لقد سلك الألباني طريقًا شائكًا لنصرة معتقده، وللفت الأنظار إليه، والتمويه على العوام، فتهجم على أهل السُّنَّة والجماعة ورماهم بالكفر، فقد ذكر([1]) أن الأشاعرة اليوم كلهم كفار وأغلب الماتريدية إن لم يكونوا كلهم، ومن راجع فتاويه وجد الطعن في أكثر من موضع بالأشاعرة والماتريدية.
وقال في كتابه المسمّى «سلسلة الأحاديث الصحيحة» ما نصّه([2]): «فإن ما أنا فيه من الاشتغال بالمشروع العظيم «تقريب السُّنَّة بين يدي الأمة»، الذي يشغلني عنه في كثير من الأحيان ردود تنشر في رسائل وكتب ومجلات من بعض أعداء السُّنَّة من المتمذهبة والأشاعرة والمتصوفة وغيرهم».اهـ.
وقال الألباني أيضًا في كتابه المسمّى «صحيح الترغيب والترهيب» عند حديث: «إنَّ اللهَ تبارك وتعالى إذا كان يومُ القيامةِ ينزلُ إلى العبادِ»([3]) ما نصّه([4]): «هذا النزول حقيقي كما يليق بجلاله وكماله، وهو صفة فعل لله تعالى، فإياك أن تتأوله كما يفعل الخلف فتضلّ».اهـ.
الرَّدُّ:
من وصف علماء أهل السُّنَّة من الخلف بالضلال فهو الضال المضلّ، إذ كيف يكون ضالًّا من تأوَّل حديث النزول على ما يوافق اللغة والشريعة، لقد اجترأ الألباني على أئمة المسلمين وهداة المؤمنين، وضلل طائفة علماء الخلف من أهل السُّنَّة، وهم الكثرة الساحقة من المفسرين والفقهاء والمحدّثين واللغويين وعلماء أصول الدين وغيرهم، الذين نصروا الدين واشتغلوا بالرد على أهل البدع والأهواء والملحدين، وصانوا عقيدة أهل الحق بالكشف عن شبهات المبتدعة وإبطالها، فعاداهم أهلُ الفرق المبتدعة كالألباني وجماعته الوهابية، فهم لهم شبه بالقدرية الفرقة الضالة الذين ذمّوا أهل السُّنَّة لأنهم قالوا: كل شيء بقدر، والوهابية المجسمة قالوا عن أهل السُّنَّة: معطّلة، لأنهم تأوّلوا المتشابه من الآيات والأحاديث.
فعـداء الألباني وجماعته للأشـاعرة ظاهر ليس فيـه خفاء، وقد صرّح بتضليل أشـخاص معينين كمـا فعل مع ابن الحـاج المالكي صاحب المدخل، حيث قال فيه: «إنه في نفسه مخرّف، لا يعتمد عليه في التوحيد والعقيدة»([5]).اهـ.
فالطاعنون بالأشاعرة والماتريدية يفعلون ذلك لكونهم يميلون إلى التجسيم والتشبيه، أو لجهلهم بحقيقة هؤلاء القوم أو لمرض ءاخر في قلوبهم، فالوهابية ومنهم الألباني وجماعته من الصنف الأول، حملوا العلو في حق الله على العلو الحسّي، فزعموا أن الله متحيز فوق العرش، وزعموا أن النزول هو النزول الحسّي بحركة وانتقال، وأن الاستواء على العرش هو الجلوس، وأن لله حدًّا، وأن له قَدمًا جارحة يضعها في النار، وغير ذلك من التجسيم، بينما الأشاعرة والماتريدية نزّهوا الله عما يعتقده هؤلاء المجسمة، وتأوّلوا المتشابه من الصفات على ما يليق بالله تعالى، فلم يُعجب هؤلاء المبتدعة هذا المسلك، فلذلك وجَّهوا سهامهم نحو أهل السُّنَّة والجماعة الأشاعرة والماتريدية المنزهين لله عن صفات المخلوقين؛ ولخلوّ عقيدتهم مما يعتقده هؤلاء المشبهة الذين سعوا في إبطال هذا الدّين، وراموا هدم قواعد المسلمين، وهيهات هيهات، وقد وعد الله للحق نصره وظهوره، وللباطل محقه وثبوره.
وقد رد محدّث المغرب الشيخ عبد الله الغماري على من تعرّض للأشاعرة بالقدح والذم فقال ما نصه([6]): «إنهم – يعني: الأشاعرة – من خيار المسلمين وفضلائهم، وقفوا في وجوه المعتزلة وغيرهم من الطوائف الضالّة، واعتقدوا ما جاء في السُّنَّة من سؤال القبر وعذابه والشفاعة والصراط والحوض والميزان وخروج عصاة المؤمنين من النار، وأنه لا يجب على الله صلاح ولا أصلح، وأنه تعالى منزه عن كل نقص، موصوف بكل كمال([7]). وصرح أبو الحسن الأشعري في الكتاب المنسوب إليه المسمّى «مقالات الإسلاميين» أنه يصف الله تعالى بما جاء في القرءان وما رواه الثقات عن رسول الله بلا تكييف ولا تشبيه، وما نُقل عنه من أقاويل ضالة مكذوب عليه، كما بينه الحافظ ابن عساكر في كتاب «تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى أبي الحسن الأشعري»، وهو مهم نفيس ينبغي الوقوف عليه.
نعم، أوَّل متأخرو الأشعرية ظواهر الآيات والأحاديث التي جاءت في الاستواء والعلو والمعية، مع اعتراف زعمائهم بأن التفويض أسلم وأكمل، والذي دعاهم إلى تأويل تلك الظواهر أسباب:
أحدها: أن المتقدمين كابن المبارك وأحمد والترمذي أولوا ظواهر المعية بأنها معية علم، وذكروا لها شواهد من كلام العرب.
وهذا يُؤْذِنُ بأن تأويل ما يشكل من الظواهر سائغ، ولا شك أن ظواهر الاستواء والعلو مشكل، فتناولوه بالتأويل دفعًا للإشكال، فتخصيصهم بالذم حيف واضح.
ثانيها: أن المشكلة من المثبتين هي إسرافهم في إثباتها حتى شبهوا الله بخلقه فأثبتوا له المكان وهو العرش، وأنه ينزل منه بحركة إلى السماء الدنيا، وإذا نزل خلا منه العرش، وأنه يقعد على الكرسي لفصل القضاء يوم القيامة، ويدع مقدار أربع أصابع بجانبه يقعد عليها النبي ، إلى غير ذلك من الطامات التي تجدها في كتاب «الرد على بشر المريسي» للدارمي، وكتاب «التوحيد» لابن خزيمة، وكتاب «الأربعين» لأبي إسماعيل الهروي، و«النونية» لابن القيم، وقال الهروي المذكور مغرقًا في التشبيه: «أنا ألتزم بكل ما ورد في حق الله من العين واليد والرِجل والقَدم ما عدا اللحية والعورة فإنهما لم تردا».اهـ.. ونقل ابن تيمية في تقرير الاستواء بالمعنى المعهود عن المجسم عثمان الدارمي مستحسنًا ومقرًّا له قوله([8]): «إنه الله تعالى لو شاء لاستقر على ظهر بعوضة فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته، فكيف على عرش عظيم».اهـ. نعوذ بالله من مقت القلوب.
وهذه شناعات مخزية، تحاماها الأشعرية بالتأويل السائغ المستمد من كلام العرب في شعرهم ونثرهم، فقاموا بواجب تنزيه الله عن التشبيه بخلقه، وهو عمل يثابون عليه عند الله تعالى.
لكن المشبهة والمجسمة لم يعجبهم هذا المسلك من الأشعرية، فناصبوهم العداء، وسعوا في أذيتهم، ورموهم بالكفر والضلال، حتى إن الهروي قال في كتابه المسمّى «ذم الكلام»: «إن ذبائح الأشعرية لا تحل».اهـ. وكان ابن تيمية يسميهم معطِّلة (بكسر الطاء المشددة)، وكذلك تلميذه ابن القيم، ويسميهم المعتزلَةُ «مُجْبِرَة»([9]) (بضم الميم وسكون الجيم وكسر الموحدة)، وما عاداهم أهل الضلال إلا لكونهم على الحق.
ثالثها: المحافظة على عقول العامة من أن يتسرب إليها تشبيه أو تجسيم إذا سمعوا تلك الظواهر، وقد تسرب ذلك إلى ابن تيمية وأمثاله مع ما عندهم من العلم، فما بالك بالعامي الذي ليس عنده من العلم والقواعد ما يحمي عقله وفكره من أن ينزلق في هذه المهاوي المهلكة؟!
وإذا قيل: الواجب أن تبقى ظواهر الاستواء والعلو والمعية كما هي من غير تأويل، ويعتقد معناها من غير تكييف ولا تمثيل.
قلنا: هذا غير متيسر، لأن التشبيه يسبق إلى الأذهان ويطغى عليها. فلننظر المتقدمين الذين تمسكوا بظواهر الاستواء والعلو بدون تكييف ولا تشبيه، كيف صرح بعضهم بأن الله فوق عرشه بائن من خلقه يفصله عنهم العرش والكرسي والسمـٰوات، وأن له حدًّا، وهذا هو التشبيه عينه. وكذلك ظواهر المعية إذا أُبقيت على حالها لا بد أن يتسرب إلى الأذهان تحيز الخالق واتحاده مع الخلق، على أن القرءان أرشد إلى تأويل المعية بذكر العلم معها، اقرأ الآيات {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [سورة ق: 16]، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد: 4]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم} [سورة المجادلة: 7] ففي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أن المعية علمية، وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـكِن لَّا تُبْصِرُونَ} [سورة الواقعة: 85] يراد به ملَكُ الموت وأعوانه، بدليل قوله سبحانه: {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الـمَوتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنا وَهُم لا يُفَرِّطونَ} [سورة الأنعام: 61].
والمقصود: أن التأويل سلكه كل من السلف والخلف بلا استثناء، ولم يختص به الأشعرية.
تنبيه: قال الإمام ابن دقيق العيد: «إن كان التأويل من المجاز البيّن الشائع فالحق سلوكه من غير توقف، وإن كان من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه، وإن استوى الأمر فالاختلاف في جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية، والأمر فيها ليس بالخطير بالنسبة للفريقين».اهـ. وهذه قاعدة نفيسة يستفاد منها أن التأويل لا يذم إلا إذا كان بعيدًا شاذًّا، ينبو عنه ظاهر اللفظ، أو ينافيه الأسلوب والسياق، وفيما عدا ذلك فهو دائر بين الوجوب والجواز». انتهى كلام الغماري.
ووصف الشيخ تاج الدين السبكي الأشاعرة بأنهم على عقيدة واحدة فقال ما نصه([10]): «وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة، ولله الحمد، في العقائد يد واحدة، كلهم على رأي أهل السُّنَّة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق شيخ السُّنَّة أبي الحسن الأشعري رحمه الله، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل الاعتزال، ورَعاع من الحنابلة لحقوا بالتجسيم، وبرَّأ الله المالكية، فلم نر مالكيًّا إلا أشعريًا عقيدة، وبالجملة عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقَّاها علماء المذاهب بالقبول، ورضوها عقيدة».اهـ.
وأفتى القاضي أبو الوليد بن رشد المالكي الجد المتوفى سنة 520هـ، وهو صاحب كتاب «البيان والتحصيل» بأن من سب الأشاعرة فهو مبتدع يستتاب؛ وإليك صورة السؤال والجواب:
«ما يقول الفقيه القاضي الأجل الأوحد أبو الوليد، وصل الله توفيقه وتسديده، ونهج إلى كل صالحة طريقه، في الشيخ أبي الحسن الأشعري، وأبي إسحاق الأسفراييني، وأبي بكر الباقلاني، وأبي بكر ابن فورك، وأبي المعالي، وأبي الوليد الباجي، ونظرائهم، ممن ينتحل علم الكلام ويتكلم في أصول الديانات، ويصنّف للرد على أهل الأهواء، أهم أئمة رشاد وهداية أم هم قادة حيرة وعماية؟ وما تقول في قوم يسبونهم وينتقصونهم ويسبون كل من ينتمي إلى علم الأشعرية ويكفرونهم ويتبرَّؤون منهم وينحرفون بالولاية عنهم ويعتقدون أنهم على ضلالة وخائضون في جهالة؟ فماذا يقال لهم ويصنع بهم ويعتقد فيهم؟ أيتركون على أهوائهم أم يكف عن غلوائهم؟ وهل ذلك جرحة في أديانهم ودخل في إيمانهم؟ وهل تجوز الصلاة وراءهم أم لا؟ بيّن لنا مقدار الأئمة المذكورين ومحلّهم من الدين، وأفصح لنا عن حال المنتقص لهم والمنحَرف عنهم وحال المتولي لهم والمحب فيهم، مجملًا مفصلًا، ومأجورًا إن شاء الله تعالى.
فأجابه ابن رشد – رحمه الله -: تصفحت – عصمنا الله وإياك – سؤالك هذا ووقفت عليه، وهؤلاء الذين سميت من العلماء أئمة خير وممن يجب بهم الاقتداء، لأنهم قاموا بنصر الشريعة، وأبطلوا شبه أهل الزيغ والضلالة وأوضحوا المشكلات، وبيّنوا ما يجب أن
يدان به من المعتقدات، فهم بمعرفتهم بأصول الديانات العلماء على الحقيقة، لعلمهم بالله تعالى وما يجب له وما يجوز عليه وما ينتفي عنه، إذ لا تعلم الفروع إلا بعد معرفة الأصول. فمن الواجب أن يعترف بفضائلهم، ويقر لهم بسوابقهم، فهم الذين عنى رسول الله بقوله: «يحملُ هذا العلمَ من كل خلفٍ عُدُولُهُ، ينفونَ عنه تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ»([11]). فلا يعتقد أنهم على ضلالة وجهالة إلا غبي جاهل، أو مبتدع زائغ عن الحق مائل، ولا يسبهم وينسب إليهم خلاف ما هم عليه إلا فاسق، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [سورة الأحزاب: 58]، فيجب أن يبصّر الجاهل منهم ويؤدب الفاسق، ويستتاب المبتدع الزائغ عن الحق إذا كان مستسهلًا ببدعة، فإن تاب وإلا ضرب أبدًا حتى يتوب، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بصبيغ([12]) المتهم في اعتقاده من ضربه إياه حتى قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد دوائي فقد بلغت مني موضع الداء، وإن كنت تريد قتلي فأجهز عليّ، فخلى سبيله([13]). واللهَ أسألُهُ العصمة والتوفيق برحمته، قاله محمد بن رشد». انتهى الجواب.
فإذا عرفت موقف علماء الأمة ممن يسب الأشاعرة، عرفت مكانة الوهابية عند العلماء ونصيبهم من العلم، فلا تغتر أيها القارئ بمن يثني على الوهابية، ويحث على الإقبال على مجالسهم، وأنه لا فرق بينهم وبين أهل السُّنَّة ونحو ذلك من الكلام الذي فيه غش للمسلمين، فالحذر الحذر.
وأسال هل كان الألباني يعرف الفرق بين الأشاعرة والماتريدية من جهة، وبين المعتزلة من جهة أخرى؟ ألم يسمع أن الحافظ ابن عساكر أخرج في كتاب «تبيين كذب المفتري»([14]) والحاكم في «المستدرك»([15]) أنه لما نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّـهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّـهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [سورة المائدة: 54] أشار النبي إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال: «هم قومُ هذا».
قال القشيري: «فأتباع أبي الحسن الأشعري من قومه، لأن كل موضع أضيف فيه قوم إلى نبي أريد به الأتباع»، قاله القرطبي([16])، وقال الحافظ البيهقي: «وذلك لما وجد فيه من الفضيلة الجليلة والمرتبة الشريفة للإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه، فهو من قوم أبي موسى وأولاده الذين أوتوا العلم ورزقوا الفهم مخصوصًا من بينهم لتقوية السُّنَّة وقمع البدعة بإظهار الحجة ورد الشُّبَه».اهـ. ذكره ابن عساكر([17]). وروى الإمام البخاري([18]) أن النبي قال عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وقومه: «هم مني وأنا منهم»، ونحن نحمد الله تعالى على هذه العقيدة السُّنية التي نحن عليها، والتي كان عليها رسول الله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، والتي مدح الرسول معتنقها، فقد روى الإمام أحمد والحاكم([19]) بسند صحيح: «لتفتحنَّ القسطنطينيةُ، فلنعمَ الأميرُ أميرُها، ولنعمَ الجيشُ ذلك الجيشُ»، ولقد فتحت القسطنطينية بعد ثمانمائة عام، فتحها السلطان محمد الفاتح رحمه الله، وكان سنيًّا ماتريديًّا، يعتقد أن الله موجود بلا مكان، ويحب الصوفية الصادقين، ويتوسل بالنبي وبالأولياء، وكان له شيخ صوفي من المحققين بالتصوف، كان يتوجه بإشاراته، وشمل جيشه تزكية الرسول لهم، وكانوا كذلك أشاعرة وماتريدية، وعلى هذا الاعتقاد مئات الملايين من المسلمين سلفًا وخلفًا في الشرق والغرب، تدريسًا وتعليمًا، ويشهد بذلك الواقع المشاهد، ويكفي لبيان حقيَّة هذا كون الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان على هذه العقيدة، فممن تبعهم بإحسان هؤلاء الحفاظ الذين هم رؤوس أهل الحديث: الحافظ أبو بكر الإسماعيلي صاحب المستخرج على البخاري، ثم الحافظ العَلَم المشهور أبو بكر البيهقي، ثم الحافظ الذي وصف بأنه أفضل المحدثين بالشام في زمانه ابن عساكر، كان كل واحد من هؤلاء عَلَمًا في الحديث في زمانه، والحافظ أحمد ابن حجر العسقلاني، فمن حقق عرف أن الأشاعرة فرسان ميادين العلم والحديث، وفرسان ميادين الجهاد، ويكفي أن منهم مجدد القرن الرابع الهجري الإمام أبا الطيب سهل بن محمد، وأبا الحسن الباهلي، وأبا بكر بن فورك، وهو أحد شيوخ البيهقي في الحديث، وأبا بكر الباقلاني، وأبا إسحاق الأسفراييني، والحافظ أبا نعيم الأصبهاني، والقاضي عبد الوهاب المالكي، والشيخ أبا محمد الجويني، وابنه أبا المعالي إمام الحرمين، والحافظ الدارقطني، والحافظ الخطيب البغدادي، والأستاذ العالم المحدّث أبا القاسم القشيري، وابنه أبا نصر، والشيخ أبا إسحاق الشيرازي، ونصرًا المقدسي، والغزالي، والفراوي، وأبا الوفاء بن عقيل الحنبلي، والحافظ الفقيه الحنفي عبد الرزاق الطّبَسي، وقاضي القضاة الدامغاني الحنفي، وأبا الوليد الباجي المالكي، وابن الدبيثي، والإمام المحدث المفسّر الفقيه الصوفي عَلَم الزهاد السيد أحمد الرفاعي، والحافظ ابن السمعاني، والحافظ القاضي عياضًا، والحافظ السِّلَفي، والحافظ الفقيه النووي، والفقيه المفسّر الأصولي فخر الدين الرازي، والعز بن عبد السلام، وأبا عمرو بن الحاجب المالكي، والحافظ ابن دقيق العيد، وعلاء الدين الباجي، والحافظ الفقيه اللغوي المجتهد علي بن عبد الكافي السبكي الذي قال فيه الذهبي: [الوافر]
شيوخُ العصرِ أحفظُهمْ جميعًا |
| وأخطبُهمْ وأقضاهُمْ عليُّ |
والحافظ العلائي، والحافظ زين الدين العراقي وابنه الحافظ ولي الدين، والشيخ زكريا الأنصاري، وابن الملقن، والقاضي الجليل ابن فرحون المالكي، وأبا الفتح الشهرستاني، والإمام أبا بكر الشاشي القَفَّال، وأبا علي الدقاق النيسابوري، والحاكم النيسابوري صاحب المستدرك، وخاتمة الحفاظ الحافظ اللغوي السيد محمد مرتضى الزبيدي، ومن أهل القرن المنصرم عبد الله الغماري، وغيرهم من أئمة الدين كثير لا يحصيهم إلا الله. ومنهم الوزير المشهور نظام الملك والسلطان العادل العالم المجاهد صلاح الدين الأيوبي طارد الصليبيين من القدس رحمه الله، فإنه أمر أن تذاع أصول العقيدة على حسب عبارات الأشعري على المنائر قبل أذان الفجر، وأن تُعلَّم المنظومة في العقيدة الأشعرية التي ألَّفها له ابن هبة الله البرمكي للأطفال في الكتاتيب، ومنها هذان البيتان: [الرجز]
وصانعُ العالـمِ لا يحويهِ |
| قُطْرٌ تعالى اللّهُ عن تشبيهِ |
وليس مرادنا بما ذكرنا إحصاء الأشاعرة، فمن يحصي عدد نجوم السماء أو يحيط علمًا بعدد رمال الصحراء إلا الله تعالى؟ ومثلهم في العقيدة الحقة الماتريدية أتباع إمام أهل السُّنَّة أبي منصور الماتريدي رضي الله عنه.
فالأشاعرة والماتريدية هم أهل السُّنَّة والجماعة الفرقة الناجية، والفريقان متفقان في أصول العقيدة لا اختلاف بينهم، وإنما اختلفوا في بعض الفروع التي لا تؤدي إلى التبديع والتضليل، وقد حصل ذلك بين بعض الصحابة، فإن عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما كان ينفيان رؤية الرسول لربه ليلة المعراج، وأنس وابن عباس رضي الله عنهما كانا يثبتانها، ولم يمنع ذلك كون كلّ منهم على سُنَّة رسول الله ، مع اعتقاد أن الله لا يسكن الأماكن ولا يشبه شيئًا.
ففي الفريقين الأشاعرة والماتريدية تحقق حديث رسول الله : «سالت ربي لأمتي أربعًا فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدةً، سألتُه أن لا يُكفرَ أمتي جملةً فأعطانيها» رواه الحافظ ابن أبي حاتم، كما قال الحافظ ابن حجر في «شرح البخاري»([20])، فيستحيل أن يضلّ جمهور أمة محمد وإنما الضلال فيمن خالفهم كالوهابية المشبهة، وبأي فضيلة يشهد لكم التاريخ يا مشبهة، أنتم الفرقة الذين قال الرسول فيهم: «يقتلونَ أهلَ الإسلام، ويدعونَ أهلَ الأوثانِ» وهو من جملة أحاديث البخاري([21])، هذا الوصف هو الذي يشهد به التاريخ عليكم.
ويكفي الأشاعرة فضلًا أن أغلب حفاظ الحديث هم أشاعرة، ويعلم ذلك من تتبع طبقات الحفاظ.
[1]() شريط بصوته يوزع في مدينة فاس وغيرها، وهو موجود عندنا لمن طلبه.
[2]() الألباني، الكتاب المسمّى سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/675، رقم 2786).
[3]() الترمذي، سنن الترمذي، كتاب الزهد، باب: الرياء والسمعة (4/591).
[4]() الألباني، الكتاب المسمّى صحيح الترغيب والترهيب (1/14).
[5]() الألباني، الكتاب المسمّى حجّة النبي (ص138).
[6]() عبد الله الغمار، رفع الإشكال عن مسألة المحال (ص28 – 32).
[7]() أي بكل كمال يليق به تبارك وتعالى.
[8]() ابن تيمية، بيان تلبيس الجهمية (1/568).
[9]() المجبرة: هم الجبرية الذين يقولون: إن الله أجبر العباد على أفعالهم، أي: أكرههم (محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، 3/82).
[10]() تاج الدين السبكي، معيد النعم ومبيد النقم (ص62).
[11]() أخرجه الخطيب البغدادي بسنده عن أبي هريرة في كتاب شرف أصحاب الحديث (ص28 الحديث رقم 52).
[12]() صبيغ العراقي: هو الذي بعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب لما رءاه يسأل عن متشابه القرءان بين الأجناد. وهو الذي قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرءان، فأرسل إليه عمر، وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي. ثم نفاه إلى البصرة. راجع الحديث عنه في سنن الدارمي: المقدمة، باب: من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع (1/54).
[13]() سنن الدارمي: المقدمة، باب: من هاب الفتيا وكره التنطع والتبدع (1/54).
[14]() ابن عساكر، تبيين كذب المفتري (ص49 و50 و63 و64).
[15]() أخرجه الحاكم في المستدرك (2/313) وصححه ووافقه الذهبي بتعليقه في تلخيصه.
[16]() القرطبي، الجامع لأحكام القرءان (6/220).
[17]() ابن عساكر، تبيين كذب المفتري (ص50).
[18]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب: قدوم الأشعريين وأهل اليمن (4/1539).
[19]() مسند أحمد (4/335)، المستدرك للحاكم (4/424).
[20]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (8/293).
[21]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى: {وَإِلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} (3/1219).