اعتقاد الصوفية اعتقاد أهل السنة والجماعة
قد قام أناس في هذا العصر بترويج الأكاذيب الملفقة بأن طرق الصوفية ليست من الإسلام في شيء، بل هي أثر عقائد الفلسفة اليونانية والهندية، وقولهم هذا يكفر أكثر الأمة الإسلامية التي تتبع طريق القوم، ولا تجتمع أمة الإسلام على الضلال، وقد انبرى للدفاع عن هذه الطائفة الكريمة الكثير من الأكابر وذلك في بيان أنهم على منهج الإسلام بل هم علماء الإسلام، والمتتبع لعلومهم في العقيدة يعلم أنهم على منهج النبي صلى الله عليه وسلم لم يخالفوا ولم ينحرفوا، لا في العقيدة ولا في الأحكام، ولا في الأعمال ولا في الآداب النبوية الشريفة، وإليك ما جمعناه لك من دروسهم وأقوالهم في العقيدة الإسلامية من أقطابهم ومشايخهم وأشرافهم مما يبين لك صحة انتمائهم وصدق اتباعهم وبيان عقيدتهم.
يقول الشيخ أبو بكر الكلاباذي في بيان عقيدة أهل التصوف بعد كلام له: “وذلك بعد إحكام علم التوحيد والمعرفة على طريق الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح عليه القدر الذي يتيقن بصحة ما عليه أهل السنة والجاعة، فإن وُفق في نفي شبه التشبيه التي تعترضه من خاطر أو ناظر فذاك. واعلم أن الصوفية أجمعوا على أن الله واحد، فردٌ صمد، قديمٌ عالم، قادرٌ حي، سميعٌ بصير، عزيزٌ عظيم، جوادٌ رؤوف، متكبر جبار، باقٍ أول، إلهٌ مالكٌ ربٌّ، رحمنٌ رحيم، مريدٌ حكيم، متكلمٌ خالقٌ رازق، موصوف بكل كمال يليق به، منزه عن كل نقص في حقه، لم يزل قديمًا بأسمائه وصفاته، غير مشابه للخلق بوجه من الوجوه، لا يشبه ذاته الذوات، ولا صفاته الصفات، لا يجري عليه شيء من سمات المخلوقين الدالة على حدوثهم، موجودًا قبل كل شيء، لا قديم غيره، ولا إله سواه، ليس بجسم ولا شبح، ولا صورة ولا شخص، ولا جوهر ولا عرض، ولا اجتماع له ولا افتراق، لا يتحرك ولا يسكن، ولا ينقص ولا يزيد، ليس بذي أبعاض ولا أجزاء، ولا جوارح ولا أعضاء، ولا بذي جهات ولا أماكن، لا تجري عليه الآفات، ولا تأخذه السنات، ولا تداوله الأوقات ولا تعينه الإشارات، ولا يجويه مكان ولا يجري عليه زمان، ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الاماكن، ولا تحيط به الأفكار ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الأبصار، وأجمعوا أن لله صفات على الحقيقة، هو بها موصوف من العلم والقدرة والقدم والحياة والإرادة والمشيئة والكلام، وأنها ليست بأجسام ولا أعراض ولا جواهر، كما أنه ذاته ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر، وأن له سمعًا وبصرًا ليسا كالأسماع والأبصار، وأنها ليست هي هو ولا غيره، بل هي صفات الذات، وقد أجمعوا على أنه لا تدركه العيون، ولا تهجم عليه الظنون، ولا تتغير صفاته ولا تتبدل أسماؤه، لم يزل كذلك، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” اهـ.
وقال الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “نزهوا الله عن صفات المحدثين، وسمات المخلوقين، وطهروا عقائدكم عن تفسير معنى الاستواء في حقه تعالى بالاستقرار كاستواء الأجسام على الاجسام المستلزم للحلول والنزول والإتيان والانتقال” اهـ.
وقد سأل السيد عبد الرحيم السيد الجليل الشيخ أحمد الرفاعي الكبير قدس سره فقال: “الناس يسألوني عن عقيدتي فما أقول لهم، فقال السيد أحمد رضي الله عنه: “أي عبد الرحيم، اعلم أن كل ما عدا الخالق فهو مخلوق، والليل والنهار والضوء والظلام، والسموات السبع وما فيهما من النجوم والشمس والقمر والأرض، وما عليها من جبل وبحر وشجر، وأنواع النباتات وأصناف النبات، والحيوانات الضار منها والنافع، لم يكن شيء من ذلك إلا بتكوين الله، ولم يكن قبل تكوين الله الأشياء أصل ولا مادة ولا شيء من ذلك إلا بتكوين الله، وكذلك الجنة والنار والعرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والأنس والجن والشياطين، لم يكن منها شيء إلا بتكوين الله تعالى، وكذا صفات هذه الأشياء من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، والأطعام والمشروب والروائح، والجهل والعلم، والعجز والقدرة، والسمع والصمم، والبصر والعمى، والنطق والبكم، والصحة والسقم، والحياة والموت، كل ذلك من مخلوقات الله تعالى، وكذلك أفعال العباد واكتسابهم، من الأمر والنهي والوعد والوعيد، كل ذلك من مخلوقات الله تعالى، خلق كل شيء، قال الله تعالى: {هل مِن خالقٍ غيرُ اللهِ يرزقكم} [سورة فاطر].
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، الطاعات والمعاصي بقضاء الله وقدره، وعبادته بإرادته ومشيئته، فإن الطاعة مقدرة من الله تعالى بقضائه وقدره، وكذا المعصية والمعاصي مكونة مقدرة بقضاء الله تعالى وقدره ومشيئته، لكن ليست برضائه ولا محبته، ولا بأمره، وما أراد الله أن يكون كان بلا محالة، طاعة أو معصية، وهذا معنى قولنا ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فمن هداه الله تعالى خلق فيه فعل الاهتداء، ومن لم يهده لم يهتد وكل ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال: {الذينَ ءامنوا وعمِلوا الصالحاتِ طُوبى لهُم وحُسْنُ مَئاب} [سورة الرعد]، والله يعطي العبد كما يريد، كان فيه صلاح العبد أو فساده، وغاية صلاح العبد ليست بواجبة على الله تعالى، بل إن كان فيه صلاح كان منه إحسانًا وتفضلًا، وإن لك يكن ذلك كان منه عدلًا، فله الفضل والحمد، والله تعالى قديم ليس لوجوده ابتداء، وباق ليس لبقائه انتهاء، حي بلا روح، عالم بلا قلب وفكرة، قادر لا بآلة، سميع لا بأذن، بصير لا بحدقة، متكلم لا بلسان، والله تعالى قديم بصفاته، وليس شيء من صفاته محدث، وكلامه ليس من الحروف والأصوات، بل الحروف والأصوات عبارة عن كلامه ودلالة عليه، والله تعالى ليس بجسم، ولا بجوهر ولا عرض، ولا على مكان ولا في مكان، بل كان جلت عظمته ولا زمان ولا مكان، والله تعالى خالقه ومكونه، والله تعالى لا يشبه شيئًا مما خلق، ولا يشبه ذاته ذوات المخلوقين، ولا صفاته صفات المخلوقين كما قال تعالى: {ليسَ كمثلهِ شيءٌ وهوَ السميعُ البصير} [سورة الشورى] والله تعالى واحد أحد فرد صمد، لا شريك له ولا وزير له ولا مثيل له، ولا شبيه له، ولا ضد له ولا ند له، ولا نظير له ولا مثيل له، ولا أول له ولا ءاخر له، ولا ولد له ولا والدة له ولا والد له، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم، وعل كل شيء قدير، علام بأمور خلقه من مبتداهم إلى منتهاهم، وكل مخلوق بخلقته شاهد عادي على أنه لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأنّ محمدًا عبده ورسوله وصفيه وحبيبه وخيرته من خلقه، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وأن الله أرسل من قبله رسلًا، أولهم ءادم وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وكلهم جاءوا بالحق وتكلموا بالصدق، وبلغوا الرسالة وصدقوا فيما بلغوا عن ربهم عز وجل، وكل ما أنزل عليهم من الكتب والصحف حق، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل ولا نبي بعده حق، وأن الرسل كلهم على حق، وأن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في ءاخر الزمان حق، وأن المعراج حق، أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وشخصه في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس على ظهر البراق، ثم عرج به إلى السماء حيث شاء الله، وأن الصالحين مع علو منزلتهم وقربهم من الله لا يسقط عنهم شيء من الفرائض والواجبات من الصلاة والزكاة والحج والصيام وغير ذلك، ومن زعم أنه صار وليًّا وسقط عنه الفرائض فقد كفر فإنه لم يسقط ذلك عن الأنبياء فكيف يسقط عن الأولياء. وأن الإيمان يزيد وينقص، والإيمان والإسلام واحد، وكل مسلم مؤمن، وأن عذاب القبر حق وأن منكرًا ونكيرًا حق، وسؤالهما حق، وأن البعث حق والعرض حق، والحساب حق، وأن الجنة ونعيمها حق، والنار وعذابها حق، وأهل الجنة يرون ربهم بعينهم من غير تشبيه ولا إحاطة ولا كيفية ولا مقابلة ولا على مكان –هم في الجنة وهو موجود بلا مكان-، ولا في جهة من الجهات الست، وأن قراءة الكتب أي في الآخرة حق، يؤتى المؤمن كتابه بيمينه والكافر بشماله، والميزان حق والشفاعة للنبي حق، وأن أبا بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفة حق، وبعده خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حق، وبعده خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه حق، وبعده خلافة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ورضي الله عنه حق، وإلى أن قال سيدنا أحمد الرفاعي فهذا اعتقادنا ومذهبنا فمن خالفه وقال غير ذلك لا برهان له والله بريء منه اهـ. [من كتاب المجالس الرفاعية].
وقال الشيخ أحمد الرفاعي: “ما ثم اتصال وما ثم انفصال ولا حلول ولا انتقال ولا حركة ولا زوال ولا مماسة، ولا مجاورة ولا محاذاة ولا مقابلة ولا مماثلة ولا مجانسة ولا تجسد ولا تصور ولا انفعال، ولا سكون ولا تغير، وغاية الاستدلال العقلي الوصول إلى أنه موجود لا يشبه الموجودات وهذا هو النظر الصحيح” اهـ.
ويقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان” اهـ.
وقال أيضًا: “إن الله تعالى خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته” اهـ.
ويقول الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه: “من زعم أن الله في شيء أو على شيء أو من شيء فقد أشرك، إذ لو كان في شيء لكان محصورًا، ولو كان على شيء لكان محمولًا، ولو كان من شيء لكان محدثًا أي مخلوقًا” اهـ.
قال الإمام السجاد زين العابدين في الصحيفة السجادية التي رواها الحافظ الفقيه اللغوي مرتضى الزبيدي في شرح الإحياء: “أنت الله الذي لا تحد فتكون محدودًا” اهـ
وقال أيضًا: “سبحانك أنت الله الذي لا يحويك مكان لا تحس ولا تمس ولا تجس” اهـ.
وقال أيضًا: “سبحانك أنت الذي ليس بمحدود” اهـ.
وقال الشيخ أبو بكر بن إسحاق الكلاباذي الحنفي [380هـ] في بيان عقيدة الصوفية ما نصه: “اجتمعت الصوفية على أن الله لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان” اهـ.
وقال الشيخ أحمد الرفاعي: “إذا قلتم لا إله إلا الله فقولوها بالإخلاص الخالص من الغيرية، ومن خطورات التشبيه والكيفية، والتحتية والفوقية، والبعدية والقربية وهو واحد في ذاته غير منقسم ولا متحيز ولا حال ولا متحد” اهـ.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي الأندلسي: “البارئ تعالى يتقدس عن أن يحد بالجهات أو تكتنفه الأقطار” اهـ.
وقال القاضي أبو بكر أيضًا ما نصه: “إن الله سبحانه منزه عن الحركة والانتقال لأنه لا يحويه مكان كما لا يشتمل عليه زمان، ولا يشغل حيزًا كما لا يدنو إلى مسافة بشيء، متقدس الذات عن الآفات منزه عن التغيير، وهذه عقيدة مستقرة في القلوب ثابتة بواضح الدليل” اهـ.
وقال أيضًا ما نصه: “الله تعالى يتقدس عن أن يحد الجهات” اهـ.
وقال الإمام الرفاعي: “غاية المعرفة بالله الإيقان بوجوده تعالى بلا كيف ولا مكان” اهـ.
وقال الإمام الرفاعي أيضًا ما نصه: “لا يحده –تعالى- المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه السموات، وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواءًا منزهًا عن المماسة والاستقرار والتمكن والتحول والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون بقبضته، وهو فوق العرش والسماء بل هو رفيع الدرجات عن العرش كما أنه رفيع الدرجات عن الدرجات اهـ.
قال الإمام الحافظ المفسر عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي الحنبلي ما نصه: “الواجب علينا أن نعتقد أن ذات الله تعالى لا يحويه مكان ولا يوصف بالتغير والانتقال” اهـ.
وقال أيضًا: “فترى أقوامًا يسمعون أخبار الصفات فيحملونها على ما يقتضيه الحس كقول قائلهم: ينزل بذاته إلى السماء وينتقل، وهذا منهم رديء، لأن المنتقل يكون من مكان إلى مكان، ويوجب ذلك كون المكان أكبر منه، ويلزم منه الحركة، وكل ذلك محال على الحق عز وجل” اهـ.
وقال أيضًا: “كل من هو في جهة يكون مقدرًا محدودًا وهو يتعالى عن ذلك، وإنما الجهات للجواهر والأجسام لأنها أجرام تحتاج إلى جهة، وإذ ثبت بطلان الجهة ثبت بطلان المكان” اهـ.
وقال الشيخ الصوفي الصالح عبد الله بن سعد المعروف بابن أبي جمرة ما نصه: “فمحمد عليه السلام فوق السبع الطباق ويونس عليه السلام في البحار وهما بالنسبة إلى القرب من الله سبحانه على حد سواء، ولو كان عز وجل مقيدًا بالمكان أو الزمان لكان النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إليه، فثبت بهذا نفي الاستقرار والجهة في حقه جل جلاله” اهـ.
وقال الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعي اليمني [768هـ] بعد أن ذكر عقيدة الصوفية في تنزيه الله عن الجهة والمكان ما نصه: “فأنا أذكر الآن عقيدتي معهم على جهة الاختصار فأقول وبالله التوفيق: الذي نعتقده أنه سبحانه وتعالى استوى على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزهًا عن الحلول والاستقرار والحركة والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، لا يقال أين كان ولا كيف كان ولا متى كان ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان، تعالى عن الجهات والأقطار والحدود والمقدار” اهـ.
وقال الشيخ أبو علي محمد بن علي بن عبد الرحمن الصوفي الزاهد المعروف بابن عراق الكناني الدمشقي نزيل بيروت [933هـ] ما نصه: “كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان، جلّ عن التشبيه والتكييف، والتأليف والتصوير” اهـ.
وقال أيضًا ما نصه: “ذات الله ليس بجسم، فالجسم بالجهات محفوف، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس، على العرش استوى من غير تمكن ولا جلوس” اهـ.
وقال الصوفي الزاهد العارف الشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي الحنفي [1143هـ] ما نصه: “فيتنزه سبحانه وتعالى عن جميع الامكنة العلوية والسفلية وما بينهما” اهـ.
وقال أيضًا: “الجهات جمع جهة، وهي ست: فوق وتحت ويمين وشمال وقدام وخلف، والجهة عند المتكلمين هي نفس المكان، باعتبار إضافة جسم ءاخر إليه، ومعنى كون الجسم في جهة كونه مضافًا إلى جسم ءاخر حتى لو انعدمت الأجسام كلها لزم من ذلك انعدام الجهات كلها، لان الجهات من توابع الأجسام وحيث انتفى عن الله تعالى الزمان والمكان انتفت الجهات كلها عنه تعالى أيضًا لأن جميع ذلك من لوازم الجسمية وهي مستحيلة في حقه تعالى” اهـ.
وقال الشيخ الصوفي الزاهد العلامة مولانا خالد بن أحمد النقشبندي [1242هـ] ما نصه: “أشهد بأن الله ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض، وكذلك صفاته لا يقوم به حادث ولا يحل في شيء ولا يتحد بغيره، مقدس عن التجسم وتوابعه وعن الجهات والأقطار” اهـ.
وقال الصوفي العارف بالله الزاهد العابد الشيخ بهاء الدين محمد مهدي بن علي الرواس الصيادي الحسيني الشافعي [1287هـ] ما نصه: “الوسيلة الأولى صحة الاعتقاد، ولنذكر ذلك بالاختصار على الوجه الكافي، وهو أن يعتقد المرء أن الله واحد لا شريك له، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن ليس كمثله شيء، لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه السموات” انتهى باختصار.
وقال الرفاعي: “التوحيد وجدان تعظيم في القلب يمنع من التعطيل والتشبيه” اهـ.
وينقل الإمام الشعراني عن علي الخواص قوله: “لا يجوز أن يقال إنه تعالى في كل مكان كما تقول المعتزلة القدرية” اهـ.
وقال أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري عند ذكر عقيدة الصوفية ما نصه: “وهذه فصول تشتمل على بيان عقائدهم في مسائل التوحيد ذكرناها على وجه الترتيب، قال شيوخ هذه الطريقة على ما يدل عليه متفرقات كلامهم ومجموعاتها ومصنفاتها في التوحيد: “إن الحق سبحانه وتعالى موجود قديم لا يشبه شىء من المخلوقات، ليس بجسم ولا جوهر، ولا عرض، ولا صفاته أعراض، ولا يتصور في الأوهام، ولا يتقدر في العقول، ولا له جهة ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان” انتهى باختصار.
وقال الشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي الأشعري ما نصه: “تعالى – أي الله – عن أن يحويه مكان، كما تقدس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان” اهـ.
ويقول الامام القشيري: “اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعدهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف، وأهل السنة من توحيد، ليس فيه تمثيل ولا تعطيل” اهـ.
ويقول مقدم الصوفية الجنيد البغدادي: “التوحيد إفراد القديم من المحدث” اهـ.
ويقول الامام الشيخ أحمد الرفاعي الكبير: “صونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة فانّ ذلك من أصول الكفر” اهـ.
وقال رضي الله عنه أيضا: “فسبيل المتقين من السلف تنزيه الله تعالى عما دلّ عليه ظاهره، وتفويض معناه المراد الى الحق تعالى وتقدس” اهـ.
وقال أيضا: “ولكم حمل المتشابه على ما يوافق أصل المحكم لأنه أصل الكتاب، والمتشابه لا يعارض المحكم” اهـ.
وقال رضي الله عنه: “أصموا أسماعكم عن علم الوحدة، وعلم الفلاسفة، وما شاكلهم فإن هذه العلوم مزالق الأقدام الى النار” اهـ.
وقال سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “من زعم أنّ إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود” اهـ.
وقال أبو بكر الشبلي: “الله الواحد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف سبحانه لا حد لذاته ولا حرف لكلامه” اهـ.
وقال الشيخ عبد الغني النابلسي: “من زعم أن الله يسكن السماء، أو أنه جسم قاعد فوق العرش فهو كافر” اهـ.
ويقول أيضا:
معرفة الله عليك تفترض … بأنه لا جوهر ولا عرض
وليس يحويه مكان لا ولا … تدركه العقول جل وعلا
لا ذاته يشبه للذوات … ولا حكت صفاته الصفات
واعلم أن التصوف الحقيقي هو حق وصدق، وموافق لما عليه أهل السنة والجماعة من العقيدة الصافية ومن شوائب التشبيه والتكييف، ومما يدلنا على ذلك ما روي أن السلطان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، كان صوفيًا كبيرًا محبًا لأهل التصوف مقربًا لهم وها هو يأمر بأن تذاع عقيدة أهل السنة والجماعة على ما قرره الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله على المآذن، فقد كان أشعري العقيدة شافعي المذهب صوفي المشرب، وقد قال الحافظ السيوطي في كتابه “الوسائل الى مسامرة الأوائل” ما نصه: “إنّ السلطان صلاح الدين بن أيوب أمر المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية فوظف المؤذنين على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا” أي إلى وقت السيوطي المتوفى سنة 911هـ. ولا يخفى على كل مسلم مكانة السلطان المجاهد صلاح الدين بين المسلمين وشهرته وصلاحه وهو ظاهر ومشهور.
ولما كان للسلطان صلاح الدين هذا الاهتمام بعقيدة الأشعري [عقيدة أهل السنة والجماعة] ألّف له الشيخ النحوي محمد بن هبة الله المكي رسالة سماها “حدائق الفصول وجواهر الأصول” وأهداها للسلطان فأقبل عليها وأمر بتعليمها حتى للصبيان في الكتاتيب، وصارت تسمى فيما بعد “بالعقيدة الصلاحية” وهي منظومة شعرًا حتى يسهل حفظها للصغار. ونذكر شيئا منها لبيان ما كان عليه مشاهير المتصوفة من الاعتقاد السليم ما يدلك على صفاء معتقدهم ورقي منهجهم.
يقول الناظم محمد بن هبة البرمكي وهو من على القرن السادس الهجري:
فهذه قواعد العقائد *** ذكرت منها معظم المقاصد
جمعتها للملك الأمين *** الناصر الغازي صلاح الدين
إلى أن يقول:
وصانع العالم فرد صمد *** ليس له في خلقه مساعد
جلّ عن الشريك الأولاد *** وعز عن نقيصة الأنداد
ويقول عن الله عز وجل:
وهو قديم ما له ابتداء *** ودائم ليس له انتهاء
لأن كل ما استقر قدمه *** فيستحيل في العقول عدمه
ويقول في تنزيه الله عن الحد والمكان:
وصانع العالم لا يحويه *** قطر [8] تعالى الله عن تشبيه
[8] القطر معناه الجهة
قد كان موجودا ولا مكانا *** وحكمه الآن على ما كانا
سبحانه جل عن المكان *** وعزّ عن تغير الزمان
فقد غلا وزاد في الغلو *** من خصه بجهة العلو
وحصر الصانع في السماء *** مبدعها والعرش فوق الماء
وأثبتوا لذاته التحيزا *** قد ضلّ ذو التشبيه فيما جوّزا
ويقول في تأويل ما تشابه من القرءان:
إعلم أصبت نهج الخلاص … وفزت بالتوحيد والإخلاص
أنّ الذي يؤمن بالرحمن … يثبت ما قد جاء في القرءان
من سائر الصفات والتنزيه … عن سنن التعطيل والتشبيه
من غير تجسيم ولا تكييف … لما أتى فيه ولا تحريف
فإن من كيّف شيئا منها … زاغ عن الحق وضلّ عنها
وهكذا ما جاء في الأخبار … عن النبي المصطفى المختار
فكل ما يُروى عن الآحاد … في النص في التجسيم والإلحاد
فاضرب به وجه الذي رواه … واقطع بأنه قد افتراه
فاحفظ حديث هذه الأصولا … ثم الزمنها ودع الفضولا
خاتمة في بيان العقيدة المنجية:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم، وبعد فهذا ما أملاه شيخنا المحقق والأصولي المدقق العلامة المحدث اللغوي النحوي المفسر الشيخ أبو عبدالرحمن عبد الله بن محمد بن يوسف القرشي العبدري نسبًا الأشعري الماتريدي عقيدة، الرفاعي طريقة، الهرري موطنًا، المعروف بالحبشي رضي الله عنه وأرضاه ونفعنا به في الدارين ببركة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ءامين.
قال رضي الله عنه:
فائدة: قال أهل الحق: العالم جوهر أو عرض، فالجوهر ما له حجم وهو قسمان قسم متناه في القلة بحيث لا ينقسم وقسم ينقسم ويسمى جسمًا، فالأول يسمى الجوهر الفرد الجزء الذي لا يتجزأ، وأما العرض فهو ما يقوم بالجوهر أي ما كان صفة له كحركة الجسم وسكونه وتحيّزه في حيّز، فأما الله تبارك وتعالى فهو غير ذلك كله، يستحيل أن يكون جوهرًا فردًا أو جوهرًا متألفًا بحيث صار جسمًا وهذا معنى قول بعضهم إنّ الله منزه عن الكمّية والكيفية، ولا شيء سوى الله تعالى كذلك، وأما قول أصحاب الهَيُولى إن ما لا كمية له ولا كيفية يقولون: لا يوجد، فهو باطل.
وقول أهل الحق إنّ الله منزه عن الحد هذا معناه لأن الله لو كان جوهرًا فردًا لكان الجوهر الفرد مثلًا له، ولو كان زائدًا على ذلك إلى حد أكبر الأجرام وهو العرش أو أزيد الى قدر يتناهى أو إلى قدر يفترض أنّه لا يتناهى للزم كونه مؤلفًا أي مركبًا والمؤلف يحتاج إلى المؤلّف والمحتاج إلى غيره حادث لا بد، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “من زعم أنّ إلهنا محدود فقد جهل الخالق المعبود” رواه أبو نُعيم، وقول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم زين العابدين: “إنّ الله ليس بمحدود” رواه بالإسناد المتّصل الإمام الحافظ اللغوي محمد مرتضى الزبيدي في إتحاف السادة المتقين، وقول أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي: “تعالى – أي الله- عن الحدود”، ولذلك استحال على الله أن يكون متصلًا بالعالم أو حالًا فيه أو مباينًا له بالمسافة، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره، وذلك لأنّ المخلوقات إما أن تكون متصلة ببعضها أو منفصلة بعضها عن بعض وكلا الوجهين مستحيل وصف الله به، وذلك لأنّه يلزم منه إثبات المثل لله، والله تبارك وتعالى نفى عن نفسه المثل على الإطلاق.
فإن قال الحشويّة المجسّمة المثبتون لله الحدّ: هذا نفي لوجود الله، يقال لهم أنتم بنيتم اعتقادكم على ما يصل إليه الوهم ولا عبرة بالوهم إنّما العبرة بالدليل الشرعي والعقل وهذا ما قرّرناه هو ما يقتضيه النقل والعقل، فإن قلتم لا نؤمن بما لا يصل إليه وهمنا فقد أنكرتم مخلوقًا لا يصل إليه وهمكم مما أثبته القرءان كقوله تعالى: {وجعل الظلمت والنور}، فالنور والظلام مخلوقان حادثان بشهادة القرءان، فهل يفهم تصوركم وقتًا لم يكن فيه نور ولا ظلام وقد ثبت ذلك بهذه الآية {وجعل الظلمت والنور} أي أنّ الله خلق الظلمات والنور بعد أن لم يكونا، أوجدهم بعد أن كانا معدومين وهذا لا تصل إليه أوهامنا ولا أوهامكم ولا يتطرّق إليه تصوّرنا ولا تصوركم، من يستطيع أن يتصور وقتًا لم يكن فيه نور ولا ظلام ومع ذلك يجب أن نؤمن أنّه كان وقت – أي مخلوق- لم يكن فيه نور ولا ظلام، لأنه بعد خلق الماء والعرش خلق الله النور والظلام، فأول ما خلق الله الماء ثم العرش فإذًا النور والظلام ما كانا إلا بعد وجود الماء والعرش، وليعلم أنّ ما جاز عليه الدخول والخروج فهو مخلوق لله الواحد الذي ليس كمثله شيء.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم. انتهى.