الجمعة نوفمبر 8, 2024

الاعتبارُ بمصيبة الموت (كَفَى بالموتِ واعظاً)
قال الله تبارك وتعالى: كلُّ نفسٍ ذآئِقةُ الموتِ. 185سورة ءال عمران
وقال النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلم ” أكثروا ذكرَ هاذم اللَّذات”، يعني الموت. رواه الترمذي.
اعلم أن الموت حقٌ كتبه الله على كل حيّ من عباده ولم يستثن منهم أحدًا حتى أنبياءه ورسله الذين هم أفضل مخلوقاته, قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه”: ومَا جَعَلنا لِبَشرٍ مِن قبلِكَ الخُلْدَ أفإيْن مِتَّ فَهُمُ الخَلِدوُنَ”.( 34 ) كُلُّ نفسٍ ذآئقةُ الموتِ ونبلُوكُم بالشرِّ والخيرِ فِتنَةً وإلينَا تُرجَعُونَ(35) سورة الأنبياء.

خلقَ الله تبارك وتعالى جسد ءادم عليه السلام من مختلف تراب هذه الأرض ونفخ المَلك الموكَّل روح ءادم الشريف في فيه ـ أي فمه ـ بأمر من الله تعالى فكانت روحه عليه السلام في جسده، وكذلك جعل الله تبارك وتعالى أرواح ذريته في أجسادهم في هذه الدار الفانية كالعاريّة ـ والعاريّة هي ما تعطيه لغيرك لينتفع به على أن يرده ويعيده إليك.

وقضى الله سبحانه وتعالى على ءادم عليه السلام وعلى ذريته من أنه لا بدَّ من أن يستردَّ أرواحهم من هذه الأجساد بالموت، ثم يعيد أجسادهم إلى هذه الأرض التي خلقوا منها، ثم يوم القيامة يُبعثون فيخرجون من قبورهم بعد إعادة الجسد الذي أكله التراب إن كان من الأجساد التي يأكلها التراب وهي أجساد غير الأنبياء وشهداء المعركة وأجساد بعض الأولياء، قال الله تبارك وتعالى:” مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) سورة طه، وقال تعالى:” قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) سورة الأعراف، وقال عزَّ من قائل:” وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) سورة نوح.

فائدة: ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أنَّ صبيًا لها أو ابنًا في الموت فقال للرسول ـ أي لهذا المُرسَل من قبل بنته صلى الله عليه وسلم ـ : ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى وكل شىء عنده بأجل مسمّى فمُرها فلتصبر ولتحتسب” وذكر تمام الحديث، قال الإمام النووي: فهذا الحديث من أعظم قواعد الإسلام المشتملة على مهمات كثيرة من أصول الدين وفروعه والآداب والصبر على النوازل والهموم والأسقام وغير ذلك من الأعراض.

ومعنى “أن لله تعالى ما أخذ”: أنَّ العالم ملك لله فلم يأخذ ما هو لكم بل أخذ ما هو له عندكم في معنى العاريّة ، ومعنى قوله “ما أعطى”: أنَّ ما وهبه لكم ليس خارجًا عن ملكه له سبحانه يفعل فيه ما يشاء، “وكل شىء عنده بأجل مسمَّى” أي فلا تجزعوا فإنَّ من قبضه قد انقضى أجله المسمَّى فمحال تأخره أو تقدمه عنه، فإذا علمتم هذا كلَّه فاصبروا واحتسبوا ما نزل بكم والله أعلم.

وفي مسند البزار عن أنس, أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم لمّا ناموا عن الصلاة: “أيها الناس إنّ هذه الأرواح عاريّة في أجساد العباد فيقبضها إذا شاء ويرسلها إذا شاء”.

قال أحدهم:
استعدي يا نفس للموت واسعَي==لنجاةٍ فالحـازم المستَعِدُّ
قد تَيَقّنْت أنَّه ليس للحيّ== خلـود ولا مـن المــوت بُــد
إنمـا أنـت مُسْتَعيـرةٌ مـا== سوف تردين والعواري تُردُّ

واعلم يا أخي المسلم أن الموت كأس وكل الناس شاربه، والقبر بيت وكل الناس داخله، والكيّسُ العاقل الفطن هو من استعدّ لما بعد الموت بالتقوى والعمل الصالح، وقد أمر وحضّ الرسول صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكرالموت لِحكمٍ وفوائد كثيرة فقال عليه الصلاة والسلام: “أكثروا ذكرَ هاذم اللَّذات” ـ يعني الموت ـ رواه الترمذي.

 

وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد عظيمة منها: أنه يحث الإنسان على الاستعداد له قبل نزوله، ويُقصّر الأمل ويُرضي بالقليل من الرزق، ويُزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، ويُهوّن مصائب الدنيا، ويمنع من الأشر والبَطَر والتكبر والتوسع في لذات الدنيا الفانية.

يقول الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه: ” كفى بالموت واعظًا، وكفى بالدهرمُفرقًا، اليومَ في الدور، وغذًا في القبور “.
وقد كان نقش خاتم الفاروق عمر رضي الله عنه “: كفى بالموت واعظًا يا عمر”.

وما أحسن قول القائل:
اذكر الموت ولازم ذِكرَهُ== إن في الموت لذي اللُّبِ عِبَـرْ
وكفى بالموت فاعلم واعظًا== لمن الموت عليه قد قُدِرْ
حقاً من بدنياه اشتغل== وغَرّهُ طول الأمل
الموت يأتي فجأةً == والقبر صندوق العمــل
وقال غيره:
كلنـا فـي غفلة == والموت يغدو ويروْحُ
لبني الدنيا من الموت== غَبُوقٌ(1) وصَبُوحُ(2)
سيصيرُ المرءُ يوماً== جسداً ما فيه روحُ
بيـن عينــي كـل حـيّ == عَلَمُ المـوت يلُــوحُ
تُــحْ على نفسـك يا مسكيــن== إن كنـت تنــوحُ
لتَمُـوتّنَّ ولو عُمّـرتَ == مــا عُمّــرَ نُــوحُ

(1)معنى الغبوق: شرب العشي
(2) معنى الصَّبوح: ما شرب غدوة أي صباحاً

وقيل
لدوا للموت وابنوا للخراب == فكلكم يصيرُ إلى التراب
كيف يُطمع في البقاء وقد كتب الله تبارك وتعالى الموت على أنبيائه ورسله أم كيف يؤمن هجوم المنايا ولم ولن يَسْلَمَ منه الأصفياء والأخيار!
هيهــات ! هيهــات!
ما فـي الحيــاة بقــاء == مــا في الحيــاة ثبــوت
تمــوت كـل البـرايـا == سبحــان مــن لا يمــوت

يا أخي: الموتُ يعُمنا والقبر يضُمنا والكفن يلفُنا وإلى الله العزيز الحكيم مرجعنا.
قال الله تعالى:” واتقوا يومًا تُرجَعون َ فيهِ إلى اللهِ ثمَّ تُوفَّى كُلُّ نفس مَّا كسبَت وهُم لا يُظلمون” سورة البقرة.

ومن بديع الأمثال والعبر:
عجبتُ لمن أيقنَ بالموت كيف يفرح؟
عجبتُ لمن أيقن بالنار كيف يضحك؟
عجبتُ لمن أيقن بالقَدَرِ كيف يَنصَبُ؟ أي يتعب.
عجبتُ لمن رأى الدنيا وسرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها؟

تذكّر يا أخي هجوم الموت على بني ءادم في كل لحظة ومكان واعلم أن الموت يقطع نعيم هذه الدنيا الفانية، فهذه الدنيا دار ممر وليست دار مقر، وأنَّ الموت منتظر منّا في كل ساعة، وأنَّ الذكي الفطن العاقل هو من تزود من هذه الدنيا الفانية إلى الآخرة الباقية، قال الله تبارك وتعالى:” وتّزّوَّدوا فإنَّ خير الزَّاد التقوى واتقُونِ يأُولي الألبَبِ”.(197) سورة البقرة.

ولقد أحسن القائل:
إن لله عبــاداً فُطنــا == طلقوا الدنيا وخافوا الفِتَنــا
نظروا فيها فلمّــا علموا == أنها ليست لحي وَطَنــا
جعلوها لجّـة واتخدوا == صالح الأعمال فيهــا سُفُنــا

يروى عن الإمام الشافعي رضي الله عنه في تعزيته لرجل مات له ولد فجزع عليه جزعاً شديداً.

إني معزيك لا أني على طمع == من الحياة ولكن سُنَّةُ الدينِ
فما المُعزي بباق بعد صاحبهِ == ولا المُعزى ولو عاشا إلى حين

 

تأهَّب يا انسان للموت واستعد له بالتقوى والعمل الصالح.. الموت ءات قريب لا مفرّ منه فإذا كنت يوماً ذهبت إلى المقابر فدفنت قريباً لك أو صديقاً ثم عدتَ أدراجك، فسيأتي يوم يُذهب بك إلى هناك ولا تعود إلى دنياك..
وإذا كنت يوماً حفرت قبراً لأخيك فسيأتي يوم يُحفر لك حفرة وتدفن فيها ثم لا تعود إلى أهلك.. وإذا كنت يوماً حملتَ نعشاً لأخيك.. فغداً أنت المحمــول..

وإذا كنت يوماً عزيتَ بقريب لك أو صديق، فسيأتي يومٌ يُعزّى بك وأنت تحت التراب.
يقول أحد العارفين بالله تعالى بعد أن ذكّر بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:” اذكروا هاذم اللّذات” رواه الترمذي.
ينبغي للمسلم في كل أيام السنة أن يتذكر الموت، وأن الموت ءاتٍ لا محالة، فيُحاسب نفسه وينظر ماذا أعدَّ لآخرته من العمل الصالح، لأن الآخرة دارُ القرار ولا ينفعُ فيها سوى الإيمان والعملُ الصالح.
قال الله تعالى:” يأيُّها الذين ءامنوا اتَّقوا اللهَ ولتنظُر نفسٌ مَّا قدَّمت لغدٍ واتَّقوا اللهَ إنَّ اللهَ خبيرٌ بما تعملون” (18) سورة الحشر.
معناه لينظر المرء أي ليتفكر ماذا أعدَّ لآخرته أي من العمل الذي يُرضي الله عزَّ وجلَّ وذلك يكونُ في كل الأيام والليالي التي يعيشها الإنسان، لأن أنفاسنا معدودة وءاجالنا محدودة وما فات وانقضى من عمرنا لن يعود، فالإكثار من الطاعات هو ذُخرُالمؤمن قال الله تعالى:” المالُ والبنون زينةُ الحيوةِ الدنيا والبقيتُ الصلحتُ خيرٌ عند ربِّكَ ثوابا وخير أملا” (46) سورة الكهف.
يقول أحدهم:
أمرُّ على المقابر كل حينٍ == ولا أدري بأي الأرض قبري
أفرحُ بالغنى إن زاد مالي == ولا أبكي على نقصان عمري

فالدنيا دار عمل والآخرة دار حساب على العمل، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه:” ارتحلت الدنيا وهي مدبرة وارتحلت الآخرة وهي مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، اليوم العمل ولا حساب وغداً الحساب ولا عمل”.

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد == ذُخراً يكون كصالح الأعمال

إن سبيل النجاة يوم القيامة هو تقوى الله عزَّ وجلَّ بأداء ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، لأنَّ من كان يحبُّ الجنة ويريدها عليه أن يعمل لما يقربه للحصول عليها، ومن خاف النار وأراد البعد عنها عليه أن يعمل لما يقربه للحصول عليها، ومن خاف النار وأراد البعد عنها عليه أن يعمل لما يجنبه دخولها وذلك يكون بالتقوى، قال الله تعالى:” وتَزوَّدوا فإن خيرَ الزادِ التقوى” (197) سورة البقرة.
ولله دَرّ القائل:
يا من يُعانقُ دنيا لا بقاء لها == يُمْسي ويصبح مغروراً وغَرّراً
هَلاّ تركت من الدنيا معانقة == حتى تُعانقَ في الفردوس أبكاراً
إنْ كنتَ تبغي جنان الخُلد تسكنها == فينبغي لك أن لا تأمن النارا