السبت يوليو 27, 2024
            • الألباني يشذّ في قوله: «الحق لا يتعدد»:

            من دسائس الألباني قاعدة استحدثها يريد بها حصر الحق فيما يراه، وإبطال ما سواه، وهي قوله: «لا يتعدد الحق».


             

            الرَّدُّ:

            هذه الكلمة غير صحيحة يبطلها ما أخرجه مسلم([1]) من حديث عليّ رضي الله عنه أنه قال: «جلد النبي – في الخمر – أربعين، وجلد أبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكلٌّ سنَّة، وهذا أحبُ إليَّ»، يعني: جلد أربعين، وقد حكم عليّ رضي الله عنه بأن كلا الأمرين حق، وحديث البخاري([2]) أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في غزوة: «لا يصلينَّ أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظةً»، فخاف بعضهم أن تفوتهم العصر فصلوا قبلها، وأخَّر الآخرون، فلم يعنّف رسول الله واحدًا من الفريقين.

            ثم ماذا يقول الألباني في اختلاف الأئمة المجتهدين من الصحابة، كاختلاف أبي بكر رضي الله عنه مع عليّ رضي الله عنه في حكم الجدّ مع الإخوة؟ فمع مَن الحق عند الألباني؟ هل هو مع أبي بكر رضي الله عنه فيكون اجتهاد عليّ رضي الله عنه باطلًا على زعمه أم العكس؟! وعلماء الأمة يرون كلًّا حقًّا.

            وأيُّ باب من أبواب الأحكام الشرعية من ربع العبادات وربع المعاملات والربعين الآخرين في الفقه الإسلامي لم يختلف الأئمة المجتهدون في مسائل فيها على حسب ما يؤدي كلًّا اجتهادهُ إليه أنه صواب.

            وهذا الاختلاف الذي بينهم لا يؤدي إلى قولك لأحد المختلفين في المسألة: قولك باطل، وقول فلان حقّ، طالما أنّ كل واحد منهما له دليل مُعْتَبَر فيها ذهب إليه، ولذلك غلب على التاريخ الإسلامي على اختلاف دوله أن الحكام لم يجمعوا الناس على مذهب واحد يلتزمونه دون غيره من المذاهب الأربعة عند أهل السُّنَّة والجماعة. وهذا الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عَرض على الإمام مالك أن يُلزم أهل الأمصار بمذهبه وكتبه، فكان جواب الإمام مالك: «دع الناس وما هم عليه وما اختار كل بلد لأنفسهم»([3]).

            فعلى قول الألباني عَلَامَ يُحمل اختلاف أبي بكر رضي الله عنه واختلاف علي رضي الله عنه في مسألة توريث الإخوة مع الجد وعدم توريثهم؟! فأبو بكر رضي الله عنه رأى أن الإخوة لا يرثن مع الجد، لأن الجد في معنى الأب، وعلي رضي الله عنه رأى تشريكه مع الإخوة في الإرث ولم ير أنه كالأب في هذه المسألة، فالمسلمون لا يختلفون في أن ما رءاه أبو بكر رضي الله عنه لا يُطلق عليه أنه باطل، ولا على مقابِلِه، ولا يجرؤ أحد من المسلمين على القول: إن ما قاله أحدهما حق، وما قاله الآخر باطل، طالما أنه لا نص في المسألة، والاجتهاد حينئذٍ مسوَّغ، ويقال للمصيب من المجتهدين: إنه مصيب، وللمخطئ منهم: إنه مخطئ. فقد قال علماء الإسلام في ذلك وأمثاله: أحد المجتهدين مصيب، والآخر مخطئ، وقال بعضهم: كلا المجتهدين مصيب. وهما قولان معروفان عند الأصوليين، يرون هذا الاختلاف بعد اتفاقهم في أصول العقيدة خطْبًا يسيرًا. وهذا أيضًا كما أفاده حديث النبي : «إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجرانِ، وإذا حكم فاجتهدَ ثم أخطأ فله أجرٌ» رواه البخاري([4]).

            ثم ماذا يقول الألباني فيما رواه مسلم([5]): «بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئبُ فذهب بابنِ إحداهما، فقالت هذه لصاحبتِها: إنما ذهب بابنِك أنت، وقالتِ الأخرى: إنما ذهب بابنِك، فتحاكمتا إلى داودَ فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمانَ ابنِ داودَ عليهما السلامُ فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكينِ أشقُّه بينكما، فقالت الصغرى: لا، يرحمُك اللهُ، هو ابنُها، فقضى به للصغرى».اهـ. فهل يقول: إن حكم أحدهما باطل كما يقتضي كلامه؟

            [1])) تقدم تخريجه.

            [2])) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماء (1/321).

            [3])) ابن عبد البر، جامع بيان العلم (1/160).

            [4])) تقدم تخريجه.

            [5])) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأقضية، باب: بيان اختلاف المجتهدين (5/133).