الأربعاء نوفمبر 13, 2024

الإمام العز بن عبد السلام سلطان العلماء


ترجمته:
قال التاج السبكي في طبقاته في نسب الشيخ ما نصه: “عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي”، وذكر في تاريخ مولده قولين: أحدهما أنه ولد سنة خمسمائة وسبع وسبعين للهجرة، والآخر سنة خمسمائة وثمان وسبعين. تفقه على مؤرخ الشام الإمام الشيخ فخر الدين بن عساكر، وقرأ أصول الحديث على الشيخ سيف الدين الأمدي وغيره، وسمع الحديث من عدد كبير من المحدثين، منهم الحافظ أبو محمد القاسم، وشيخ الشيوخ عبد اللطيف بن إسماعيل بن أبي سعد البغدادي، وعمر بن محمد بن طبرزد، وحنبل بن عبد الله الرصافي، وكثيرين غيرهم.

درَّس في دمشق بالزاوية الغزالية وغيرها، وولي الخطابة والإمامة بالجامع الأموي، فأزال كثيرًا من البدع وقتئذٍ.


مناقبه:
روى الإمام تاج الدين السبكي في طبقاته حادثة فريدة من نوعها، جرت في زمن سلطان العلماء الشيخ العز بن عبد السلام، وهي أن بعض أمراء الدولة من المماليك كانوا لا يزالون عبيدًا مملوكين ولم يكونوا أحرارًا، فأفتى الشيخ ابن عبد السلام أن لهم حكم الرق، وأنهم لا بد أن ينادى عليهم ليباعوا، فاحتدم الأمر بينهم وبين الشيخ، فأرسلوا إليه فقال: نعقد لكم مجلسًا وينادى عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فرفعوا أمره إلى السلطان فأنكر عليه دخوله في هذا الأمر، فغضب الشيخ وحمل حوائجه قاصدًا بلاد الشام. ولما علم أهل مصر عزمه على ذلك خرج غالبهم وراءه حتى لم يبقَ رجل ولا امرأة ولا طفل إلا خرجوا وراءه، فبلغ السلطان الخبر وقيل له: إن خرج الشيخ من مصر ذهب مُلكك، فركب السلطان ولحقه واسترضاه وطيَّب خاطره.

وفي تتمة هذه الحادثة أن نائب السلطان انزعج من كلام الشيخ فقال: كيف ينادى علينا ونحن ملوك الأرض، والله لأضربنه بسيفي، فلما دخل النائب ووقع بصر الشيخ عليه يبست يده وسقط السيف منها، فبكى النائب وسأل الشيخ أن يعفو عنه ويدعو له، ورضي بحكم الشيخ أن ينادى عليهم، فنادى على الأمراء واحدًا واحدًا وغالى في ثمنهم حتى قبضه وصرفه في وجوه الخير، فكانت هذه من الحوادث التي لم يسمع بمثلها عن أحد، والتي تظهر هيبة العلماء ومكانتهم عند الأمراء والسلاطين.

وقد اشتهر عن الشيخ العز بن عبد السلام ما وقع له في الشام ومصر من المحن التي كان سببها أهل البدع والضلال، فمن أشهرها ما حصل بينه وبين الملك الأشرف موسى بن الملك العادل في مصر، وهي أن طائفة من مُجسّمة الحنابلة قد صحبوا السلطان الأشرف منذ صغره فتأثر بهم حتى اعتقد عقائدهم، وصاروا يوهمونه بأن ما جاءوا به هو عقيدة الصحابة والتابعين والإمام أحمد بن حنبل وبدأوا بالطعن في الشيخ وتشويه صورته عند السلطان، وقالوا به إنه أشعري العقدية ينزه الله عن الحرف والصوت، فبدّعه السلطان وضلله على هذا وكفّره، وبعث إليه برسالة يطلب فيها منه أن يبين عقيدته، فكتب الشيخ في الرسالة العقيدة المشهورة وهي عقيدة إمام أهل السنة الإمام أبي الحسن الأشعري، ومما جاء فيها قوله: “الحمد لله ذي العزة والجلال والقدرة والكمال، والإنعام والإفضال، الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدَّر، ولا يشبه شيئًا، ولا يشبهه شيء، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات، كان قبل أن يكون المكان، ودبر الزمان وهو الآن على ما عليه كان”. ويقول أيضًا في هذه الرسالة: “استوى على العرش المجيد على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواءً منزهًا عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال… متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت. ولا يُتصور في كلامه أن ينقلب مدادًا في الألواح والأوراق شكلاً ترمقه العيون والأحداق كما زعم أهل الحشو والنفاق، بل الكتابة من أفعال العباد ولا يتصور في أفعالهم أن تكون قديمة”. ولما فرغ الشيخ من هذه الرسالة الطويلة التقطها المجسمة وطاروا بها إلى السطان، فلما قرأها قال: ظهر من الاختبار أنه من الفجار، لا بل من الكفار.

والتمس الشيخ ابن عبد السلام من السلطان أن يعقد مجلسًا للشافعية والحنابلة والمالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين فلم يستجب له في ذلك، وشرط عليه ثلاثة شروط: أن لا يُفتي، وأن لا يجتمع بأحد، وأن يلزم بيته ولا يفارقه، فبقي الشيخ على هذه الحال إلى أن وصل إلى أسماع الشيخ جمال الدين الخضيري شيخ الحنفية خبر الشيخ ابن عبد السلام، فأخذ معه أصحابه حتى دخلوا دار الإمارة، فلما رءاه السلطان قام إليه فأنزله عن حماره وأحسن وفادته، فقال الشيخ جمال الدين: ماذا بينك وبين ابن عبد السلام، هذا رجل لو كان في الهند أو في أقصة الدنيا كان ينبغي للسطان أن يسعى في حلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده، ويفتخر به على سائر ملوك الأرض، فقال السلطان: عندي رسالتين له تظهران اعتقاده، فلو وقفت عليهما لتكون الحكم بيني وبينه، فأحضر الرسالتين فقرأهما الشيخ جمال الدين وقال: هذا اعتقاد المسلمين وشعار الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار، فكان ذلك سببًا في عودة السلطان الأشرف عن ضلالته، فأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب مخاللته، وصار يترضاه ويعمل بفتاويه، وطلب أن يقرأ عليه بعض تصانيفه ككتاب “الملحة في الاعتقاد” وغيرها. كما صرح مرة بقوله: لقد غلطنا في حق ابن عبد السلام غلطة عظيمة.


رحلته إلى مصر:
بقي الشيخ عز الدين بن عبد السلام في دمشق إلى أثناء الصالح إسماعيل المعروف بأبي الخبيش الذي استعان بالفرنجة وأعطاهم مدينة صيدا، فغضب الشيخ عز الدين وترك الدعاء له على المنابر، وساعده في ذلك الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي، فغضب الملك منهما فخرجا إلى مصر سنة ستمائة وتسع وثلاثين للهجرة، فاستقبله الملك نجم الدين أيوب الكامل، فأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص والقضاء في القاهرة والوجه القبلي.

ومما يروى عن شجاعة الشيخ ما جرى بينه وبين الملك نجم الدين، وهو أنه خرج يوم العيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين ومجلس المملكة مجتمعين عند الملك وقد خرج على قومه في زينته وأبهته على عادة سلاطين مصر، فالتفت الشيخ إلى الملك وناداه: يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور، فقال: هل جرى ذلك؟ فقال الشيخ: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، فقال السلطان: يا سيدي، هذا أنا ما علمته، هذا من زمان أبي، عندها قال الشيخ: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا ءاباءنا على أمة، فأمر السلطان عندها بإغلاق تلك الحانة.


ثناء العلماء عليه:
منهم شيخ الإسلام ابن دقيق العيد الذي قال فيه: “كان ابن عبد السلام أحد أساطين العلماء”. وأثنى عليه كذلك الشيخ جمال الدين بن الحاجب قائلاً: “ابن عبد السلام أفقه من الغزالي”.

أما التاج السبكي فقد قال فيه بطبقاته: “شيخ الإسلام والمسلمين وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها، لم ير مثل نفسه ولا رأى من رءاه مثله علمًا وورعًا وقيامًا في الحق وشجاعة وقوة جنان”.


وفاته:
بقي الشيخ العز بن عبد السلام إلى عهد الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، فكان الملك يعظمه ويحترمه ويعرف قدره ويقف عند أقواله وفتاويه. وفي عهده توفي الشيخ وذلك في التاسع من جمادى الأولى في سنة ستمائة وستين للهجرة، فحزن عليه الملك كثيرًا وشيّعه مع خاصته وأمراء دولته، وحمل نعشه وحضر دفنه.

وروي أن جنازة الشيخ لما مرت تحت القلعة وشاهد الملك الظاهر بيبرس الأعداد العائلة من المشيعين قال لبعض خواسه: اليوم استقر أمري في الملك لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع الملك مني.

وهكذ انتقل إلى رحمة الله واحد من أساطين العلم الذين عاشوا في زمن كثرت فيها الدسائس والمؤامرات التي حاكها أهل الضلال فتربصوا بالمسلمين وكادوا لهم، ولكن الله نصره على المشبهة وجعل كيدهم في نحورهم، وسخّر لهذا الدين من الملوك من دافع عن العقيدة الحقة التي دعا إليها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

جزاه الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرًا.