الأربعاء سبتمبر 18, 2024

الاكتفاء بمطالعة الكتب قد يؤدِّي إلى المهالك

اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفَ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ الدِّينِيَّ لا يُؤْخَذُ بِالْمُطَالَعَةِ مِنَ الْكُتُبِ بَلْ بِالتَّعَلُّمِ مِنْ عَارِفٍ ثِقَةٍ أَخَذَ عَنْ مِثْلِهِ إِلى الصَّحَابَةِ.

فَإِنَّ الشَّخْصَ إِذَا لَمْ يتَعَلَّمْ عِنْدَ أهْلِ الْحَقِّ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى نَصٍّ قُرْءانِيٍّ أَوْ حَدِيثِيٍّ صَحِيحٍ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِهِ خِلاَفَ الصَّوابِ، وَفَهْمُهُ السَّقِيمُ قَدْ يُؤدِّي بِهِ إِلى الْكُفْرِ وَالْعِياذُ بِاللهِ تعالى، كالَّذينَ يُطالِعُونَ الْمُصْحَفَ والأحادِيثَ ثُمَّ يُفَسِّرونَ مِنْ عِنْدِ أنْفُسِهِم، وَلَنَا عَلَى ذَلِكَ أمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ منها:
أَنَّ الْرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لِمُعَاذٍ [ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يَا مُعَاذُ]، معناهُ انْتَبِهْ، ولَيْسَ سَبًّا لَهُ.

في الأَصْلِ مَعْنى (ثَكِلَتْكَ أمُّكَ) أَيْ تَمُوت وَأُمُّكَ حَيَّةٌ حَتَّى تَحْزَنَ عَلَيْكَ، ثُمَّ َصَارَ هَذا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ لِلْتَّنْبِيهِ، كَقَوْلِهِم (لا أَبَ لَكَ) أَوْ (لا أُمَّ لَكَ)، هَذا في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ كَانَ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى الْسَّبِّ، أَيْ يَمُوتُ أَبُوكَ، تَمُوتُ أُمُّكَ، ثُمَّ صارَ يُسْتَعْمَلُ لِلتَّنْبِيهِ.

فَمَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَسْمَعْ بِتَفْسِيرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْثِّقَاتِ فَليسَ لَهُ أَنْ يَخُوضَ في تَفْسيرِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، لأَنَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنَّ الرَّسُولَ دَعَا عَلَى مُعَاذٍ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ في حَقِّ الأَنْبِياءِ.

وَمِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [اللَّهُمَّ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ، فأيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ (أَيْ بِحَقٍّ) أوْ جَلَدْتُهُ (أيْ بِحَقٍّ) أوْ لَعَنْتُهُ (أَيْ بِحَقٍّ) فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ زَكاةً (أَيْ طُهْرَةً) وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا يَوْمَ القِيامَةِ (أي اجْعَلْ ذَلَكَ كَفَّارَةً لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ)].
الْجَاهِلُ الَّذي لَمْ يَتَلقَّ العِلْمَ مُشافَهَةً مِنْ أهْلِ العِلْمِ الثِّقاتِ قَدْ يَتَوهَّمُ مِن قَوْلِ الرَّسُولِ هَذا أَنَّ الْرَّسُولَ يَسُبُّ وَيَشْتُمُ وَيَجْلِدُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهَذَا كُفْرٌ وَضَلالٌ مُبِينٌ، وَالْعِياذُ بِاللهِ تعالى.

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: الَّذِي يَأخُذُ الْحَديثَ مِنَ الْكُتُبِ يُسَمَّى صَحُفِيًّا وَالَّذي يَأخُذُ الْقُرْءَانَ مِنَ الْمُصْحَفِ يُسَمَّى مُصْحَفِيًّا وَلا يُسَمَّى قَارِئًا.

حَدِيثُ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لاَ تَضَامُّونَ] رَوَاهُ مُسْلِمٌ، قَال أَهْلُ السُّنَّةِ: التَّشْبِيهُ هُنَا لَيْسَ تَشْبِيهًا للهِ بَلْ تَشْبِيهٌ لِلرُّؤْيَةِ، فَهُوَ وَارِدٌ عَلى الْمَعْنَى الَّذي يليق بالله، أَيْ أَنَّ الْعِبَادَ يَرَوْنَهُ رُؤَيَةً لاَ شَكَّ فِيها كَمَا أَنَّ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ سَحَابٌ يُرَى رُؤْيَةً لاَ شَكَّ فِيهَا.

وأَمَّا الْمُشَبِّهَةُ فَالْرُّؤْيَةُ عِنْدَهُم تَكُونُ بِالْكَيْفِيَّةِ وَالْجِهَةِ وإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ لَفْظًا بِلاَ كَيْفِيَّةٍ، لَكِنَّهُم يَعْتَقِدُونَ الْكَيْفِيَّةَ لأَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْجِهَةَ للهِ، فَالْرُّؤْيَةُ عِنْدَهُم لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِكَيْفِيَّةٍ، بِالْمُقَابَلَةِ، لأَنَّهُم يُفَسِّرُونَ هَذَا الْحَدِيثَ على غَيْرِ مَعْنَاهُ، لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ تَرَوْنَهُ مُوَاجَهَةً كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ مُوَاجَهةً.

فَأَهْلُ الْسُّنَّةِ عَلَى الْصِّرَاطِ الْمُسْتَقيم، لاَ كَمَا ذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ في نَفْيِهِم لِلرُّؤيَةِ وَتَحْرِيفِهِم لِلآيَةِ، وَلاَ كَمَا ذَهَبَتِ الْمُشَبِّهَةُ في جَعْلِهِم الْرُّؤيَةَ بِكَيْفِيَّةٍ، حَيْثُ أَثْبَتُوا للهِ تعالى الْجِهَةَ، فَهُمْ حَيْثُ أَثْبَتُوا لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الْجِهَةَ، فَلاَ بُدَّ أَنَّهُم يُثْبِتُونَ الرُّؤْيَةَ في جِهَةٍ، أَمَّا أَهْلُ السُّنَّةِ فَبَعيدُونَ مِنْ ذَلِكَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يُرَى بِلاَ مُقَابَلَةٍ وَلاَ مُدَابَرَةٍ، مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ الرَّائي في جِهَةٍ مِنَ اللهِ، لاَ يَمْنَةً، وَلاَ يَسْرَةً، وَلاَ فَوْقَ، وَلاَ أَسْفَلَ، وَلاَ قُدَّامَ، وَلاَ خَلْفَ.

كَذَلِكَ في لُغَةِ الْعَرَبِ حَرْفٌ وَاحِدٌ قَدْ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى، مَعْلُومٌ أَنَّ الْمَلائِكَةَ لا يَتَشَكَّلُونَ بِأَشْكَالِ النِّسَاءِ، يَتَشَكَّلُونَ بِأَشْكَالِ الرِّجَالِ جَمِيلِي الْصُّورَةِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ مِنْ غَيْرِ ءالَةِ الذُّكُورِيَّةِ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَأْتِي إِلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، كَانَ في كَثيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ يَأْتِي عَلَى هَيْئَةِ صَحَابِيٍ اسْمُهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، وَقَدْ وَرَدَ في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَاهُ وَمَعَهُ صُوُرَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، لَمْ يَأْتِهِ مُتَشَكِّلاً في صُوُرَةِ عَائِشَةَ، لا، بَلِ اللهُ تعالى خَلَقَ مِثَالاً لَهَا، صُورَةً لِعَائِشَةَ في قِمَاشَةٍ، فَأَتَى بِهِ إِلى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَأَرَاهُ لِلرَّسُولِ، هَذَا وَرَدَ في الْحَدِيثِ الْصَّحِيحِ.

فَالْشَّخْصُ الْجَاهِلُ بِعِلْمِ الْدِّينِ، الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّمِ الْقَوَاعِدَ، لَمْ يَتَعَلَّمْ أَنَّ الْمَلائِكَةَ لا يَتَشَكَّلُونَ بِصُوَرِ الإِنَاثٍ، إِذَا طَالَعَ كِتَابًا وَصَارَ يُفَسِّرُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَمَرَّ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي فيه [أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى الرَّسُولَ بِصُوُرَةِ عَائِشَةَ]، قَدْ يَعْتَقِدُ عَقِيدَةً فَاسِدَةً، عَقِيدَةً مُعَارِضَةً لِلْقُرْءانِ، فَيَظُنُّ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ جَاءَ مُتَشَكِّلاً في صُورَةِ عَائِشَةَ، وَالْعِيَاذُ بِاللهِ تعالى، فَيَكُونُ كَذَّبَ الشَّرِيعَةَ.

حَرْفٌ وَاحِدٌ قَدْ يُغَيِّرُ الْمَعْنَى، الَّذِي وَرَدَ في الْحَديث [بِصُورَةِ] وَلَيْسَ [في صُورَةِ]، فَرْقٌ بَيْنَ أَنْ تَقُولَ أَتى بِصُورَةِ كَذَا، وَبَيْنَ أَنْ تَقُولَ أَتى في صُوُرَةِ كَذَا، لَكِنْ مَنْ كَانَ جَاهِلاً بِعِلْمِ الْدِّينِ، لا يُمَيِّزُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، فَيُهْلِكُ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ وَهُوَ لا يَدْرِي.

كَذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ [لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتُحْرِقَ ثِيابَهُ وَتَخْلُصَ إِلى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ]، وَالْمُرادُ بِالْجُلُوسِ هُنَا هُوَ الْجُلُوسُ لِلبَوْلِ أَوِ الْغَائِطِ، أَمَّا مُجَرَّدُ الْجُلُوسِ عَلَى القَبْرِ لِغَيْرِ ذَلِكَ لا يَحْرُمُ، لَكَنَّهُ مَكْرُوهٌ، إِذَا كَانَ الدَّوْسُ عَلَى الْقَبْرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ كِتَابَاتٌ مُعَظَّمَةٌ لا يَحْرُمُ بَلْ يُكْرَهُ، فَكَيْفَ بِالْجُلُوسِ عَلَيْهِ.

إِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الشَّخْصَ لَوِ ابْتُلِيَ بِأَنْ جَلَسَ عَلَى جَمْرَةٍ فَأَحْرَقَتْ ثِيَابَهُ حَتَّى وَصَلَتْ إِلى جِلْدِهِ فَإِن ذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ لِيَبُولَ أَوْ يَتَغَوَّطَ عَلَيْهِ.

كَذَلِكَ مَا وَرَدَ في الْحَديثِ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذا أَوْصَى أَهْلَهُ بِأَنْ يَفْعلُوا النَّدْبَ أَوِ الْنِّيَاحَةَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُعَذَّبُ بِذَلِكَ لأَنَّهُ أمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، ولَيْسَ مَعناهُ أنَّهُ يُعَذَّبُ بِمُجَرَّدِ بُكَاءِ أهْلِهِ عَلَيْهِ. فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الرَّسولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ نَفْسَهُ بَكَى لَمَّا ماتَ ابْنُهُ إِبْرَاهيمُ، فَسَألَهُ أَحَدُ الصَّحابَةِ عَنْ ذَلِكَ فقالَ [هَذِهِ رَحْمَةٌ يَجْعَلُهَا اللهُ في قُلُوبِ مَنْ شاءَ مِنْ عِبادِهِ].

وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ: لا يَزَالُ اللهُ مُقْبِلاً عَلَى الْعَبْدِ في صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَرَفَ وَجْهَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ أَيْ قَطَعَ عَنْهُ الرَّحْمَةَ، الْجَاهِلُ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ أَنَّ اللهَ يَتَّصِفُ بِالْحَرَكَةِ والسُّكُونِ، وَالْجِهَةِ والْمَكَانِ، وَهَذَا كُفْرٌ.

كَذَلِكَ مَعْلُومٌ أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَكُونُ مَوْتٌ لِلْكُفَّارِ وَلا لِلْمُؤمِنينَ، أَمَّا مَا وَرَدَ في مُسْلِمٍ أَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يُمِيتُهُمُ اللهُ ثُمَّ يُخْرِجُهُم فَإِنَّهُ يُؤَوَّلُ، مَعْنَاهُ يَصِيرُونَ كَالأَمْوَاتِ مِنْ شِدَّةِ تَغَيُّرِهِم، يَصِيرُونَ فَحْمًا.

وَإِلا فَالإجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ أَنَّ الإنْسَانَ يَمُوتُ مَرَّتَيْنِ وَيَحْيَى مَرَّتَيْنِ، قَالَ تعالى (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [غافر، 11]، مَعْنَاهُ أَنَّ الإنْسَانَ يَكُونُ نُطْفَةً مَيِّتَةً ثُمَّ يَحْيَى ثُمَّ يَمُوتُ ثُمَّ يَحْيَى. وَمِنْ هَذَا يُسْتَفَادُ أَيْضًا عَدَمُ جَوَازِ قَوْلِ (الْحَيَوَانَاتِ الْمَنَوِيَّة) لأَنَّ اللهَ تعالى قَال (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ) مَعْنَاهُ كُنْتُمْ نُطَفًا مَيِّتَةً لا أَرْوَاحَ فِيها.

وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ حَدِيثَ [مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِم إِلا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً، فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُم، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم]، وَصَحَّحَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ [فَإِنْ شَاء عَذَّبَهُم وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُم] هَذَا مَعْنَاهُ إِذَا لَمْ يُصَلُّوا، إِذَا تَفَرَّقُوا وَلَمْ يُصَلُّوا صَلاةَ الْفَرِيضَةِ.

كَذَلِكَ وَرَدَ في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ جِبْرِيلَ في لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ أَتَى الرَّسُولَ بِكَأسٍ مِنْ خَمْرٍ وَكَأسٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَارَ اللَّبَنَ، فَقالَ لَهُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. أَيِ اخْتَرْتَ الدِّينَ، وَهَذِهِ الْخَمْرُ كَانَتْ مِنْ خَمْرِ الْجَنَّةِ لَيْسَتْ مِنْ خَمْرِ الْدُّنْيَا الْمُسْكِرَةُ.

فَالْجَاهِلُ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْخَمْرُ كَانَتْ مِنْ خَمْرِ الدُّنْيا الْمُسْكِرِ وَأَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَخْتَارَهَا فَهَذَا كُفْرٌ، أمَّا إِنْ قَالَ هَذَا لإظْهَارِ أَنَّ الرَّسُولَ لا يَخْتَارُ الْحَرَامَ فَلا يَكْفُرُ لكِنَّهُ غَلَطٌ.

وَوَرَدَ في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ امْرَأَةً قُتِلَ وَلَدُهَا في سَبِيلِ اللهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَجَاءَتْ رَسُولَ اللهِ فَقالَت: إِنْ كَانَ ابْنِي في الْجَنَّةِ وَإِلا بَكَيْتُ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقالَ لَها [أَهَبَلْتِ، إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّ ابْنَكِ في الْفِرْدَوْسِ الأعْلى]، مَعْنَى أَهَبَلْتِ أَيْ أَذَهَبَ عَقْلُكِ، وَهَذَا لِتَنْبِيهِهَا.

وَوَرَدَ في الصَّحِيحِ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ يُطِيلُ الْقِيَامَ في الصَّلاةِ فَيَحْصُلُ وَرَمٌ في قَدَمَيْهِ بِلا ضَرَرٍ، يَزُولُ بِنَحْوِ الْمَشْيِ، وَلا يَجُوزُ اعْتِقَادُ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَضُرُّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَضُرُّ نَفْسَهُ فَهَذَا كُفْرٌ.

وَوَرَدَ في الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا نَظَرَ إِلى نَعِيمِ مَنْ كَانَ يَعْمَلُ بَعْضَ الْحَسَناتِ في الْجَنَّةِ يَتَحَسَّرُ، مَعْنَاهُ يَقُولُ يا لَيْتَنِي مَا فَوَّتّ ذَلِكَ دُونَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ أَيُّ انْزِعَاجٍ.

كَذَلِكَ لاَ يَصِحُّ عَقْلاً وَلاَ شَرْعًا أَن يَتَّصِفَ الْعَبْدُ أَوْ أَيُّ شَىْءٍ مِنَ الأَشْياءِ الْحَادِثَةِ بِشَىءٍ مِنْ صِفَاتِ اللهِ تعالى.

وَلَقَد أَساءَ التَّعْبِيرَ مَنْ قالَ إِنَّ اللهَ جَعَلَ ءادَمَ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِهِ (أَي بِصِفَاتِ اللهِ) مِن سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَلِكَ في تَفْسيرِهِ الْحَدِيثَ الَّذي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ [إِنَّ اللهَ خَلَقَ ءادَمَ عَلَى صُورَتِهِ]، وَهَذا الْتَّعْبِيرُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ الْحَدِيثَ فَاسِدٌ، لأَنَّهُ لا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَشَىْءٍ مِنْ خَلْقِهِ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَةِ، أَمَّا إِذا قيلَ اللهُ عَالِمٌ والشَّافِعِيُّ عَالِمٌ، فَهَذَا لا يُسَمَّى مُشَارَكَةً، إِنَّما يُسَمَّى اتِّفَاقًا لَفْظِيًّا مَعَ اخْتِلافِ الْمَعْنَى في وَصْفِ اللهِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا وَوَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِكَوْنِهِ عَالِمًا.

وَمَعْنَى [على صُورَتِهِ] أَيْ عَلَى الْصُّورَةِ الَّتي خَلَقَهَا اللهُ وَشَرَّفَهَا، كَمَا هُوَ الْمَعْنَى في قَوْلِهِ تعالى في حَقِّ عِيسَى (فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُوحِنَا) [التَّحريِم، 12] أَيْ أَمَرْنَا الْمَلَكَ جِبْرِيلَ أَنْ يَنْفُخَ في مَرْيَمَ رُوحَ عِيسَى الَّذِي هُوَ رُوحٌ مُشَرَّفٌ عِنْدَنا فَهَذِهِ الإضَافَةُ إِضَافَةُ الْمِلْكِ وَالتَّشْرِيفِ وَلَيْسَتْ إِضَافَةَ الْجُزْئِيَّةِ.

وَقَدْ زَاغَ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ عِلْمَ التَّنْزِيهِ مِمَّنِ اقْتَصَرَ عَلَى حِفْظِ القُرْءانِ مِنْ دُونِ تَلَقٍّ لِعِلْمِ الدِّينِ تَفَهُّمًا مِنْ أَفْواهِ أَهْلِ العِلْمِ الَّذِينَ تَلَقَّوْا مِمَّنْ قَبْلَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَهُ ءَاذَانٌ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَالَ الرَّسُولُ [لَلَّهُ أَشَدُّ ءاذَانًا]، فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ حَرَّفْتَ الْحَدِيثَ، الْحَدِيثُ [أَذَنًا] وَلَيْسَ ءَاذَانًا، هُوَ ظَنَّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ عَالِمٌ، فَتَجَرَّأَ عَلَى تَحْرِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ الصَّوابُ، وَالأَذَنُ في اللُّغَةِ الاسْتِمَاعُ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَ الإِمامُ الأَوْزَاعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الْحَدِيثَ، وَقَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ مِنْ أَفْحَشِ الكَذِبِ عَلَى اللهِ، لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ قَبْلَهُ فِيمَا نَعْلَمُ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي هُوَ [لَلَّهُ أَشَدُّ أَذَنًا لِقَارئِ الْقُرْءانِ مِنْ صَاحِبِ الْقَيْنَةِ إِلى قَيْنَتِهِ] أنَّ اللهَ يُحِبُّ قِرَاءَةَ الْقُرْءانِ مِنَ الَّذِي يُتْقِنُهَا ومخلصاً أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ صَاحِبُ الْجَارِيَةِ الاسْتِمَاعَ إِليها وقد اشْتَرَاهَا وَعَلَّمَهَا الْعَرَبِيَّةَ حَتَّى تُغَنِّيَ لَهُ.

كَمَا أَنَّهُ تُوجَدُ ثَلاثُ رِوَايَاتٍ لِلْبُخَارِيِّ، رِوَايَةُ حَمَّادِ بْنِ شَاكِرٍ، وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَعْقِلٍ النَّسَفِيِّ، وَرِوَايَةُ الْفِرَبْرِي، وَهِذِهِ (أَيْ رِوَايَةُ الْفِرَبْرِي) فِيهَا مَا فِيها مِمَّا يُعَارِضُ الدِّين، فِيَهِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ إنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَتَرَدَّدُ إِلِيْهِ فَتَذْكُرُ عَذَابَ الْقَبْرِ فَنَفَى ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ أَثْبَتَ عَذَابَ الْقَبْرِ، هَذَا لا يَلِيقُ بِالرَّسُولِ، الرَّسُولُ لا يَتَكَلَّمُ بِأَمْرِ الآخِرَةِ وَالْحَلالِ وَالْحَرَامِ إِلا بِالْوَحْيِ، هَذَا يُؤَدِّي إِلى الشَّكِّ بِكَلامِ الرَّسُولِ، وَيُوجَدُ مَوْضِعٌ ءاخَرُ أَيْضًا قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ غَيْرُ صَحِيحٍ، هَذَا لا الرَّسُولُ قَالَهُ، وَلا عَائِشَةُ، وَلا البُخَارِيُّ.

بَعْضُ الْجُهَّالِ إِذَا قِيلَ لَهُمْ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، يَقُولُونَ: مَا لَنَا وَلِلنَّاسِ نَحْنُ صَلَّيْنا وَصُمْنا وَاللهُ تَعَالى يَقُول ﴿ يا أَيُّها الَّذِينَ ءامَنُوا عَلَيْكُم أَنْفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم ﴾ [المائدة، 105]، يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعْنَى الآيَةِ أَنْتُمْ فَقَط اهْتَمُّوا بِأَنْفُسِكُم لَوْ لَمْ تَأمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، هَؤُلاءِ مَا فَهِمُوا مَعْنى الآية، الإمَامُ أَحْمَدُ رَوَى في مُسْنَدِهِ مِنْ طَرِيقِ أَبي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَضَعُونَ هَذِهِ الآيَةَ في غَيْرِ مَوْضِعِهَا ﴿ يَا أَيُّها الَّذينَ ءامَنُوا عَلَيْكُم أَنْفُسَكُم لا يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة، 105]، إِِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ يَقُولُ [إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابٍ]. اهـ

فَهَذِهِ الآيَةُ مَعْناهَا أنَّهُ عَلَيْكَ نَفْسَكَ وعَلَيْكَ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ بِجِدٍّ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ بِجِدٍّ فإِن لَمْ يُطِعْكَ النَّاسُ الَّذينَ أَمَرْتَهُمْ وَنَهَيْتَهُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ إِذَا هُمْ عَصَوْا.

وَأَمَّا قَوْلُ اللهِ تعالى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونا ﴾ [سورة طه، 40]، فَمَعْنَاهُ وَفَضَّلْنَاكَ تَفْضِيلاً، فالأنبياء على الهدى دائماً لا يطرأ عليهم ضلالٌ مدّة حياتهم.

والله أعلم وأحكم…..