قال شيخ الإسلام المحدّث عبد الله الهرريّ([1]) رحمه الله في بيان ماهيَّة (النبوَّة) وكيفيَّة اشتقاقها: «اشتقاقها من النبأ، أي: الخبر، لأن النبوة إخبار عن الله تعالى، أو من النَّبْوَة وهي الرِفعة، فالنبيّ على الأول فَعِيل بمعنى فاعل لأنه يخبر عن الله بما يوحَى إليه، أو فعيل بمعنى مفعول، أي: عن الله، أي: يخبره الملَك عن الله سبحانه»([2]).اهـ.
والنبوّة جائزة عقلًا ليست مستحيلة، وهي هبة ربانية، يهبها الله لمن يشاء من عباده، ويختصّ بها من يريد من خلقه، وهي لا تُدْرَكُ بالجِدّ والتعب، ولا تُنَال بكثرة الطاعة والعبادة والاجتهاد، وإنما هي بمحض الفضل الإلهيّ كما قال سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74].
فهي إذًا اصطفاء واختيار، ولا تكون إلا لمن اختاره الله تبارك وتعالى لها، ممن هم أهل لحملها، لأنها حِمْل شديد وتكليف عظيم، لا يقدر عليه إلا أولو العزم والحزم من الرجال. كما قال تعالى لنبيّه خاتم الأنبياء والمرسلين ﷺ: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}([3]) [المزمل: 5].
وحين اعترض المشركون من كفار قريش على رسالة نبيّنا محمد ﷺ وأنكروا ذلك مستغربين أن تنزل الرسالة على شخص كان يتيمًا فقيرًا، لا يملك من أسباب القوة والغنى شيئًا على ما يَرَوْنَ، وليس له من مظاهر السلطان والملك ما يجعله في نظرهم عظيمًا، وحين رأَوْا بنظرهم القاصر أن النبوّة ينبغي أن تكون لغنيّ عظيم شريف من السادة والزعماء، من أشراف قريش وعظمائها، ومن ساداتها ووجهائها، جاء الردّ الإلهيّ الزاجر، فذكر الله تعالى شبهتهم وردّ عليهم فقال: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَـذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 31، 32]، فالآيتان الكريمتان ردّتا على المشركين سخافتهم وحماقتهم حين زعموا أن النبوة لا تليق إلا برجل من الأغنياء المشهورين، لا بإنسان فقير كان يتيمًا. إنما النبوة اختيار، يختار الله سبحانه وتعالى لها أفضل خلقه – على حسب علمه الأزلي – والله تعالى حكيم لا يضع الأمور في غير مواضعها، قال الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وإذا كانت النبوة أعظم شأنًا من المال والجاه والسلطان، وكان الله قد قسم لكل إنسان رزقه، ولكلّ مخلوق حظّه من المال والرزق، فكيف يترك الأمر الجليل العظيم وهو الرسالة والنبوة إلى أهواء الناس ورغباتهم؟ وهذا هو السر الدقيق في التعبير بقوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32]، فالذي وهب الرزق سبحانه وتعالى هو الذي وهب النبوة.
ثم إنَّ النبوة لا تكون بالإرث، فولد النبي لا يكون نبيًّا بطريق الإرث عن أبيه؛ بل هي بمحض الفضل الإلهيّ كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32].
[1])) عبد الله بن محمد بن يوسف الهرريّ الشيبيّ العبدري (ت1429هـ)، مفتي هرر ومحدث الديار الشامية، خليفة الشيخ بدر الدين الحسني، أَوْلى علمَ الحديث اهتمامه قراءةً ودرايةً للكتب الستة وغيرها، وأُجيز بالفتوى ورواية الحديث وهو دون الثامنة عشر، تلقى العلم عن كبار العلماء في عصره في الدول الإسلامية، وعمل على نشر العلوم النافعة في كثير من دول الأرض حيث حلّ، عمل على إصلاح عقائد الناس ومحاربة أهل الإلحاد وقمع فتن أهل البدع والأهواء، ترك مصنفات كثيرة منها: (شرح ألفية السيوطيّ في مصطلح الحديث)، و(الصراط المستقيم)، و(الدليل القويم)، و(إظهار العقيدة السنية بشرح العقيدة الطحاوية)، و(المقالات السنية في الرد على ابن تيمية). الدليل القويم، عبد الله الهرري، (ص6، 7).
[2])) الشرح القويم في حلّ ألفاظ الصراط المستقيم، الهرريّ، (ص319).
[3])) قال أبو حيان الأندلسيّ: «{قَوْلًا ثَقِيلًا} هو القرآن، وثقله بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة. وقال أبو العالية والقرطبيّ: ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده. وقيل: ثقله ما كان يحلّ بجسمه r حالة تلقيه الوحي، حتى كانت ناقته تبرك به ذلك الوقت، وحتى كادت رأسه الكريمة أن ترضّ فخذ زيد بن ثابت. وقيل: كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف. قال ابن عباس: كلامًا عظيمًا. وقيل: ثقيل في الميزان يوم القيامة، وهو إشارة إلى العمل به. وقيل: كناية عن بقائه على وجه الدهر، لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه».اهـ. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، (10/314).