السبت مايو 18, 2024
  • إثبات تنزيه الله عن المكان والحدّ أي الحجم بطريق النقل عن السلف

    قال الإمام أبو حنيفة في «الفقه الأكبر» [(343)]: «والله واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *﴾ [سورة الإخلاص] لا يشبه شيئًا من خلقه ولا يشبهه شىءٌ من خلقه»، ثم قال [(344)]: «وهو شىءٌ لا كالأشياء. ومعنى الشىء [(345)] إثباته بلا جسم ولا عَرَض ولا حد له ولا ضد له ولا نِد له ولا مِثل له»، وقال أيضًا [(346)]: «لم يزل ولا يزال بأسمائه، لم يحدث له اسم ولا صفة» أي أن التغير والاختلاف في الأحوال يحدث في المخلوقين. «فمن قال إنها مخلوقة أو محدَثة أو توقَّفَ فيها أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى» [(347)].
    وقال في «الفقه الأكبر» [(348)]: «وصفاته كلُّها في الأزل بخلاف صفات المخلوقين». وقال أيضًا في «الفقه الأكبر» [(349)]: «ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته»، «ولكنَّ يده صفته بلا كيف» أي من غير أن تكون جارحة.
    وقال في «الفقه الأبسط» [(350)]: «ليست كأيدي خلقه ليست بجارحةٍ وهو خالق الأيدي ووجهه ليس كوجوه خلقه وهو خالق كل الوجوه».
    وقال في «الوصية» [(351)]: «وهو حافظ العرش وغير العرش من غير احتياج، فلو كان محتاجًا لَمَا قَدرَ على إيجاد العالم وتدبيره وحفظه كالمخلوقين، ولو كان في مكان محتاجًا للجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله».

    وقال في «الفقه الأبسط» [(352)]: «كان الله ولا مكان، كان قبل أن يخلق الخلق كان ولم يكن أينٌ ولا خلقٌ ولا شىء وهو خالق كل شىء» «فمن قال لا أعرف ربي أفي السماء أم في الأرض فهو كافر. كذا من قال إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أم في الأرض». وإنما كفَّر الإمام قائل هاتين العبارتين لأنه جعل الله تعالى مختصًّا بجهة وحَيّز، وكل ما هو مختصٌّ بالجهة والحيز فإنه محتاجٌ مُحدَث بالضرورة أي بلا شكّ. وليس مراده كما زعم المشبهة إثبات أنَّ السماء والعرش مكان لله تعالى بدليل كلامه السابق الصريح في نفي الجهة عن الله وهو قوله: «ولو كان في مكان محتاجًا للجلوس والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله». وأشار رضي الله عنه إلى إكفار من أطلق التشبيه والتَّحيُّز على الله كما قاله البياضي [(353)] واختار الإمام الأشعري ذلك فقال في كتاب «النوادر»: «من اعتقد أن الله جسمٌ فهو غير عارف بربه وإنه كافر به».
    وكيف يُنسب إلى الإمام أبي حنيفة القول بإثبات المكان لله وقد قال في كتابه «الوصيّة» [(354)]: «ولقاء الله تعالى لأهل الجنة حق بلا كيفية ولا تشبيه ولا جهة». وقال في «الفقه الأكبر» [(355)]: «يراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة».

    وقال في «الفقه الأكبر» [(356)]: «وليس قرب الله تعالى ولا بُعده من طريق المسافة وقصرها ولكن على معنى الكرامة والهوان. والمطيعُ قريب منه بلا كيف، والعاصي بعيد عنه بلا كيف، والقرب والبُعد والإقبال يقع على المناجي. وكذلك جواره تعالى في الجنة والوقوف بين يديه بلا كيف» اهـ. فبعد هذا البيان وضح أنَّ دعوى إثبات المكان لله تعالى أخذًا من كلام أبي حنيفة افتراءٌ عليه وتقويلٌ له ما لم يقل [(357)]. قال البيهقي في كتابه «الأسماء والصفات» [(358)] نقلًا عن الحافظ المحدث الفقيه أبي سليمان الخطابي [(359)]: والله تعالى لا يوصف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد وإنما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله تبارك وتعالى مُتَعال عنهما ﴿ … لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … *﴾ [سورة الشورى]».
    وقال نقلًا عن الأشعري [(360)]: «إن الله تعالى لا مكان له» وذكر أن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام، وقال [(361)] نقلًا عن الأشعري في قوله تعالى ﴿ … فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ … *﴾ [سورة النحل]: «لم يُرد به إتيانًا من حيث النُّقلة». ونقل عنه أنه قال في حديث النزول [(362)]: «إنه ليس حركة ولا نُقلة». وقال نقلاً عن أبي سليمان الخطابي رحمه الله [(363)]: «لا يتوجه على صفاتهيعني اللهكيفية ولا على أفعاله».
    وقال البيهقي [(364)] في ءاية ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *﴾ [سورة الفجر]: «والمجيء والنزول صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانتقال من حال إلى حال بل هما صفتان لله تعالى بلا تشبيه» اهـ. ونقل البيهقي [(365)] بإسناده عن الأوزاعي ومالك وسفيان والليث بن سعد أنهم سُئلوا عن هذه الأحاديث فقالوا: «أمِرُّوها كما جاءت بلا كيفية» ذكره في كتابه في المعتقد.

    فتبين أن مرادهم بقولهم بلا كيفية نفي الجلوس والاستقرار والحركة والأعضاء ونحو ذلك مما هو من صفات الأجسام أو الأعضاء. ولا يقصدون أنّ استواءه على العرش وإتيانَه له كيفية لا نعلمها نحن الله يعلمها بل المراد نفي الكيفيّة عنه ألبتة.
    وليعلم العاقل أن الجلوس كيفما كان افتراشًا أو تربعًا أو غيرهما فهو كيفية لأنه لا يخرج عن كونه من صفات الأجسام. وهكذا التحيز في المكان كيفية من كيفيات الأجسام، واللون والمماسة لجسم من الأجسام كيفية فهي منفيّةٌ عن الله.
    وقال الإمام أبو منصور الماتريدي رحمه الله [(366)]: «ثم القول بالكون على العرشوهو موضع بمعنى كونه بذاته أو في كل الأمكنةلا يَعدو من إحاطة ذلك به أو الاستواء به أو مجاوزته عنه وإحاطته به. فإن كان الأوّلَ فهو إذًا محدودٌ محاطٌ منقوصٌ عن الخلق إذ هو دونه» اهـ.
    قلنا: لو كان الله جالسًا على العرش إن كان مساويًا للعرش لا بد أن يكون مربعًا إن كان العرش مربعًا أو مثلثًا إن كان العرش مثلثًا أو مستديرًا إن كان العرش مستديرًا، وهذه صفات الحادث المخلوق كالشمس فإن شكلها الاستدارة فلا تستحق أن تكون إلهًا بل تحتاج إلى من خلقها على هذا الشكل. ثم قال الإمام أبو منصور [(367)]: «ولو جاز الوصف له بذاته بما يحيط به من الأمكنة لجاز بما يحيط به من الأوقات فيصير متناهيًا بذاته مُقصّرًا عن خلقه. وإن كان على الوجه الثاني فلو زِيدَ على الخلق لا ينقص أيضًا وفيه ما في الأول. وإن كان على الوجه الثالث فهو الأمر المكروه الدال على الحاجة وعلى التقصير من أن ينشئ ما لا يفضل عنه مع ما يُذم ذا من فعل الملوك أن لا يفضل عنهم من المعامد شىء. وبعد فإن في ذلك تجزئة بما كان بعضه في ذي أبعاض وبعضه يفضل عن ذلك. وذلك كلُّه وصف الخلائق والله يتعالى عن ذلك.

    وبعد فإنَّه ليس في الارتفاع إلى ما يعلو من المكان للجلوس أو القيامِ شرف ولا علو ولا وصف بالعظمة والكبرياء كمن يعلو السطوح أو الجبال إنه لا يستحق الرفعة على من دونه عند استواء الجوهر فلا يجوزُ صرف تأويل الآية إليها مع ما فيها من ذكر العظمة والجلال إذ ذكر في قوله تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ … *﴾ [سورة يونس] فدلَّك على تعظيم العرش أيِّ شىء كان من نورٍ أو جوهرٍ لا يبلغه علم الخلق» اهـ.


    ـ[343] شرح ملا علي القاري (ص/47).
    ـ[344] شرح ملا علي القاري (ص/57).
    ـ[345] شرح ملا علي القاري (67).
    ـ[346] إشارات المرام (ص/93).
    ـ[347] إشارات المرام (ص/195 – 196).
    ـ[348] إشارات المرام (ص/197، 200).
    ـ[349] إشارات المرام (ص/200).
    ـ[350] شرح الفقه الأكبر (ص/138).
    ـ[351] شرح الفقه الأكبر (ص/137).
    ـ[352] شرح الفقه الأكبر (ص/176 – 178).

    ـ[353] قال صباح التوحيد ومصباح التفريد علي بن أبي طالب: «كان الله ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان» رواه شهاب الدين الرملي، وقال: «إن الله تعالى خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته» رواه أبو منصور التميمي في كتاب الفرق بين الفرق (ص/333). وقال الشافعي: «من انتهض لمعرفة مدبّره فانتهى إلى موجود ينتهي إليه فكره فهو مشبّه، وإن اطمأنّ إلى العدم الصّرْف فهو معطّل وإن اطمأن إلى موجود واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحد». قال الزركشي (4/ 80 و82): وهذا معنى قول الصديق رضي الله عنه: «العجز عن درك الإدراك إدراك» وحكي عنه أنه قال: «سبحان من لم يجعل للخلقِ سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته» أي لا يُعرف معرفة إحاطة. اهـ
    ـ[354] الأسماء والصفات (ص/454 – 455).
    ـ[355] معالم السنن (4/ 305).
    ـ[356] الأسماء والصفات (ص/448).
    ـ[357] و [(1293)] الأسماء والصفات (ص/449).
    ـ[358] الأسماء والصفات (ص/453 – 454).
    ـ[359] الأسماء والصفات (ص/456).
    ـ[360] الاعتقاد (ص/44).
    ـ[361] التوحيد (ص/70).
    ـ[362] التوحيد (ص/70).
    ـ[363] إيضاح الدليل (ص/165).
    ـ[364] مشكل الحديث (ص/205).
    ـ[365] رواه النسائي في السنن الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة: باب ما يستحب من الاستغفار يوم الجمعة (6/ 124).
    ـ[366] حكاه عنه المفسّر القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرءان (4/ 39).
    ـ[367] شرح الإرشاد (ق/58 – 60)، مخطوط.