث، وليس في الصحابة رجل يقال له عمر بن الحكم وإنما هو معاوية بن الحكم كذا قال فيه كل من روى هذا الحديث عن هلال أو غيره، ومعاوية بن الحكم معروف في الصحابة وحديثه هذا معروف له، وممن نص على أن مالكًا وهم في ذلك البزار وغيره انتهى» وقال[(280)]: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية.. الحديث. رواه الحسين بن الوليد عن مالك عن بن شهاب عن عبيد الله عن أبي هريرة موصولا ورواه معمر عن بن شهاب عن عبيد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة وهو موصول أيضا ورواه المسعودي عن عون بن عبد الله عن أخيه عبيد الله عن أبي هريرة أيضًا» اهـ.
وقال محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني (1122هـ) في شرحه على موطأ مالك [(281)]: ولا يمنع ذلك تجويز أن الوهم منه لما حدث مالكًا وتنبه لما حدث غيره، ويؤيد ذلك ما مر في الفرائض أن معن بن عيسى، قال لمالك: الناس يقولون إنك تخطىء أسامي الرجال تقول عمر بن الحكم وإنما هو معاوية فقال مالك هكذا حفظنا وهكذا وقع في كتابي أخرجه أبو الفضل السليماني» ثم قال: ورواه الحسين بن الوليد عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد عن أبي هريرة أن رجلا من الأنصار (جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية له سوداء فقال يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة) نذر عتقها أو وجبت عليه بكفارة قتل ونحوه (فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أن محمدًا رسول الله؟ قالت: نعم، أي أشهد بذلك (قال أتوقنين بالبعث بعد الموت قالت نعم) أوقن به. وفيه أنه لا بد مع الشهادتين من الإقرار بالبعث فمن أنكره فليس بمؤمن وعليه الإجماع» اهـ.
ومثله قال الشيخ محمد بن زكريا الكاندهلوي (1364هـ) في كتابه «أوجز المسالك إلى موطأ مالك»[(282)] ونقل أقوال النووي وابن عبد البر والزرقاني، ونقل عن البيضاوي قوله[(283)]: لم يرد به السؤال عن المكان فإنه منزه عنه، والرسول أعلى أن يسأل عن ذلك» اهـ.
وقال الحافظ عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري في كتابه «الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة»[(284)]: الحديث شاذ لا يجوز العمل به وبيان شذوذه من وجوه: مخالفته لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه شخص يريد الإسلام سأله عن الشهادتين فإذا قبلهما حكم بإسلامه.
وفي الموطأ عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن رجلاً من الأنصار جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال: يا رسول الله عليّ رقبة مؤمنة فإن كنت تراها مؤمنة أعتقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أن محمدًا رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعتقها . وهذا هو المعلوم من حال النبي صلى الله عليه وسلم ضرورة.
نعم روى الحافظ أبو إسماعيل الهروي في كتاب الأربعين في دلائل التوحيد من طريق سعيد بن المرزبان عن عكرمة عن ابن عباس، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه جارية أعجمية سوداء فقال: علي رقبة فهل تجزيء هذه عني؟ فقال: أين الله؟ فأشارت بيدها إلى السماء، فقال من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
وهذا أيضًا حديث شاذ وضعيف فيه سعيد بن المرزبان متروك منكر الحديث ومدلس.
وجاء حديثان مخالفان لحديث معاوية يؤكدان شذوذه، فروى البيهقي في السنن من طريق عون بن عبد الله بن عتبة حدثني أبي عن جدي قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقالت: يا رسول الله إن علَيَّ رقبة مؤمنة أفتجزيء عني هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ربك؟ قالت: الله ربي، قال: فما دينك؟ قالت: الإسلام، قال: فمن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فتصلين الخمس وتقرين بما جئت به من عند الله؟ قالت: نعم، فضرب صلى الله عليه وسلم على ظهرها وقال: أعتقيها .
وروى أيضًا من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشريد بن سويد الثقفي قال قلت: يا رسول الله إن أمي أوصت إلي أن أعتق عنها رقبة وإن عندي جارية سوداء نوبية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع بها ، فقال: من ربك؟ قالت: الله ، قال: فمن أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة .
وجاء حديث ثالث، قال أحمد في المسند: ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء وقال: يا رسول الله إن علَيَّ رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أنّي رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال: اعتقها [(285)]. وهذا الحديث وصل لمرسل الموطأ، وقال البزار: حَدَّثنا مُحَمد بن عثمان، قال: حَدَّثنا عُبَيد الله، قال: حَدَّثنا ابن أبي ليلى عن المنهال بن عَمْرو عن سَعِيد بن جُبَير عَن ابنِ عباس، قال: أتى رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن على أمي رقبة وعندي أمة سوداء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ائتني بها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالت: نعم، قال: فأعتقها » اهـ.
وقد لبَّس الألباني وغشَّ وخان إذ أسقط من كلام الحافظ البيهقي ما يُخالف هواه عند ذكر حديث مسلم في كتابه المسمى «مختصر العلو»، فزعم أن ممَّن صحَّح حديثَ الجارية الحافظَ البيهقي، وهذا نص كلام الألباني[(286)] بحروفه، حيث قال: «والبيهقي في (الأسماء) قال عَقِبَه – أي عقب حديث الجارية -: وهذا صحيح قد أخرجه مسلم».
لكن كلام الحافظ البيهقي خلاف هذا تمامًا، وإليك نصه بحروفه ليتَّضحَ لك الحق ويظهرَ تلبيسُ هذه الطائفة المجسمة، قال الحافظ البيهقي: «وهذا صحيحٌ، قد أخرجه مسلم مقطعًا من حديث الأوزاعي وحجّاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية، وأظنُّه – أي مسلمًا – إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه، وقد ذكرت في كتاب الظهار من (السنن) مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث».
هل رأيتَ كيف غَشَّ وأسقطَ من الكلام ما يُخالف هواه وأبقى ما يريد؟
ويقول الحافظ البيهقي أيضًا في كتابه «السنن الكبرى» باب ما يجوز في عتق الكفارات[(287)]: «أخرجه مسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي دون قصة الجارية».
وهذا يدُلُّ على أنَّ النسخة التي لدى الحافظ البيهقي ليس فيها قصة الجارية. وممَّن أشار إلى الاضطراب أيضًا الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير»[(288)] في كتاب الكفارات، حيث قال: «وفي اللفظ مخالفة كثيرة» اهـ. وقال في «فتح الباري»[(289)] كتاب العلم، باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله، منزِّهًا الله تعالى عن الأين: لا يتوجه عليه في وجودِهِ (أين) و(حيث)» اهـ.
ـ[267] كتاب المساجد ومواضع الصلاة: بَاب تحريمِ الكلام في الصلاة، ونَسخِ ما كان من إباحة (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1421هـ، ص199 رقم الحديث 537).
ـ[268] انظر تاج العروس (3/374) مادة (ظ هـ ر)، وانظر أيضا لسان العرب (4/520) مادة (ظ هـ ر).
ـ[269] الإحسان (1/206 و6/256).
ـ[270] السنن الكبرى (7/388).
ـ[271] الموطأ: كتاب العتاقة والولاء: باب ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة.
ـ[272] السنن الكبرى (5/173).
ـ[273] الأسماء والصفات (دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى 1405هـ، الجزء الثاني ص164).
ـ[274] المبسوط (دار المعرفة – بيروت، ص4).
ـ[275] مُكَمّل إكمال الإكمال (دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1415هـ، الجزء الثاني ص438).
ـ[276] صحيح مسلم (دار الكتاب العربي طبعة 1407هـ، الجزء الخامس ص24).
ـ[277] طبقات الشافعية الكبرى (دار هجر، الطبعة الثانية 1413هـ الجزء الثاني ص16 – 17).
ـ[278] الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (دار الأرقم، المجلد الثاني ص31).
ـ[279] تنوير الحوالك على موطأ مالك (دار الكتب العلمية، الجزء الثالث ص5).
ـ[280] تنوير الحوالك على موطأ مالك (ص/6).
ـ[281] موطأ مالك (دار الكتب العلمية 1411هـ، الجزء الرابع ص107).
ـ[282] أوجز المسالك إلى موطأ مالك (دار الكتب العلمية، الجزء العاشر ص444 إلى ص451).
ـ[283] قول البيضاوي (ص/446 – 447).
ـ[284] الفوائد المقصودة في بيان الأحاديث الشاذة المردودة (ص/87 – 88 – 89 – 90).
ـ[285] مسند أحمد للإمام أحمد بن حنبل (ج3/451).
ـ[286] مختصر العلو (ص/82).
ـ[287] السنن الكبرى (10/57).
ـ[288] التلخيص الحبير» (3/250).
ـ[289] فتح الباري (1/266).