الجمعة يوليو 26, 2024
          • الألباني يشذّ في مسألة الطلاق الثلاث والمتضمنة الطعن بسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

          قال الألباني ما نصه([1]): «لفظ الحديث في «صحيح مسلم»([2]): «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم». قلت – القائل هو الألباني -: وهو نص لا يقبل الجدل على أن هذا الطلاق حكم محكم ثابت غير منسوخ لجريان العمل عليه بعد وفاته في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر، ولأن عمر رضي الله عنه لم يخالفه بنص ءاخر عنه؛ بل باجتهاد منه، ولذلك تردَّد قليلًا أول الأمر في مخالفته كما يشعر بذلك قوله: «إن الناس قد استعجلوا… فلو أمضيناه عليهم..»، فهل يجوز للحاكم مثل هذا التساؤل والتردد لو كان عنده نص بذلك؟! وأيضًا فإن قوله: «قد استعجلوا» يدل على أن الاستعجال حدث بعد أن لم يكن، فرأى الخليفة الراشد أن يمضيه عليهم ثلاثًا من باب التعزير لهم والتأديب، فهل يجوز مع هذا كله أن يترك الحكم المحكم الذي أجمع عليه المسلمون في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر من أجل رأي بدا لعمر واجتهد فيه فيؤخذ باجتهاده ويترك حكمه الذي حكم هو به أول خلافته تبعًا لرسول الله وأبي بكر؟! اللَّهُمَّ إن هذا لمن عجائب ما وقع في الفقه الإسلامي، فرجوعًا إلى السُّنَّة المحكمة أيها العلماء».اهـ.


           

          الرَّدُّ:

          إن من نعم الله على عبده أن يرزقه التفقه في دينه وفهم كتابه وسُنَّة نبيّه محمد ، ولا يكون الإنسان فقيهًا مجتهدًا إلا إذا حصّل أدوات التحصيل التي بها يصير فقيهًا، وذلك بأن يكون عالـمًا بالأحكام في كتاب الله، وبناسخه ومنسوخه، وعامّه وخاصه، ومطلقه ومقيده وغير ذلك، ويستدل على ما احتمل التأويل بالسُّنَّة وبالإجماع، فإن لم يكن فبالقياس على ما في الكتاب، فغن لم يكن فبالقياس على ما في السُّنَّة، فإن لم يكن فبالقياس على ما اتفق عليه السلف وإجماع العلماء ولم يعرف له مخالف. ولا يجوز القول في شيء من العلم إلا من هذه الأوجه، ولا يكون صالحًا لأن يقيس حتى يكون عالـمًا بما مضى قبله من السنن وأقوال السلف وإجماع العلماء واختلافهم ولسان العرب، ويكون صحيح العقل ليفرق بين المشتبهات، ولا يعجل ويسمع ممن خالفه ليتنبه بذلك على غفلةٍ إن كانت، وأن يبلغ غاية جهده، وينصف من نفسه حتى يعرف من أين قال ما قال. وتشترط العدالة وهي السلامة من الكبائر ومن المداومة على الصغائر، وهي أن تغلب على حسناته من حيث العدد. ويشترط فوق ذلك شرط هو ركن عظيم في الاجتهاد وهو فقه النفس، أي قوة الفهم والإدراك([3]).

          ومن جمع بين الحديث والفقه فقد جمع بين الحسنين وعمل على تحصيل الأساس وتقويته ثم بنى عليه الفروع، والتحصيل لهذه العلوم لا يؤخذ إلا عن عالم سبق له أن أخذ عن غيره من العلماء وهكذا حتى يصل التسلسل إلى الصحابة  الذين تلقوا العلم عن النبيّ الذي أرشد أمته إلى التعلم وحثهم عليه فقال([4]): «يا أيُّها الناسُ، إنما العلمُ بالتعلمِ والفقهُ بالتفقهِ، ومن يُردِ اللهُ به خيرًا يفقِّهْهُ في الدينِ». هذا هو نهج العلماء منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا، فمن لم يسلك هذا الطريق واقتصر على المطالعة في الكتب فقد حُرم خيرًا كثيرًا ولو قرأ مئات الكتب، ومثله كمثل حاطب ليل يخرج من الليل فيحتطب فتقع في يده أفعى فتقتله، والألباني من هذا الصنف الذي لم يتلق العلم عن أهله فظن بنفسه أنه جمع بين الحديث والفقه، وهو نكرة فيهما، فلذلك وقع في أخطاء جسيمة، وأفتى بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، فحرّم الحلال وحلل الحرام، وفتح باب الكفر على مصراعيه وشذ في مسائل كثيرة، منها مسألة الطلاق الثلاث التي أخذها من ابن تيمية الذي قال فيه الشيخ ابن حجر الهيتمي الشافعي ما نصه([5]): «ابن تيمية عبد خذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه، وبذلك صرّح الأئمة الذين يبيّنوا فساد أحواله وكذب أقواله، والحاصل: أن لا يقام لكلامه وزن…، بل يُرْمى في كل وعر وحَزن، ويعتقد فيه أنه مبتدع ضالّ، ومُضلّ جاهل غالٍ، عامله الله بعدله، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله، ءامين».اهـ.

          ومن أراد مزيد اطلاع على حقيقة ابن تيمية ومن رد عليه فليراجع كتاب «المقالات السنية في كشف ضلالات ابن تيمية» للمحدث الشيخ عبد الله الهرري رحمات الله عليه، وقد ذكر في ءاخره قريب مائة شخص ردوا عليه وألَّفوا في ذلك ممن عاصروه وممن جاءوا بعده. ومن شرّ الألباني وأتباعه من الوهابية الذين ورثوا هذا الشر عن ابن تيمية وتلميذِه ابن قيم الجوزية ما تضمنه كلام الألباني من الطعن والقدح والذمّ في سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد وأبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وذلك حين زعم أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالف الإجماع، مع علمه بهذا الإجماع، وأشد منه قوله بأنه خالف حكم رسول الله فحرّم ما أحلّه رسول الله مع علمه بهذا الحكم، وسلفُه في هذه الطامة والانحراف عن أهل السُّنَّة ابن تيمية الذي خطَّأ أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب ورابع الخلفاء الراشدين سيدنا عليًّا رضي الله عنهما، كما تجده في «الدرر الكامنة»([6])، مع بيان شغب ابن تيمية وشذوذه عن أهل السُّنَّة، وقيام قضاة المذاهب الأربعة في الرد عليه وإصدار مرسوم من الحاكم بحبسه، وغير ذلك.

          فقول الألباني: «فهل يجوز مع هذا كله أن يترك الحكم المحكم الذي أجمع عليه المسلمون في خلافة أبي بكر وأول خلافة عمر من أجل رأي بدا لعمر» إلى أن قال الألباني: «اللَّهُمَّ إن هذا لمن عجائب ما وقع في الفقه الإسلامي، فرجوعًا إلى السُّنَّة المحكمة أيها العلماء»، قول باطل غير مقبول وفيه طعن بسيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه، ولقد قيل: [الطويل]

          ومن يَعترضْ والعلمُ عنهُ بمعزلٍ

           

          يَر النقصَ في عينِ الكمالِ ولا يَدري

          فكيف تجرأ الألباني على القول بأن عمر رضي الله عنه خرج على إجماع من سبقه وأبطل دين الله برأيه، ووافقه على ذلك من كان معه من الصحابة، وفيهم عثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود والزبير وابن عوف  وكثير لا يحصون، فلم ينكروا عليه وأن الصحابة أقرُّوه بل أفتوا بهذا الرأي المخالف للسُّنَّة والإجماع بزعمه؟!

          مَن للدين والسُّنَّة والمحافظة على الإجماع إذا هدم كله بيد عمر رضي الله عنه وأصحاب الرسول وأجمعوا على ذلك الهدم على مقتضى كلام الألباني، وعمر رضي الله عنه هو الذي كان إسلامه للدين عِزّا، وخلافته للإسلام نصرًا، ولو كان الأمر كما فهم هؤلاء المخذولون للزم لزومًا بيّنًا أن يكون أصحاب رسول الله قد أجمعوا على الصواب أولًا، ثم عدلوا عن هذا الإجماع إلى الإجماع على الخطأ ثانيًا، في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، وهل يقول بهذا إلا من في قلبه بغض للصحابة يخفيه، وما هي والله إلا مقالة تائه ضائع، ولا أدري واللهِ كيف يتصور من فيه مسكة من دين أن أصحاب رسول الله في عهد يُجمِعون على ترك السُّنَّة الثابتة ويفتون بنقيضها وتتبعهم الجماهير من السلف والخلف، ولا يحيي هذه السُّنَّة ويحافظ عليها إلا أفراد مبتدعون يعدون على الأصابع في الأجيال المتعاقبة يتسترون بالفتوى بها، أَكُلُّ هؤلاء الصحابة والتابعين والعلماء كانوا يجهلون السُّنَّة حتى جاء ابن تيمية ثم من بعده الألباني وجماعتهما فأحيوا السُّنَّة التي أماتها سيدنا عمر رضي الله عنه بزعمهم وطمسها؟! سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم، وعندما تنبه بعض هؤلاء المبتدعة لوقوعهم في هذا المضيق وتورطهم في هذا المأزق جعلوا يسوّغون لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سبب مخالفته للسُّنَّة والإجماع على زعمهم، أن ذلك من الاجتهاد الجائز له ومن التعزير الذي هو إلى الإمام، وهو كلام إن دلَّ على شيء فإنما يدلّ على سفه قائله أو استهزائه بمن يحدّثهم؛ وهل يسوغ مخالفة النص والإجماع باجتهاد أو سياسة؟!

          والآن ننتقل إلى جادَّة الصواب في فهم هذا الأثر على ما قال العلماء بكتاب الله وسُنَّة رسوله وهدي أصحابه، ولهم على ذلك أجوبة عديدة مفصلة في المطوّلات، ولـمّا كان الألباني تابعًا في مخالفته الإجماع في مسألة الطلاق الثلاث لابن تيمية رددتُ على هذا الأخير، لأن نقض الأصل هو نقض لفرعه، فأقول وبالله التوفيق:

          إن مخالفة ابن تيمية للإجماع في مسألة الطلاق هي مما شُهر عنه وحُبس لأجلها، فقد قال تقي الدين الحصني ما نصّه([7]): «وأما الحلف بالطلاق فإنه لا يوقعه – أي: ابن تيمية – ألبتة ولا يعتبره، سواء كان بالتصريح أو الكناية أو التعليق أو التنجيز، وإشاعتُه هو وأتباعُه أن الطلاق الثلاث واحدة خُزَعْبلات ومكرٌ، وإلا فهو لا يوقع طلاقًا على حالف به ولو أتى به في اليوم مائة مرة على أي وجه، سواء كان حثًّا أو منعًا أو تحقيق خبر، فاعرف ذلك، وأن مسألة الثلاثة إنما يذكرونها تسترًا وخديعة. وقد وقفت على مُصَنَّفٍ له في ذلك وكان عند شخص شريف زينبي وكان يرد الزوجة إلى زوجها في كل واقعة بخمسة دراهم، وإنما أطلعني عليه لأنه ظن أني منهم، فقلت له: يا هذا، أتترك قول الإمام أحمد وقول بقية الأئمة، وتقول بقول ابن تيمية، فقال: اشْهَدْ عليَّ أني تُبت، وظهر لي أنه كاذب في ذلك، ولكن جرى على قاعدتهم في التستر والتَقِيَّةِ، فنسال الله العافية من المخادعة».اهـ.

          ثم قال ما نصّه([8]): «وفي سابع شهر صفر سنة ثماني عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق التي يفتي بها ابن تيمية، وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة، وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء، وحضر ابن تيمية، وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى ولا قَبِلَ مرسوم السلطان ولا حُكم الحكَّام بمنعهن فأنكر، فحضر خمسة نفر فذكروا عنه أنه أفتاهم بعد ذلك، فأنكر وصمَّم على الإنكار، فحضر ابن طُليش وشهود شهدوا أنه أفتى لحَّامًا اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا، فقيل لابن تيمية: اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا بغيرها، فكتب بخطه أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها، فقال القاضي نجم الدين بن صصرى: حكمتُ بحبسك واعتقالك، فقال له: حكمك باطل، لأنك عدوي، فلم يقبل منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق».اهـ.

          وقد قال ابن تيمية كما في فتاويه عند الكلام على من أوقع طلاقًا ثلاثًا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات ما نصّه([9]): «الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة».اهـ. ثم يقول بعد ذلك: «والقول الثالث هو الذي يدل عليه الكتاب والسُّنَّة».اهـ. ويقول فيه ما نصّه([10]): «وكذلك إذا طلقها ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طهر واحد فهو محرَّم عند جمهور العلماء، وتنازعوا فيما يقع بها، فقيل: يقع بها الثلاث، وقيل: لا يقع بها إلا طلقة واحدة، وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسُّنَّة».اهـ. ثم ادَّعى ما نصّه: «وليس في الأدلة الشرعية: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس ما يوجب لزوم الثلاث له»([11]).اهـ.

          ويقول فيه عن الطلاق المعلَّق ما نصّه([12]): «حكمه حكم الحلف بالطلاق باتفاق الفقهاء».اهـ.

          ويقول فيه أيضًا عن طلاق الحائض ما نصّه([13]): «وفي وقوعه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يقع».اهـ. وفي موضع يقول([14]): «والأظهر أنه لا يلزم».اهـ.

          قلت: ولقد فتح ابن تيمية أبواب استباحة الفروج، فنقل الثقات عن خطه القول بأن الطلاق الثلاث إذا جمع في لفظة واحدة لا يقع أصلًا، والمشهور عنه القول بأنه يقع واحدة، ويحكي على ذلك الإجماع، وقد علم أهل العلم أن الإجماع من عهد عمر رضي الله عنه إلى زمانه منعقد على خلافه، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح» بعدما ذكر أجوبة العلماء عن الحديث الذي تمسك بظاهره هذا المبتدع، وبعدما حكى خلافًا عن بعض الناس قال في ءاخر البحث([15]): «وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني: قول جابر: إنها كانت تفعل في عهد النبي وأبي بكر رضي الله عنه وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه، قال: ثم نهانا عمر رضي الله عنه عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدًا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما، وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق».اهـ.

          أما تعلق ابن تيمية لمسألة الطلاق الثلاث بما رواه مسلم([16]) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاقُ الثلاث واحدةً، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم».

          فالجواب: هذا الحديث لا يجوز العمل بظاهره، والجواب عنه: إما أن يقال إنه ضعيف بالشذوذ كما حكم الإمام أحمد بن حنبل عليه، وقد ذكر ذلك الحافظ ابن رجب الحنبلي([17]) في ردّه على من جعل الثلاث بلفظ واحد واحدًا، وبمخالفته لما ثبت عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه أفتى فيمن طلّق بالثلاث دفعة واحدة بأنه ثلاث، وقد تواتر ذلك عن ابن عباس، فقد ذكر البيهقي في السنن الكبرى بأسانيده عن ثمانية من ثقات تلاميذه أنه أفتى بذلك([18]).

          وإما أن يقال: إنه مؤول بأن معنى «كان الطلاق طلاق الثلاث واحدة» أن ألبتة كانت تستعمل للطلاق الواحد للتأكيد، ثم صار الناس يستعملونها في أثناء خلافة عمر رضي الله عنه بقصد الثلاث فأجرى عليهم عمر الحكم على موجَب قصدهم، وبيان ذلك أن قول الناس: أنتِ طالق ألبتة، كانت تستعمل في أوّل الأمر بنيّة تأكيد الطلقة الواحدة، ثم اشتهرت للطلاق الثلاث، لذلك اختلف فيها مذاهب الأئمة، فكان منهم من يجعل ألبتة للثلاثة، وكذلك: أنتِ حرام عليّ، وأنت بائن، ومنهم من يجعلها على حسب القصد، ويدل لذلك أن في بعض روايات صحيح مسلم: «كانت ألبتة في عهد رسول الله واحدة»، كما ذكر ذلك الحافظ أبو بكر بن العربي في كتابه «القَبَس في شرح موطأ مالك بن أنس»([19]).

          وإما أن يُعَارَضَ هذا الحديث بالإجماع المنعقد على أن الثلاث بلفظ واحد ثلاث في عهد عمر رضي الله عنه، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في ءاخر بحث له واسع في هذه المسألة أي مسألة جمع الثلاث في شرحه على البخاري فقال ما نصّه([20]) كما تقدَّم: «فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق».اهـ. وأما ما نقله الحافظ ابن حجر أن ذلك روي عن عليّ وغيره فلم يذكره الحافظ بصيغة الجزم، إنما مراده أن بعض الناس نقل ذلك عن عليّ وغيره، فلا ينقض ما قرّره من الإجماع في ءاخر المبحث في ذلك الشرح، فإنه لو كان عنده ثابتًا ذلك النقل عن عليّ ومن ذكر معه لم يختم المبحث باعتبار أن المسألة إجماعية.

          قال الحافظ تقي الدين السبكي في كتابه «الدرة المضية في الرد على ابن تيمية»([21]) ما نصّه: «وكذلك حديث ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وصدر من خلافة عمر الثلاث واحدة، فلما رءاهم عمر قد تتابعوا فيه قال: أجيزوه عليهم» وهذا الحديث متروك الظاهر بالإجماع، ومحمول عند العلماء على معانٍ صحيحة، وقد صحَّت الرواية عن ابن عباس بخلافه من وجوه عدة».اهـ. وفي «مسائل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه» ما نصّه([22]): «سالته – يعني: أحمد بن حنبل – عن الرجل يقول لامرأته: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق، قال: إذا أراد أن يُفهمها طلاقها فهي واحدة، وإن كان نوى ثنتين فثنتان، وإن كان نوى ثلاثًا فثلاث».اهـ.

          ولم يثبت عن أحد من مجتهدي أهل السُّنَّة الخلاف في هذه المسألة، حتى إن ابن تيمية الذي أحيا هذا الخلاف كان صرّح قبل ذلك بأن هذه المسألة إجماعية وقال: [إن] من خالف فيها كافر، نقل ذلك عنه الحافظ أبو سعيد العلائي([23]).

          قال الشيخ أحمد الصاوي المالكي في «حاشيته على الجلالين» عند قوله تعالى: {فَإن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} الآية [سورة البقرة: 230] ما نصّه([24]): «أي: طلقة ثالثة سواء أوقعت الاثنتان في مرة أو مرتين، والمعنى فإن ثبت طلاقها ثلاثًا في مرة أو مرات فلا تحل، كما إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثًا أو ألبتة، وهذا هو المجمع عليه. وأما القول بأن الطلاق الثلاث في مرة واحدة لا يقع إلا طلقة فلم يعرف إلا لابن تيمية من الحنابلة، وقد رد عليه أئمة مذهبه حتى قال العلماء: إنه الضال المضل، ونسبتها للإمام أشهب من أئمة المالكية باطلة».اهـ.

          قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه «بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة» ما نصّه([25]): «اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة إذا سيق بلفظ واحد، وعن الأعمش أنه قال([26]): كان بالكوفة شيخ يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فإنه يُرَدُّ إلى واحدة، والناس عُنقًا واحدًا إذ ذاك يأتونه ويسمعون منه قال: فأتيته فقرعت عليه الباب فخرج إليّ شيخ فقلت له: كيف سمعت علي بن أبي طالب يقول فيمن طلّق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد؟ قال: سمعته يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فإنه يُرَدّ إلى واحدة، فقلت: أين سمعت هذا من علي؟ قال: فقال: أخرج إليك كتابي، فأخرج كتابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمـٰن الرحيم هذا ما سمعت علي بن أبي طالب يقول: إذا طلق الرجل امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فقد بانت منه، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. قلت: ويحك هذا غير الذي تقول، قال: الصحيح هو هذا، ولكن هؤلاء أرادوني على ذلك».اهـ. ثم ساق ابن رجب([27]) حديث الحسن بن علي لما طلق زوجته أنه قال: لولا أني سمعت رسول الله جدي، أو سمعت أبي يحدث عن جدي أنه قال([28]): «إذا طلق الرجلُ امرأتَه ثلاثًا عند الأقراءِ أو طلَّقها ثلاثًا مبهمةً لم تحلَّ له حتى تنكحَ زوجًا غيرَه»؛ لراجعتها وقال: «إسناده صحيح».اهـ.

          وذكر الكوثري([29]) أن جمال الدين بن عبد الهادي الحنبلي [من تلامذة ابن تيمية الموافقين له في التجسيم] نقل نصوصًا جيدة في المسألة عن كتاب ابن رجب هذا بخطه في كتابه «السير الحاث – يريد الحثيث – إلى علم الطلاق الثلاث» وهو من محفوظات الظاهرية بدمشق([30]) تحت رقم 99 من قسم المجاميع.

          ومن جملة ما يقول الجمال بن عبد الهادي فيه: «الطلاق الثلاث يقع ثلاثًا، هذا هو الصحيح من المذهب، ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وهذا القول مجزوم في أكثر كتب أصحاب الإمام أحمد كالخرقي والمقنع والمحرر والهداية وغيرها. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله – يعني: أحمد بن حنبل – عن حديث ابن عباس: «كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر واحدة بأي شيء تدفعه، فقال: برواية الناس عن ابن عباس أنها ثلاث، وقدمه في «الفروع» وجزم به في «المغني» وأكثرهم لم يحك غيره».اهـ. ثم قال([31]): «وذكر إسحاق بن منصور شيخ الترمذي فقي مسائله عن أحمد – وهي محفوظة تحت رقم 83 من فقه الحنابلة بظاهرية دمشق – مثل ما ذكره الأثرم؛ بل عدَّ أحمد بن حنبل مخالفة ذلك خروجًا عن السُّنَّة، حيث قال في جواب كتبه إلى مسدد بن مسرهد عن السُّنَّة: ومن طلق ثلاثًا في لفظ واحد فقد جهل وحرمت عليه زوجته ولا تحل له أبدًا حتى تنكح زوجًا غيره».اهـ.

          ثم قال([32]): «وفي «التذكرة» للإمام الكبير أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: وإذا قال أنتِ طالق ثلاثًا إلا طلقتين وقعت الثلاث لأنه استثناء الأكثر فلم يصح الاستثناء. وقال أبو البكرات مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني الحنبلي مؤلف «منتقى الأخبار» في كتابه «المحرر»: ولو طلقها اثنتين أو ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طهر فما فوق من غير مراجعة وقع وكان للسُّنَّة، وعنه للبدعة وعنه الجمع في الطهر بدعة، والتفريق في الأطهار سنة.اهـ. وأحمد ابن تيمية يروي عن جده هذا أنه كان يفتي سرًّا برد الثلاث إلى واحدة وأنت ترى نص قوله في «المحرر»، ونبرئ جده من أن يكون يبيّت من القول خلاف ما يُصَرّحُ به في كتبه، وإنما ذلك شأن المنافقين والزنادقة، وقد بلونا الكذب كثيرًا فيما ينقله ابن تيمية، فإذا كذب على جده هذا الكذب المكشوف لا يصعب عليه أن يكذب على الآخرين، نسأل الله السلامة.

          ومذهب الشافعية في المسألة أشهر من نار على علم، وقد ألَّف أبو الحسن السبكي، والكمال الزملكاني، وابن جهبل، وابن الفركاح، والعز بن جماعة، والتقي الحصني وغيرهم مؤلفات في الرد عليه في هذه المسألة وغيرها من المسائل، وأكثرها بمتناول الأيدي».اهـ.

          ثم قال الكوثري([33]): «وقال ابن رجب في كتابه السابق عندما شرع في الكلام على حديث ابن عباس هذا: «فهذا الحديث لأئمة الإسلام فيه طريقان: أحدهما: مسلك الإمام أحمد ومن وافقه، وهو يرجع إلى الكلام في إسناد الحديث بشذوذه وانفراد طاوس به وأنه لم يتابع عليه؛ وانفراد الراوي بالحديث (مخالفًا للأكثرين) وإن كان ثقة هو علة في الحديث يوجب التوقف فيه وأن يكون شاذًّا ومنكرًا إذا لم يرو معناه من وجه يصح، وهذه طريقة أئمة الحديث المتقدمين كالإمام أحمد ويحيـى بن معين ويحيـى بن القطان وعلي بن المديني وغيرهم، وهذا الحديث ما يرويه عن ابن عباس غير طاوس، قال الإمام أحمد في رواية ابن منصور: كل أصحاب ابن عباس روى عنه خلاف ما روى طاوس. وقال الجوزجاني: هو حديث شاذ، وقد عُنيت بهذا الحديث في قديم الدهر فلم أجد له أصلًا.اهـ. ثم قال ابن رجب: «ومتى أجمعت الأمة على اطّراح العلم بحديث وجب اطّراحه وترك العمل به. وقال عبد الرحمـٰن بن مهدي: لا يكون إمامًا في العلم من يُحَدّثُ بالشاذ من العلم، وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الغريب من الحديث، وقال يزيد بن أبي حبيب: إذا سمعت الحديث فأنشده كما تنشد الضالة؛ فإن عُرف وإلا فدعه، وعن مالك: شر العلم الغريب وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس، وفي هذا الباب شيء كثير».

          ثم قال ابن رجب: «وقد صح عن ابن عباس، وهو راوي الحديث، أنه أفتى بخلاف هذا الحديث ولزوم الثلاث المجموعة، وقد علل بهذا أحمد والشافعي كما ذكره في «المغني»، وهذه أيضًا علة في الحديث بانفرادها، فكيف وقد انضم إليها علة الشذوذ والإنكار وإجماع الأمة على خلافه، وقال القاضي إسماعيل في «أحكام القرءان»: طاوس مع فضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها هذا الحديث؛ وعن أيوب أنه كان يتعجب من كثرة خطأ طاوس. وقال ابن عبد البر: شذ طاوس في هذا الحديث»، ثم قال ابن رجب: «وكان علماء أهل مكة ينكرون على طاوس ما ينفرد به من شواذ الأقاويل».اهـ. وقال الكرابيسي في أدب القضاء: إن طاوسًا يروي عن ابن عباس أخبارًا منكرة، ونراه، والله أعلم، أنه أخذها عن عكرمة، وعكرمة توقاه سعيد بن المسيب وعطاء وجماعة؛ وكان قدم على طاوس، وأخذ طاوس عن عكرمة عامة ما يرويه عن ابن عباس.اهـ. وقال أبو الحسن السبكي: فالحملة على عكرمة، لا على طاوس.اهـ. وسبق أن سقنا رواية الكرابيسي عن ابن طاوس، ما ينفي ذلك عن أبيه، هذا ما يتعلق بالمسلك الأول.

          وعن الطريق الثاني يقول أيضًا ابن رجب: وهو مسلك ابن راهويه ومن تابعه، وهو الكلام في معنى الحديث، وهو أن يحمل على غير المدخول بها، نقله ابن منصور عن إسحاق بن راهويه، وأشار إليه الحوفي في «الجامع»، وبوَّب عليه أبو بكر الأثرم في سننه وأبو بكر الخلال يدل عليه، وفي «سنن أبي داود»([34]) من رواية حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد، عن طاوس، عن ابن عباس: كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوه واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدر من إمارة عمر، فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال: أجيزوهن عليهنَّ، وأيوب إمام كبير، فإن قيل: تلك الرواية مطلقة، قلنا: نجمع بين الدليلين، ونقول: هذا قبل الدخول. انتهى ما ذكره ابن رجب في المسلك الثاني». انتهى كلام الكوثري.

          ثم قال الكوثري([35]): «وقال ابن رجب بعد أن ساق حديث ابن جريج الذي يقول فيه: اخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي ، عن عكرمة، عن ابن عباس بمعنى ما في مسند أحمد: إن في إسناده مجهولًا، والذي لم يُسَمَّ هو محمد بن عبد الله بن أبي رافع، وهو رجل ضعيف الحديث وأحاديثه منكرة، وقيل: إنه متروك، فسقط هذا الحديث حينئذٍ، وفي رواية محمد بن ثور الصنعاني: إني طلقتها، بدون ذكر «ثلاثًا»، وهو ثقة كبير، ويعارضه أيضًا ما رواه ولد ركانة أنه طلق امرأته ألبتة.اهـ.

          وعلى القول بصحة خبر «ألبتة» يزداد به الجمهور حجة إلى حججهم؛ وعلى دعوى الاضطراب في حديث ركانة، كما رواه الترمذي عن البخاري([36])، وعلى تضعيف أحمد لطرقه كلها ومتابعة ابن عبد البر له في التضعيف يسقط الاحتجاج بأي لفظ من ألفاظ رواية حديث ركانة.

          ومن جملة اضطرابات هذا الحديث روايته مرة بأن المطلق هو أبو ركانة وأخرى بأنه ابنه ركانة لا أبوه، ويدفع أن هذا الاضطراب في رواية «الثلاث» دون رواية «ألبتة» وهي سالمة من العلل متنًا وسندًا، ولو فرضنا وجود علة فيها يبقى سائر الأدلة بدون معارض». انتهى كلام الكوثري.

          وقال الإمام المجتهد أبو بكر بن المنذر في كتابه «الإجماع» ما نصّه([37]): «وأجمعوا على أنه إن قال لها: أنتِ طالق ثلاثًا إلا واحدة، أنها تطليقتان.

          وأجمعوا على أنه إن قال لها: أنتِ طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا أنها طلقت ثلاثًا».اهـ.

          وقال في كتابه «الإسراف» ما نصّه([38]): «وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن من طلق زوجته من ثلاث، أن ثلاثًا منها تحرمها عليه».اهـ.

          وقال أبو الوليد محمد بن رشد في كتابه «المقدمات» بعد أن ذكر أن من طلق زوجته ثلاثًا في كلمة واحدة وقع ثلاثًا ما نصّه([39]): «وهو مذهب جميع الفقهاء وعامة العلماء، لا يشذ في ذلك عنهم إلا من لا يعتد بخلافه منهم».اهـ.

          وذكر الإمام المجتهد محمد بن الحسن الشيباني([40]) قول ابن عباس رضي الله عنهما لما أتاه رجل فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثًا، فقال ابن عباس: «وقد حرمت عليك امرأتك، لا تحل لك حتى تنكح زوجًا غيرك» قال محمد بن الحسن عقبه([41]): «وبه نأخذ وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقول العامة لا اختلاف فيه».اهـ.

          وقال القاضي أبو الوليد الباجي المالكي في شرحه على الموطأ ما نصّه([42]): «فرع: إذا ثبت ذلك فمن أوقع الطلاق الثلاث بلفظة واحدة لزمه ما أوقعه من الثلاث، وبه قال جماعة الفقهاء، وحكى القاضي أبو محمد في إشرافه عن بعض المبتدعة يلزمه طلقة واحدة، وعن بعض أهل الظاهر لا يلزمه شيء، وإنما يروى هذا عن الحجاج بن أرطأة ومحمد بن إسحاق. والدليل على ما نقوله إجماع الصحابة، لأن هذا مروي عن ابن عمر وعمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي هريرة وعائشة ، ولا مخالف لهم».اهـ.

          وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ما نصّه([43]): «وعن ابن بطة [وكان مجسمًا] أنه قال: لا يفسخ نكاحٌ حكم به قاضٍ إذا كان قد تأوَّل فيه تأويلًا، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثًا في لفظ واحدٍ وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردودٌ، وعلى فاعله العقوبة والنَّكال».اهـ.

          وأخرج البيهقي([44]) عن مسلمة بن جعفر الأحمسي قال: قلت لجعفر ابن محمد [الصادق]: «إن قومًا يزعمون أن من طلق ثلاثًا بجهالة رد إلى السُّنَّة، يجعلونها واحدة يروونها عنكم، قال: معاذ الله، ما هذا من قولنا، من طلق ثلاثًا فهو كما قال».اهـ.

          وكفى ابن تيمية خزيًا وعارًا أن جده الشيخ مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحنبلي ذكر في كتابه «المنتقى من أخبار المصطفى » بعد أن أورد عدة روايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في وقوع الطلاق الثلاث فقال ما نصّه([45]): «وهذا كله يدل على إجماعهم على صحة وقوع الثلاث بالكلمة الواحدة».اهـ.

          وليس ابن تيمية من أهل الاجتهاد، وخلافه هذا نظير خلافه في مسألة بقاء النار بعد أن نقل في كتابه المسمّى «منهاج السُّنَّة النبوية»([46]) اتفاق المسلمين على بقاء الجنّة والنار، وأنه لم يخالف في ذلك إلا جهم بن صفوان وأنهم كفّروه، فنقض هذا الإجماع فقال: إن نار جهنم تفنى. وكذلك قوله([47]): إن الطلاق المعلق على وجه اليمين لا يقع بوقوع المعلق عليه، وإنه ليس في ذلك إلا الكفارة، خرق في ذلك إجماع علماء الإسلام على أن الطلاق المعلَّق يقع إذا وقع المعلق عليه إن كان على وجه اليمين أو على غير وجه اليمين. فهل يجوز أن يعدّ مثل هذا إمامًا مجتهدًا يؤخذ بقوله الذي يجتهد فيه؟! والذين روى عنهم أنهم قالوا به ممّن هم معدودون من أهل السُّنَّة لم يثبت عنهم، وإنما نسب إليهم نسبةً، ولا يثبت قول لإمام لمجرد النسبة إليه. ونحمد الله على نبذ المحاكم في بعض البلاد لرأي ابن تيمية في الطلاق، وأما المحاكم في بعض الدول فلا داعي لموافقتها هذا التحريف فإنه مخالف للإجماع الذي عليه المذاهب الأربعة وغيرهم، والسبب في عدم موافقة القضاة في محاكم بعض الدول لابن تيمية أنه مخالف لمذهب الإمام أحمد كما هو مخالف للإجماع في هذه المسألة التي ليس لأحمد فيها قول مخالف؛ بل جميع أصحاب أحمد متفقون على أن مذهبه أن الثلاث بلفظ واحد ثلاثة. وأما السبب في تغيير الحكم في بعض المحاكم فقاضٍ كان في عصرنا مولعًا بابن تيمية، فأحيا ضلالته مع موافقة الجاهلين المتهورين في الطلاق، فجرَّأَهم على إيقاع الثلاث على ظن أن لهم رجعة بعد ذلك، وهذا على أحد قولي ابن تيمية، والقول الآخر عنه أن الثلاث بلفظ واحد لا شيء، فمن قلّده بذلك يرجع إلى امرأته المطلقة بالثلاث بلا تجديد العقد بدون أن تنكح زوجًا ءاخر.

          ومن اعتبر ابن تيمية من المجتهدين الذين يجوز تقليدهم فقد بُعُد عن الصواب، كيف وهو القائل، والعياذ بالله: إن العالم أزليٌّ بجنسه، أي: أن جنس العالم لم يتقدمه الله بالوجود وإنما تقدم الأفراد المعينة، وقد اتفق المسلمون على تكفير من يقول بأن العالم أزليٌّ مع الله سواء جعله أزليًّا بنوعه فقط أو نوعه وتركيبه وأفراده المعينة. وقد نص ابن تيمية على هذا في أكثر من خمسة من كتبه([48]). ثم كيف تجرأ المفتونون به على اعتباره مجتهدًا، ومن شرط المجتهد الإسلام، ومن يقول بتلك المقالة مقطوع بكفره، كما نقل الإجماع على ذلك المحدث الفقيه الأصولي بدر الدين الزركشي([49]) وغيره.

          ثم إن من أخذ بظاهر حديث: «كان الطلاق طلاق الثلاث» يكون بذلك قد خوّن عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما.

          وأما تخوينهم لعمر رضي الله عنه فلأنهم جعلوه حكم بتحريم النساء المطلقات بالثلاث باللفظ الواحد على أزواجهن إلا بعد أن ينكحن أزواجًا ءاخرين، وهو بزعمهم يعلم أن الرسول وأبا بكر رضي الله عنه حَكَمَا بخلاف ذلك؛ بل في ذلك تكفير لعمر رضي الله عنه، لأنه من حرّف حكمًا لرسول الله قد شرعه معتبرًا ذلك حقًّا فهو كافر.

          وأما تخوينهم لابن عباس رضي الله عنه فبقولهم إن ابن عباس رضي الله عنه أفتى بأن الثلاث بلفظ واحد ثلاث مع علمه بأن حكم رسول الله على خلاف ذلك، وفي ذلك تحريفٌ لحكم رسول الله عمدًا، ثم هذا تخوين للصحابة الذين كانوا في ذلك الوقت كعلي رضي الله عنه، حيث إنهم سكتوا بزعمهم لعمر على تحريفه الباطل لحكم الشرع، وعمر هو القائل([50]): «نعوذ بالله من مُعضِلة ليس لها أبو الحسن»، فكيف يليق بأبي الحسن أن يسكت لو كان يعلم أن هذا خلاف حكم الرسول ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.

          كما أن هذا بخلاف ما فعله عمر رضي الله عنه من ضرب شارب الخمر ثمانين بعد أن كان يضرب في زمن الرسول وأبي بكر رضي الله عنه أربعين، لأن ذلك ليس فيه ما في هذا، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن جلد أربعين: إنه سُنَّة، وعن جلد ثمانين: إنه سُنَّة، رواه مسلم([51]) وغيره. فلا يجوز أن يجعل هذا نظير ذاك، لأن ما فعله عمر رضي الله عنه في مسألة الجلد ليس فيه إبطال حكم وضعه رسول الله ، لأن فعل الرسول لذلك لا يتضمن أن ما سوى هذا العدد حرام. فظهر مما قدّمته أن طلاق الثلاث المجموعة بكلمة واحدة، كقول الرجل لزوجته: أنت طالق ثلاثًا، تُحسب ثلاثًا، لا خلاف في ذلك بين المذاهب الأربعة وغيرهم من الأئمة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا.

          [1])) الألباني، الكتاب المسمّى سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/272).

          [2])) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الطلاق، باب: طلاق الثلاث (4/183).

          [3])) الزركشي، تشنيف المسامع (4/5 – 13).

          [4])) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/395)، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/161): «إسناده حسن إلا أن فيه مبهً/ا اعتضد بمجيئه من وجه ءاخر».اهـ.

          [5])) ابن حجر الهيتمي، الفتاوى الحديثية (ص156، 157).

          [6])) ابن حجر العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/153).

          [7])) الحصني، دفع شبه من شَبَّه وتمرد (ص35، 36).

          [8])) الحصني، دفع شبه من شَبَّه وتمرد (ص45).

          [9])) ابن تيمية، مجموع فتاوى (33/8، 9).

          [10])) ابن تيمية، مجموع فتاوى (33/71).

          [11])) ابن تيمية، مجموع فتاوى (33/92).

          [12])) ابن تيمية، مجموع فتاوى (33/46).

          [13])) ابن تيمية، مجموع فتاوى (33/66).

          [14])) ابن تيمية، مجموع فتاوى (33/71).

          [15])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (9/365).

          [16])) تقدم تخريجه.

          [17])) قاله في كتابه بيان مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة، كتاب الإشفاق للكوثري (ص45).

          [18])) الثمانية هم: عكرمة مولى ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار، ومالك بن الحارث، ومحمد بن إياس بن البكير، ومعاوية بن أبي عياش الأنصاري. سنن البيهقي (7/337).

          [19])) أبو بكر بن العربي، القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (1/724).

          [20])) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري (9/365).

          [21])) تقي الدين السبكين الدرة المضية في الرد على ابن تيمية (ص22، 23).

          [22])) أحمد، مسائل الإمام أحمد (1/224).

          [23])) ابن طولون، ذخائر القصر في تراجم نبلاء العصر (ق/32، 33) مخطوط.

          [24])) أحمد الصاوي، حاشية الصاوي على الجلالين (1/100).

          [25])) الكوثري، الإشفاق على أحكام الطلاق (ص33، 34).

          [26])) البيهقي، السنن الكبرى (7/339، 340).

          [27])) الكوثري، الإشفاق على أحكام الطلاق (ص34).

          [28])) البيهقي، السنن الكبرى (7/336).

          [29])) الكوثري، الإشفاق على أحكام الطلاق (ص34).

          [30])) فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية – الحديث (ص75).

          [31])) الكوثري، الإشفاق على أحكام الطلاق (ص35).

          [32])) الكوثري، الإشفاق على أحكام الطلاق (ص35، 36).

          [33])) الكوثري، الإشفاق على أحكام الطلاق (ص45 – 47).

          [34])) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الطلاق، باب: نسخ المراجعة بعدد التطليقات الثلاث (2/228).

          [35])) الكوثري، الإشفاق على أحكام الطلاق (ص50).

          [36])) أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الطلاق واللعان، باب: ما جاء في الرجل يطلق امرأته ألبتة (3/480).

          [37])) ابن المنذر، الإجماع (ص89).

          [38])) ابن المنذر، الإشراف (4/165).

          [39])) محمد بن رشد، المقدمات الممهدات (ص385).

          [40])) محمد بن الحسن الشيباني، الآثار (ص105).

          [41])) محمد بن الحسن الشيباني، الآثار (ص105).

          [42])) الباجي المالكي، المنتقى شرح الموطأ (4/3).

          [43])) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم (2/255).

          [44])) البيهقي، السنن الكبرى (7/340).

          [45])) أبو البركات ابن تيمية، المنتقى من أخبار المصطفى  (2/602).

          [46])) ابن تيمية، الكتاب المسمّى منهاج السُّنَّة النبوية (1/66).

          [47])) ابن تيمية، الكتاب المسمّى منهاج السُّنَّة النبوية (3/207).

          [48])) كتب ابن تيمية: الموافقة (1/245)، المنهاج (1/109)، نقد مراتب الإجماع (ص168)، شرح حديث عمران بن الحصين (ص193)، ومجموع الفتاوى (18/239)، شرح حديث النزول (ص161).

          [49])) الزركشي، تشنيف المسامع (4/70).

          [50])) أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة (2/647).

          [51])) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحدود، باب: حد الخمر (5/126).