لقد افتُرِيَ على سيدنا إبراهيم أنه كذب والعياذ بالله عدة كذبات حقيقية على قومه، وذلك على زعمهم عندما قال بأنه سقيم، وعندما حطم أصنامهم وصيّرها جُذاذًا ونسب فعل ذلك إلى كبير الأصنام نسب تكسير الأصنام الصغار إلى كبيرهم، وعندما قال للملك حين أراد أن يأخذ منه زوجته سارة عَنْوَة إنها أختي، فما هو الجواب.
الجواب: أنّه لـمَّا رأى إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام أن قومه ما زالوا متعلقينَ بأوهامهم، متمسكين بعبادة أصنامهم، عَقَد النيةَ على أن يَكيدَ أصنامَهم ويفعلَ بها أمرًا يُقيمُ الحجةَ به عليهم لعلَّهم يُفيقونَ من غَفلتهِم ويَصحونَ من كَبْوَتِهِم، وكان من عادةِ قومِه أن يُقيموا لهم عيدًا، فلمَّا حلَّ عليهم عيدُهم وهمُّوا بالخروجِ إلى خارج بلدِهم دعَوْهُ لِيَخْرُجَ معهم إلى مَهْرَجانهم فأخبرَهم أنه سقيم لأنه أرادَ التخلُّفَ عنهم ليكسِرَ أصنامَهم ويُقيمَ الحجةَ عليهم، قال الله تعالى: { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 88 0 90]، ومعنى {إِنِّي سَقِيمٌ} سيلحَقُني المرض وليس كذبًا منه عليه السلام، إذ كانت تأتيه حُمّى تقلع عنه ثم تعود، ولـمَّا طالبه قومه ليخرج معهم كان وقت الحمّى. فلمَّا مضى قومُه ليحتفِلوا بعيدهم قال كما ورد في القرآن الكريم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، فرجَع إبراهيمُ إلى بيت الأصنام الذي كان قومُه يعبدونها فيه من دون الله، فإذا هو في بَهْوٍ عظيمٍ واسع وفيه صنمٌ كبير وإلى جانبه أصنامٌ صغيرة بعضُها إلى جنب بعض، وإذا هم قد صَنعوا لها طعامًا وضعوهُ أمامَ هذه الأصنام، فلمَّا نظرَ إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام إلى ما بينَ أيدي هذه الأصنام من الطعام الذي وضَعه قومُه قُربانًا لها ورأى سخافةَ عقولهِم، خاطبَ عليه السلام هذه الأصنام وقال لها على سبيل التَّهَكُّمِ([1]) والازدراء([2]):{أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91]، فعندما لم تجبه قال لها أيضًا على سبيل الاحتقار والإذلال: {مَالَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 92، 93]، ثمَّ أمسكَ بيده اليُمنى فأسًا وأخذَ يهوي على الأصنام يُكَسّرُها ويُحَطّمُ حِجارتَها، قال الله سبحانه وتعالى: {فَجَعلَهُمْ جُذَاذًا} [الأنبياء: 58]، ولم يزلْ كذلك حتى جعلَها كُلَّها حُطامًا إلا كبيرَ هذه الأصنام، فلم يحطّمْه قال تعالى: {إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58]، وعَلَّقَ الفأسَ في عنُقِهِ ليرجِعوا إليه فيُظهِرَ لهم أنها لا تنطِق ولا تعقِل ولا تدفَعُ عن نفسها ضررًا، وبذلك يُقيمُ سيدُنا إبراهيمُ عليه السلام الحجةَ على قومِهِ الكافرين الذين يعبُدونها على غيرِ بُرهانٍ ولا هُدى تقليدًا لآبائهم، ولـمَّـا رجَعَ قومُه من عيدهم ووَجدوا ما حلَّ بأصنامِهم بُهتوا واندهشوا وراعَهم ما رأَوا في أصنامهم، قال الله تعالى حكاية عنهم: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 59، 60] يعنون فتًى يسُبُّها ويعيبُها ويَستهزئ بها وهو الذي نظنُّ أنه صنعَ هذا وكسرّها، وبلغ ذلك الخبرُ الملكَ نُمرودَ الجبار ملكَ البلاد وحاكمَها وأشرافَ قومه، قال تعالى: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]، وأجمعوا على أن يحُضروا إبراهيمَ ويجَمعوا الناسَ ليشهدوا عليه ويَسمعوا كلامَه. وكان اجتماعُ الناسِ في هذا المكانِ الواحدِ مقصِدًا منتظرًا ومَطلَبًا متأكدًا لسيدنا إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام ليُقيمَ بمَرأى ومسمع الجميع الحجَّةَ على بُطلان ما هم عليه من عبادةِ الأصنام التي لا تخلق ضرًّا ولا نفعًا، واحتشدت الوفودُ وتكاثرت جُموعُ الكافرين كلٌّ يريدُ الاقتصِاصَ من إبراهيمَ نبيّ الله الذي أهانَ أصنامَهم واحتقَرَها، ثم جاؤوا بإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام إلى ذلك المحفلِ المشحون بالكفار أمامَ ملِكِهِم الجبارِ نمرود، فسألوه وقالوا ما أخبر الله به: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 62]، وهنا وجد نبيُّ الله إبراهيمُ الفرصةَ سانحة ليُقيمَ الحجَّةَ عليهم وليُظهرَ لهم سُخْفَ معتَقَدِهِم وبُطلان دينهم فقال ما أخبر الله: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]، وهذا إلزامٌ للحجة عليهم بأنَّ الأصنام جمادٌ لا تقدِر على النطُّق، وأنّ هذه الأصنام لا تستحقُّ العبادة فهي لا تخلق ضرًّا ولا نفعًا، ولا تُغني عنهم شيئًا.
وليعلم أنَّ قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ما أخبر الله عنه حيث قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] ليس كذِبًا حقيقيًّا؛ بل هو صِدقٌ من حيثُ الباطنُ والحقيقة، لأنَّ كبيرَ الأصنام هو الذي حملَه على الفتك بالأصنام الأخرى مِن شدةِ اغتياظهِ من هذا الصنمِ الكبير، فأسند الفعل إليه على سبيل المجاز العقلي وهو ضرب من الخطاب الكلاميّ كثير في الاستعمال فحوّل إسناد الفعل إلى من كان سببًا في حدوثه، وما ذاك إلا لمبالغتهم في تعظيمه بتجميل هيئته وصورته، فحملَه ذلك على أن يكسِرَ صِغارَ الأصنام ويُهينَ كبيرَها، فإنهم إذا تحقّقوا أن كبيرها – وهو أعظمها قدرًا ومكانة في قلوبهم وأبهاها منزلًا وصورة في عيونهم – لم يُحامِ عن باقي الأصنام ولم يدفع ضررًا قامت الحجة عليهم واستبان غيّهم وضلالهم، فيكونُ إسنادُ الفعلِ إلى الكبير إسنادًا مجازيًّا فلا كذب في ذلك، لأن الأنبياء يستحيل عليهِمُ الكذب، لأنَّ من صفاتِهِمُ الواجبةِ لهم الصدقَ فهم لا يكذبون.
وعاد المشركون إلى أنفسهم في ما بينهم بالملامة لأنهم تركوها من غير حافظ لها ولا حارس عندها، ثم عادوا فقالوا لإبراهيمَ عليه السلام ما أخبرَ الله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65]، أي: لقد علمتَ يا إبراهيمُ أن هذه الأصنامَ التي نعبدُها لا تنطِق فكيف تطلُب منا أن نسألها، فلمَّا أَقرُّوا على أنفسهم بأن أصنامَهُمُ التي اتخذوها آلهةً من دون الله عاجزةٌ عن الإصغاءِ والنطُق، واعترفوا أنها عاجزة لا تُدرِك ولا تقدِر ولا حياةَ لها، عند ذلك أقامَ إبراهيمُ عليه السلام الحجةَ عليهم وأفحَمهم، قال الله تعالى: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66، 67]، وقال لهم: {وَاللَّـهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]، عند ذلك غُلبوا على أمرهم وألزمهم نبيُّ الله إبراهيمُ الحجةَ عليهم فلم يجَدوا حُجَّةً يحتجون بها عليه، يقول تعالى: {وَتِلكَ حُجَّتُنا آتَيناها إِبراهيمَ عَلى قَومِهِ نَرفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكيمٌ عَليمٌ} [الأنعام: 83].
[1])) «التهكم: الاستهزاء».اهـ. القاموس المحيط، الفيروزأبادي، باب: الميم، فصل الهاء، (ص1511).
[2])) «الازدراء: الاحتقار والانتقاص».اهـ. لسان العرب، ابن منظور، باب: الواو والياء، فصل الزاي، (14/356).