السبت يوليو 27, 2024
      • الألباني يتخبَّط في مسألة التوسل والاستغاثة:

      عمد الألباني إلى تقليد ابن تيمية في مسألة تحريم([1]) التوسل والاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين، فجعل الاستغاثة بغير الله شركًا([2]) فقال([3]): «وبهذا البيان يَنسدّ طريق من طرق الضلال المبين على المشركين وأمثالهم من الضالين الذين يستغيثون بالأولياء والصالحين ويدعونهم من دون الله».اهـ. وقال أيضًا في مقدمته على كتاب «الكلم الطيب»([4]) لابن تيمية ما نصّه: «كلمة أخيرة، وبعد فلعل تضمن الكتاب لتلك الأحاديث الضعيفة مع السكوت عنها، وفيها ما يبدو أنها منافية للتوحيد، والمؤلف حامل رايته، كحديث المناداة بـ«يا محمد» مما حمل بعض الأفاضل على الكتابة إلي يسألني: هل صحَّت نسبة الكتاب إلى ابن تيمية».اهـ.

      الرَّدُّ:

      الألباني يشكّك بنسبة الكتاب لابن تيمية، لأن كتاب ابن تيمية «الكلم الطيب» فيه رواية ما يضادّ ويناقض عقيدة الألباني والوهابية، وفيه رواية البخاري في «الأدب المفرد»([5]) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه خدِرت رجله فقيل له: اذكر أحبَّ الناس إليك، فقال: يا محمد، فكأنما نشط من عقال، وروى البخاري([6]) عن رسول الله أنه قال: «إنَّ الشمسَ تدنو يومَ القيامةِ حتى يبلغَ العرقُ نصفَ الأذنِ، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدمَ ثم بموسى ثم بمحمدٍ»، والتوسل والاستغاثة بمعنى واحد، كما قال الحافظ المجتهد المتكلم الأصولي الفقيه اللغوي النحوي تقي الدين السبكي([7]).

      ومما يدل على ذلك أن حديث الشفاعة روي بلفظين، رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما بهذا اللفظ، ورواه أيضًا عن أنس رضي الله عنه بلفظ الاستشفاع، ونصّه([8]): «فاشفعْ لنا عندَ ربِّنا»، فهاتان الروايتان يؤخذ منهما أن الاستغاثة توسل والتوسل استغاثة.

      ومن أدلة التوسل ما رواه الحافظ الطبراني([9]) في معجمه الكبير والصغير، واللفظ للصغير، عن عثمان بن حُنَيْف رضي الله عنه: أن رجلًا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف، فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ ركعتين ثم قل: «اللَّهُمَّ إني أسألك وأتوجه إليك بنبيّنا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي تعالى ليقضي لي حاجتي»، وتذكر حاجتك، ورُح إليّ حتى أروح معك. فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له، ثم أتى عثمان بن عفان، فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال له: ما كان لك من حاجة فَائْتنا، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت([10]) حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله، ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله وقد أتاه ضرير فشككا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي : «أو تصبرُ؟» فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد وقد شقَّ عليَّ، فقال له النبي : «ائتِ الميضأةَ فتوضأ ثم صلِّ ركعتينِ ثم ادعُ بهذه الدعواتِ». قال عثمان بن حنيف: فوالله، ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط. قال الطبراني([11]): «والحديث صحيح».اهـ. ففي هذا الحديث الصحيح دليل على جواز التوسل بالنبي في حياته بغير حضوره وبعد وفاته.

      ومن أدلة الاستغاثة بالنبي ما رواه الحافظ البيهقي([12]) أيضًا بإسناد صحيح عن مالك الدار – وكان خازن عمر رضي الله عنه – قال: «أصاب الناس قحط في زمان عمر فجاء رجل إلى قبر النبي فقال: يا رسول الله استسقِ لأمَّتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه رسول الله في المنام فقال: ائت عمر فأقرئه مني السلام، وأخبره أنهم يسقون وقل له: عليك بالكيس الكيس، فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: «يا ربّ ما ءالوا إلا ما عجزت([13])»».اهـ. وهذا الرجل هو بلال بن الحارث المزني الصحابي، فهذا الصحابيُّ قد قصد قبر الرسول للتبرك فلم ينكر عليه عمر رضي الله عنه ولا غيره.

      وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»([14]) ما نصّه: «وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمَّان عن مالك الدار قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي فقال: يا رسول الله، استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأُتي الرجل في المنام فقيل له: ائتِ عمر، الحديث. وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة».اهـ.

      ولما لم يستطع الألباني إثبات ضعف هذا الأثر عمد إلى الادّعاء أن الحافظ ابن حجر ضعَّفه([15])، مع أن الحافظ صرَّح بصحة سنده كما سبق ذكر ذلك في كتابه «فتح الباري»، وهذا دليل أيضًا على أن الألباني لا يوثَق بنقله، ولا برأيه الذي يحرف الحقائق والوقائع نصرةً لرأيه.

      ثم إن الاستغاثة بالرسول بعد موته عند الألباني شرك وكفر فماذا يقول في زعيمه ابن تيمية الذي أورد في كتابه الذي سمَّاه «الكلم الطيب»، أي: أن كل ما فيه شيء حسن، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما خدرت رجله – أي: أصابها مرض الخدر الذي هو شبه فالج في الرّجل وهو معروف عند الأطباء – فقال له رجل: اذكر أحبَّ الناس إليك فَقال: يا محمد، فكأنما نشط من عقال.

      وكتاب ابن تيمية هذا توجد منه نسخ خطية، وطبع عدة طبعات في مصر وغيرها، فموجب قوله بتكفير المستغيث برسول الله بعد موته تكفير ابن تيمية، حيث إنه استحسن هذا، ومن استحسن الكفر فهو كافر، ومن دلَّ إلى الكفر فهو كافر، فهل يعترف بكفر ابن تيمية؛ لأنه استحسن هذه الاستغاثة كما يكفّر المستغيثين بالرسول بعد وفاته على الإطلاق أم يستثنيه؟! أم ماذا يفعل؟! فإن قال: لا أكفّر ابن تيمية لاستحسانه ذلك لأنه زعيمنا، قيل له: إذًا أنت تتحكَّم تطبق على الناس ما لا تطبقه على زعيمك، فقد أشبهت في هذا اليهود الذين كانوا بدَّلوا حكم التوراة في الرجل الزاني المحصن، كانوا يرجمون الزاني المحصن إن كان من الوضعاء، ولا يرجمونه إن كان من أشرافهم. وقد اعترف الألباني (مع أنه شَكَّك) بأن هذا الكتاب من مؤلفات ابن تيمية كما عرف الناس سواه؛ لأن مترجميه ذكروا ذلك في عداد مؤلفاته، فأين المهرب؟!

      ثم ماذا يقول الألباني فيما ذكره الحافظ الخطيب البغدادي([16]) بسنده إلى عبد الواحد بن ءادم يقول: «رأيت النبي في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع، فسلمت عليه فردَّ عليَّ السلام، فقلت: وما وقوفك ههنا يا رسول الله؟ قال: أنتظر محمد ابن إسماعيل» – يعني: البخاري – إلى ءاخر ما تقدم. وقال القسطلاني([17]): «لما ظهر أمره بعد وفاته، خرج بعض مخالفيه إلى قبره وأظهروا التوبة والندامة، وقال أبو علي الحافظ: أخبرنا أبو الفتح نصر بن الحسن السمرقندي، قدم علينا «بلنسية» [في الأندلس سابقًا، وفي شرق إسبانيا اليوم: فالنسيا] عام أربعة وستين وأربعمائة، قال: فقحط المطر عندنا بسمرقند في بعض الأعوام، فاستسقى الناس مرارًا فلم يسقوا، فأتى رجل صالح معروف بالصلاح إلى قاضي سمرقند وقال له: إني رأيت رأيًا أعرضه عليك، قال: وما هو؟ قال: أرى أن تخرج ويخرج الناس معك إلى قبر الإمام البخاري فتستسقي عنده، فعسى الله أن يسقينا، فقال القاضي: نِعْمَ ما رأيت! فخرج القاضي ومعه الناس واستسقى بهم وبكى الناس عند القبر وتشفعوا بصاحبه، فأرسل الله تعالى السماء بماء عظيم غزير، أدام الناس من أجله «بخرتنك» [قرية من قرى سمرقند، وفي أوزبكستان اليوم] سبعة أيام ونحوها لا يستطيع أحد الوصول إلى سمرقند من كثرة المطر وغزارته».اهـ.

      [1]() الألباني، الكتاب المسمّى التوسل أنواعه وأحكامه (ص42، 49، 64).

      [2]() الألباني، الكتاب المسمّى التوسل أنواعه وأحكامه (ص23).

      [3]() الألباني، الكتاب المسمّى سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/285 – 286).

      [4]() الكلم الطيب لابن تيمية، تعليق الألباني (ص16).

      [5]() البخاري، الأدب المفرد (ص335).

      [6]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب: من سأل الناس تكثُّرًا (2/536).

      [7]() تقي الدين السبكي، شفاء السقام (171، 183 – 184).

      [8]() أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب: من انتظر حتى تدفن (8/116).

      [9]() الطبراني، المعجم الكبير (9/30، 31)، الطبراني، المعجم الصغير (1/306).

      [10]() في المعجم الكبير: يلتفت إليَّ.

      [11]() الطبراني، المعجم الصغير (1/306).

      [12]() البيهقي، دلائل النبوة (7/47)، وابن كثير، البداية والنهاية (7/91، 92).

      [13]() أي: لا أقصّر إلا ما عجزت عنه، أي: سأفعل ما في وسعي لخدمة الأمة.

      [14]() ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري (2/495 – 496).

      [15]() الألباني، الكتاب المسمّى التوسل أنواعه، وأحكامه (ص13).

      [16]() الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد (2/34).

      [17]() القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (1/67).