الأحد نوفمبر 9, 2025

قال الله تعالى:
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}
[الملك: 16].

الشرح: قال الحافظ النووي الشافعي المتوفى سنة (676هـ) في شرح صحيح مسلم ما نصه([1]): «قال القاضي عياض المالكي: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله تعالى: «ءأمنتم من في السماء» ونحوه ليس على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم». اهـ.

وكذا قال المفسرون من أهل السُّنَّة والجماعة كفخر الدين الرازي المتوفى سنة (504هـ) في تفسيره([2]) وأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة (754هـ) في تفسيره البحر المحيط([3]) وأبي السعود الحنفي المتوفى سنة (1172هـ) في تفسيره([4]) والمفسر محمد بن أحمد القرطبي المتوفى سنة (671هـ) في تفسيره الجامع لأحكام القرءان([5]) وفي كتاب صفات الله تعالى وما ورد فيها من الآي والأحاديث([6]) والإمام أبي القاسم القشيري المتوفى سنة (465هـ) في تفسيره المسمى لطائف الإشارات([7]) وإمام أهل السُّنَّة والجماعة الإمام أبي منصور الماتريدي المتوفى سنة (333هـ) في تفسيره تأويلات أهل السُّنَّة([8]) وعصام الدين إسماعيل بن محمد الحنفي المتوفى سنة (1195هـ) في حاشية القونوي على تفسير البيضاوي([9]) وأبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي المتوفى سنة (1342هـ) في تفسيره المسمى روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني([10]) والشيخ محمد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري المتوفى سنة (977هـ) في تفسير الخطيب الشربيني([11]) والإمام الشيخ ميمون بن محمد النسفي المتوفى سنة (508هـ) في كتابه بحر الكلام([12]) والشيخ شهاب الدين أبي العباس بن يوسف بن محمد بن إبراهيم المعروف بالسمين الحلبي المتوفى سنة (756هـ) في كتابه الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون([13]) والمفسر محمد بن مصلح الدين مصطفى القوجوي الحنفي المتوفى سنة (951هـ) في حاشية محيي الدين شيخ زاده على تفسير البيضاوي([14]) وأبي الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري المتوفى سنة (468هـ) في كتابه الوسيط في تفسير القرآن المجيد([15]) وإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الشافعي المتوفى سنة (478هـ) في كتابه الشامل في أصول الدين([16]) وعبارة القرطبي في تفسيره لهذه الآية قال: «قال ابن عباس: قيل هو إشارة إلى الملائكة وقيل إلى جبريل وهو الموكل بالعذاب». اهـ.

وكن على ذكر بما نقله الإمام المفسر القرطبي أيضًا في كتابه «صفات الله تعالى وما ورد فيها من الآي والأحاديث»([17]) عن شيخه أبي العباس أحمد بن عمر الأنصاري المتوفى سنة (656هـ) أنه قال: «لا خلاف بين المسلمين قاطبة محدثهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ونظارهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السماء كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ليست على ظواهرها وأنها متأولة عند جميعهم».

ثم قال الإمام القرطبي: «قلت: وكذا قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} أي ءأمنتم خالق من في السماء». اهـ.

وعبارة الإمام الجويني كما في كتابه «الشامل في أصول الدين» هي([18]): «ومما يسألون عنه، قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وهذا يقرب وجه الكلام في ما سبق». ثم قال: «ويجوز أن يريد الله بقوله «من في السماء» ملكًا، مسلطًا على عذاب مستوجبِ العذاب وقد حمله بعض المتأولين على جبريل، فإنه الذي جعله الله جعل قرى قوم لوط عاليها سافلها، واقتلعها من حيث أراد الله، واحتملها على قادمة جناحه إلى أعناق السماء. وهو المعني بقوله تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]، وهو الموكل على القرون الخالية. وفي وجوه التأويل متسع.» اهـ.

وقد قال أبو الحسن علي بن أحمد النيسابوري في كتابه «الوسيط» في تفسيره لهذه الآية ما نصه: «لاستحالة أن يكون الله في مكان أو موصوفًا بجهة. وأهل المعاني يقولون: من في السماء هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل». اهـ.

حديث الجارية

وأما الحديث المعروف بحديث الجارية فقد قال فيه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم الجزء الخامس كتاب المساجد ومواضع الصَّلاة باب تحريم الكلام في الصَّلاة ونسخ ما كان من إباحته: «هذا الحديث من أحاديث الصّفات، وفيها مذهبان تقدَّم ذكرهما مرَّات في كتاب الإيمان: أحدهما: الإيمان به من غير خوض في معناه، مع اعتقاد أنَّ الله ليس كمثله شيء، وتنـزيهه عن سمات المخلوقات. والثَّاني: تأويله بما يليق به. فمن قال بهذا قال: كان المراد امتحانها هل هي موحِّدة تقرُّ بأنَّ الخالق المدبِّر الفعَّال هو الله وحده، وهو الَّذي إذا دعاه الدَّاعي استقبل السَّماء، كما إذا صلَّى المصلِّي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنَّه منحصر في السَّماء، كما أنَّه ليس منحصرًا في جهة الكعبة، بل ذلك لأنَّ السَّماء قبلة الدَّاعين، كما أنَّ الكعبة قبلة المصلِّين، أو هي من عبدة الأوثان العابدين للأوثان الَّتي بين أيديهم، فلمَّا قالت: في السَّماء علم أنَّها موحِّدة وليست عابدة للأوثان. قال القاضي عياض: لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدِّثهم ومتكلِّمهم ونظَّارهم ومقلِّدهم أنَّ الظَّواهر الواردة بذكر الله في السَّماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوّلة عند جميعهم» انتهى.

وقال الحافظ أبو العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي في كتابه المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ما نصه: «وقيل في تأويل هذا الحديث: إن النبي صلى الله عليه وسلم سألها بأين عن الرتبة المعنوية التي هي راجعة إلى جلاله تعالى وعظمته التي بها باين كلَّ مَن نُسبت إليه الإلهية وهذا كما يقال: أين الثريا من الثرى؟! والبصر من العمى؟! أي بعُدَ ما بينهما واختصت الثريا والبصر بالشرف والرفعة على هذا يكون قولها في السماء أي في غاية العلو والرفعة وهذا كما يقال: فلان في السماء ومناط الثريا». اهـ.

وقال الرازي أيضًا في كتابه أساس التقديس: «إن لفظ أين كما يجعل سؤالًا عن المكان فقد يجعل سؤالًا عن المنـزلة والدرجة يقال أين فلان من فلان فلعل السؤال كان عن المنـزلة وأشار بها إلى السماء أي هو رفيع القدر جدًّا».اهـ

وفي كتاب إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للإمام محمد ابن خليفة الأبي ما نصه: وقيل إنما سألها بأين عما تعتقده من عظمة الله تعالى، وإشارتها إلى السماء إخبار عن جلاله في نفسها، فقد قال القاضي عياض لم يختلف المسلمون في تأويل ما يوهم أنه تعالى في السماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}. اهـ. ومثله في كتاب مكمل إكمال الإكمال شرح صحيح مسلم للإمام محمد السنوسي الحسني.

وقال الإمام محمد بن أحمد السرخسي الحنفي المتوفى سنة 483 هـ في كتابه المبسوط([19]):

فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات: أن الرجل قال عليّ عتق رقبة مؤمنة، أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة، فلهذا امتحنها بالإيمان، مع أن في صحة ذلك الحديث كلامًا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين الله فأشارت إلى السماء) ولا نظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطلب من أحد أن يثبت لله تعالى جهة ولا مكانًا، ولا حجة لهم في الآية، لأن الكفر خبث من حيث الاعتقاد، والمصروف إلى الكفارة ليس هو الاعتقاد إنما المصروف إلى الكفارة المالية، ومن حيث المالية هو عيب يسير على شرف الزوال». اهـ.

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح سنن الترمذي: «أين الله؟ والمراد بالسؤال بها عنه تعالى المكانة فإن المكان يستحيل عليه. اهـ.

وقال الحافظ ابن الجوزي في دفع شبه التشبيه بعد رواية حديث معاوية بن الحكم: قلت: «قد ثبت عند العلماء أن الله تعالى لا يحويه السماء والأرض ولا تضمه الأقطار وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق عندها. اهـ.

وقال الباجي: لعلها تريد وصفه بالعلو وبذلك يوصف كل من شأنه العلو فيقال فلان في السماء بمعنى علو حاله ورفعته وشرفه. اهـ.

وقال البيضاوي: لم يرد به السؤال عن مكانه فإنه منـزه عنه والرسول أعلى من أن يسأل ذلك. اهـ.

وقال الإمام الحجة تقي الدين السبكي في رده على نونية ابن قيم الجوزية المسمى بالسيف الصقيل: أما القول فقوله صلى الله عليه وسلم للجارية: أين الله؟ قالت في السماء، وقد تكلم الناس عليه قديمًا وحديثًا والكلام عليه معروف ولا يقبله ذهن هذا الرجل لأنه مشَّاء على بدعة لا يقبل غيرها. اهـ.

قال الفخر الرازي: وأما عدم صحة الاحتجاج بحديث الجارية في إثبات المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنـزيه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات، قال الله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام/ 12] وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى، وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الأنعام: 13] وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى فهاتان الآيتان تدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنـزيه الله سبحانه عن المكان والزمان. اهـ.

وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المفسر في كتاب التذكار في أفضل الأذكار: لأن كل من في السموات والأرض وما فيهما خلق الله تعالى وملك له وإذا كان كذلك يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض إذ لو كان في شيء لكان محصورًا أو محدودًا ولو كان كذلك لكان محدثًا وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق وعلى هذه القاعدة قوله تعالى: وقوله عليه السلام للجارية: أين الله؟ قالت في السماء، ولم يُنكر عليها وما كان مثله ليس على ظاهره بل هو مؤول تأويلات صحيحة قد أبداها كثير من أهل العلم في كتبهم. اهـ.

وقال بعض العلماء إن الرواية الموافقة للأصول هي رواية مالك وفيها أن الرسول قال لها: «أتشهدين أن لا إلٰـه إلا الله» قالت: «نعم» قال: «أتشهدين أني رسول الله» قالت: «نعم». أخرجها الإمامان إماما أهل السُّنَّة والجماعة أحمد بن حنبل ومالك بن أنس رضي الله عنهما.

أما أحمد فأخرج عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمَةٍ سوداء فقال: «يا رسول الله إن عليَّ رقبه مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة فأعتقها» فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: «أتشهدين أن لا إلٰـه إلا الله» قالت: «نعم»، قال: «أتشهدين أني رسول الله» قالت: «نعم»، قال: «أتؤمنين بالبعث بعد الموت» قالت: «نعم»، قال: «أعتقها»، ورجاله رجال الصحيح.

وفي رواية لابن الجارود بلفظ: «أتشهدين أن لا إلٰـه إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، قال: اعتقها فإنها مؤمنة». وهي رواية صحيحة.

ومنها: ما رواه الإمام ابن حبان في صـحيحـه عن الشريد بن سويد الثقفي قال قلت: يا رسول الله إن أمي أوصت أن نعتق عنها رقبة وعندي جارية سوداء قال: ادع بها، فجاءت فقال: من ربك؟ قالت: الله، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة. ورواه أيضًا بهذا اللفظ النسائي في الصغرى وفي الكـبرى والإمام أحمد في مسنده والطبراني والبيهقي ورواه أيضًا بهذا اللفظ ابن خزيمة في كتابه الذي سماه كتاب التوحيد من طريق زياد بن الربيع عن بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن الشريد.

قال بعض العلماء: ظاهر هذا الحديث (الذي فيه حكم على الجارية بالإسلام لأنها قالت: في السماء) يخالف الحديث المتواتر الذي رواه خمسة عشر صحابيًّا. وهذا الحديث المتواتر الذي يعارض حديث الجارية قوله عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلٰـه إلا الله وأني رسول الله». هذا الحديث فيه أنّ الرسول لا يحكم بإسلام الشخص الذي يريد الدخول بالإسلام إلا بالشهادتين. لأن من أصول الشريعة أن الشخص لا يحكم له بقول: «الله في السماء «بالإسلام لأن هذا القول مشترك بين اليهود والنصارى وغيرهم وإنما الأصل المعروف في شريعة الله ما جاء في الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلٰـه إلا الله وأني رسول الله». اهـ. ولفظ رواية مالك: أتشهدين، موافق للأصول. لذا حكم الحافظ أبو بكر البيهقي وغيره باضطراب حديث الجارية هذا.

  • الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى قال في «الأسماء والصفات»: «وهذا صحيح قد أخرجه مسلم مقطعًا من حديث الأوزاعي وحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية؟ وأظنه إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه، وقد ذكرت في كتاب الظهار من السنن مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث([20]).
  • الحافظ البزار قال بعد أن روى الحديث من طريق من طرقه([21]): «وهذا قد روي نحوه بألفاظ مختلفة».
  • قال الإمام محمد بن أحمد السرخسي الحنفي المتوفى سنة 483هـ في كتابه المبسوط([22]):

فأما الحديث فقد ذكر في بعض الروايات: أن الرجل قال عليّ عتق رقبة مؤمنة، أو عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي أن عليه رقبة مؤمنة، فلهذا امتحنها بالإيمان، مع أن في صحة ذلك الحديث كلامًا». اهـ.

  • قال الإمام الحافظ تقي الدين السبكي رحمه الله تعالى في كتابه «السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل»([23]): «أقول: أما القول: فقوله للجارية «أين الله؟ قالت: في السماء «وقد تكلم الناس عليه قديمًا وحديثًا والكلام عليه معروف ولا يقبله ذهن هذا الرجل». اهـ.
  • الحافظ ابن حجر العسقلاني قال في «التلخيص الحبير» ما نصه([24]): «وفي اللفظ مخالفة كثيرة». اهـ.

قال الحافظ في «فتح الباري»([25]): «فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف؟ كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث…». اهـ.

  • المحدث الكوثري حكم بالاضطراب في تعليقه على «الأسماء والصفات» فقال([26]): «وقصة الجارية مذكورة في ما بأيدينا من نسخ مسلم لعلها زيدت في ما بعد إتمامًا للحديث، أو كانت نسخة المصنف ناقصة؟ وقد أشار المصنف – أي البيهقي – إلى اضطراب الحديث بقوله: (وقد ذكرت في كتاب الظهار – من السنن – مخالفة من خالف معاوية بن الحكم في لفظ الحديث)…». اهـ.

وفي تعليقه رحمه الله تعالى على كتاب الحافظ السبكي «السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل»([27]) توسع في مبحث اضطرابه.

  • المحدث عبد الله ابن الصديق ذكر في تعليقه على كتاب «التمهيد» للحافظ ابن عبد البر عن لفظ «أين الله «ما نصه([28]): «رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقد تصرف الرواة في ألفاظه، فروي بهذا اللفظ كما هنا وبلفظ «من ربك؟ «قالت: الله ربي. وبلفظ «أتشهدين ألّا إلٰـه إلا الله؟ «قالت: نعم. وقد استوعب تلك الألفاظ بأسانيدها الحافظ البيهقي في السنن الكبرى بحيث يجزم الواقف عليها أن اللفظ المذكور هنا مروي بالمعنى حسب فهم الراوي…».

فإن قيل: كيف تكون رواية مسلم: أين الله، فقالت: في السماء، إلى ءاخره مردودة مع إخراج مسلم له في كتابه وكل ما رواه مسلم موسوم بالصحة، فالجواب: أن عددًا من أحاديث مسلم ردها علماء الحديث وذكرها المحدثون في كتبهم كحديث أن الرسول قال لرجل: إن أبي وأباك في النار، وحديث إنه يعطي كل مسلم يوم القيامة فداء له من اليهود والنصارى، وكذلك حديث أنس: صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا لا يذكرون بسم الله الرحمـن الرحيم. فأمّا الأول فضعفّه الحافظ السيوطي، والثاني رده البخاري، والثالث ضعّفه الشافعي.

فائدة: تضعيف السيوطي في كتابه مسلك الحنفا في نجاة أبوَي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتضعيف الإمام الشافعي مذكور في كتب الحديث المطولة كشرح ألفية العراقي في علم الحديث (فتح المغيث) للعراقي نفسه، أما تضعيف البخاري ففي فتح الباري قال الحافظ ابن حجر ما نصه: وقد أخرج أصل الحديث مسلم من وجه آخر عن أبي بردة بلفظ إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديًّا أو نصرانيَّا فيقول هذا فداؤك من النار: قال البيهقي ومع ذلك فضعفه البخاري وقال الحديث في الشفاعة أصح. انتهى.

ولو صح حديث الجارية لم يكن معناه أن الله ساكن السماء كما توهم بعض الجهلة بل لكان معناه أن الله عالي القدر جدًّا، وعلى هذا المعنى أقر بعضهم صحة رواية مسلم هذه.

ونقول للمشبهة: لو كان الأمر كما تدعون من حمل ءآية {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]» على ظاهرها وحمل حديث الجارية على ظاهره لتناقض القرءان بعضه مع بعض والحديث بعضه مع بعض، فما تقولون في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]» فإمّا أن تجعلوا القرءان مناقضًا بعضه لبعض والحديث مناقضًا بعضه لبعض فهذا اعتراف بكفركم لأن القرءان ينـزه عن المناقضة وحديث الرسول كذلك، وإن أولتم ءآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] ولم تؤولوا ءآية الاستواء فهذا تحكّم أي قول بلا دليل.

وقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم في صلاته فإنه يناجي ربه فلا يبصقن في قبلته ولا عن يمينه فإن ربه بينه وبين قبلته»، وهذا الحديث أقوى إسنادًا من حديث الجارية.

وأخرج البخاري أيضًا عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنه معكم إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جده».

وفي مسند الإمام أحمد: «أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم ما تدعون أصم ولا غائبًا إنما تدعون سميعًا بصيرًا أن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته». اهـ.

فيقال للمعترض: إذا أخذت حديث الجارية على ظاهره وهذين الحديثين على ظاهرهما لَبَطَلَ زعمك أن الله في السماء وإن أَوَّلْت هذين الحديثين ولم تؤوِّل حديث الجارية فهذا تحكم – أي قول بلا دليل – ويصدق عليك قول الله في اليهود {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] وكذلك ماذا تقول في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] فإن أوَّلته فلِمَ لا تؤول حديث الجارية. وقد جاء في تفسير هذه الآية عن مجاهد تلميذ ابن عباس: «قِبلَةُ الله»، ففسر الوجه بالقبلة، أي لصلاة النفل في السفر على الراحلة.

وفي صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. فأكثروا الدعاء». اهـ.

ونختم هذا الجواب بما في كتاب «رد المحتار على الدر المختار» كتاب الصلاة باب شروط الصلاة.

(استقبال القبلة) حقيقة أو حكمًا كعاجز، والشرط حصوله لا طلبه، وهو شرط زائد للابتلاء قوله (للابتلاء) علة لمحذوف أي شرطه الله تعالى لاختبار المكلفين لأن فطرة المكلف المعتقد استحالة الجهة عليه تعالى تقتضي عدم التوجه في الصلاة إلى جهة مخصوصة فأمرهم على خلاف ما تقتضيه فطرتهم اختبارًا لهم هل يطيعون أو لا كما في البحر. قلت: وهذا كما ابتلى الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم حيث جعله قبلة لسجودهم. اهـ.

 

 

تأويل أهل الحق
لقوله عليه الصلاة والسلام ارحموا من في الأرض
يرحمكم من في السماء

معنى هذا الحديث الذي رواه الترمذي: «الراحِمونَ يرحمهم الرحمنُ ارْحموا مَنْ في الأرض يرحمكم من في السماء»، مفسَّر بالرواية الأخرى لهذا الحديث «ارحموا أهل الأرض يرحمْكُم أهلُ السّماءِ» رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم (بشواهده).

فهذه الرواية تُفسِّرُ الرواية الأولى لأنَّ خير ما يُفسر به الحديث الواردُ بالواردِ كما قال الحافظ العراقي في ألفيته: وخيرُ ما فسرته بالوارد.

ثم المرادُ بأهل السماء الملائكة، ذكر ذلك الحافظ العراقي في أماليهِ عقيبَ هذا الحديث، ونص عبارته: واستدلَّ بقوله: «أهل السماء» على أنَّ المرادَ بقوله تعالى في الآية: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الملائكة». اهـ، لأنه لا يقال لله «أهل السماء».

و«مَنْ» تصلحُ للمُفردِ وللجمعِ فلا حجةَ للمجسمة في الآية، ويقال مثلُ ذلك في الآية التي تليها وهي: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} فـ «من» في هذه الآية أيضًا أهل السماء، فإن الله يسلطُ على الكفار الملائكة إذا أرادَ أن يُحِلّ عليهم عقوبتَه في الدنيا كما أنهم في الآخرة هم الموكلون بتسليطِ العقوبة على الكفار لأنهم خزنةُ جهنم وهم يجرُّونَ عنقًا من جهنم إلى الموقفِ ليرتاعَ الكفارُ برؤيته.

وتلك الرواية التي أوردها الحافظ العراقي في أماليهِ هكذا لفظها: «الراحمون يرحمهم الرحيمُ ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء». وإسنادها حسن، ولا يجوز أن يقال عن الله أهل السماء فتُحمَلُ رواية «من في السماء» على أن المراد بها أهلُ السماء أي الملائكة، وكذلك يُحملُ قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] على الملائكة، ومعروفٌ في النحوِ إفرادُ ضميرِ الجمع، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42].

وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «ارحموا من في الأرض» معناه: بإرشادهم إلى الخير بتعليمهم أمور الدين الضرورية التي هي سببٌ لإنقاذهم من النار وبإطعامِ جائِعِهم وكِسوةِ عاريهم ونحو ذلك. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «يرحمكم أهل السماء»، فأهلُ السماء هم الملائكة وهم يرحمون من في الأرض أي أن الله يأمُرُهم بأن يستغفروا للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشُّورى: 5]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]، ويُنـزلون لهم المطر وينفحونهم بنفحاتِ خيرٍ ويُمِدونهم بمدد خيرٍ وبركة، ويحفظونهم على حسبِ ما يأمرهم الله تعالى.

قال العلامة السندي (ت 1138هـ) في حاشيته على مسند أحمد([29]): (يَرْحَمْكُمْ) بالجزم على جواب الأمر، ويمكن الرفع على الاستئناف بمنـزلة التعليل على معنى: يرحمكم إن رحمتم، (أَهْلُ السّمَاءِ) أي: سكان السماء من الملائكة الكرام، ورحمتهم بالاستغفار لهم وللدعاء، وتفسيره بالله بعيد». اهـ.

قلنا: كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا} [مريم: 93].

وقال الإمام النووي (ت 676): قال القاضي عياض المالكي (ت544): لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدِّثهم ومتكلِّمهم ونظَّارهم ومقلِّدهم أنَّ الظَّواهر الواردة بذكر الله في السَّماء كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16] ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوّلة عند جميعهم. اهـ. ذكره في كتابه شرح صحيح مسلم([30]).

قال الإمام القرطبي (ت671): في تفسيره في قول الله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}: وقيل: هو إشارة إلى الملائكة. وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. قلت: ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون. اهـ. ثم قال: والمراد بها توقيره وتنـزيهه عن السفل والتحت. ووصفه بالعلو والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام. وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي، ومنـزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته كما جعل الله الكعبة قبلة للدعاء والصلاة، ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان. ولا مكان له ولا زمان. وهو الآن على ما عليه كان». اهـ. انظر كتاب تفسير القرطبي([31]).

قال الإمام الرَّازيُّ (ت604): واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، والجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين، لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطًا به من جميع الجوانب، فيكون أصغر من السماء، والسماء أصغر من العرش بكثير، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئًا حقيرًا بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال، ولأنه تعالى قال: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} [الأنعام: 12] فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكًا لنفسه وهذا محال، فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل»([32]).

وقال أيضًا في كتابه التفسير الكبير([33]): «ولو تدبر الإنسان القرءان لوجده مملوءًا من عدم جواز كونه في مكان». اهـ.

ويردُّ على المجسمة بإيراد الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] فيقال لهم: هل تزعمون أن الله يُصعق، وكذا يُردُّ عليهم بإيراد الآية: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104].

ثمَّ لو كانَ الله ساكنَ السماءِ كما يزعمُ المجسمة لكانَ الله يزاحِمُ الملائكةَ وهذا مُحال، فقد ثبتَ في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه والبزار من حديث أبي ذر مرفوعًا: «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد» الحديث، وفي الحديث الذي أخرجه الطبراني من حديث جابر مرفوعًا: «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد» وللطبراني نحوه من حديث عائشة. وفيه دليلٌ على أنه يستحيل على الله أن يكونَ ساكنَ السماءِ وإلا لكانَ مساويًا للملائكةِ مزاحِمًا لهم.

فائدة: كِلاَ اللَّفْظَيْنِ (أَهْلُ السَّمَاءِ، مَنْ فِي السَّمَاءِ) مَحْفُوظَانِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي قَابُوسَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، مَرْفُوعًا.

فَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ – أَيْ سُفْيَانَ – بِلَفْظِ (أَهْلُ السَّمَاءِ)، وَهُمْ:

  • أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ.
  • عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ.
  • عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ.
  • مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ.
  • عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ.
  • إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الطَّالْقَانِيُّ.
  • مُحْمُودُ بْنُ آَدَمَ.

وَرَوَاهُ عَنْهُ جَمَاعَةٌ أَيْضًا بِلَفْظِ (مَنْ فِي السَّمَاءِ)، وَهُمْ:

  • أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
  • عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ.
  • مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ الْعَدَنِيُّ.
  • عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْحَكَمِ.
  • مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْقُرَشِيُّ.
  • خَالِدُ بْنُ نِزَارٍ.

وهذَا الحدِيثُ يُسمَّى «الـمُسَلسَلُ بِالأوَّلِـيَّةِ»، وهُو حديثٌ درجَ الـمُحدِّثون عَلَى الافْتِتاحِ بِهِ فِي سَمَاعِهِم وإسْمَاعِهِم لِمَا فِيهِ مِنْ تَسَلْسُلِ الأوَّلِـيَّة. وقد لَهجَتْ به ألسِنةُ الـمُحدِّثينَ (بِشَرْطِهِ) فافتتحُوا به مَجالِسَ التَّحدِيثِ والأمَالِي، وضمَّنُوه مَسمُوعَاتِهم وإجَازاتِهِم، بل صنَّفوا فيه الـمُصنفَات الكثِيرة، ونظمُوا فيه الأشْعَار الطَّريفة، واستخرجُوا منه الكثير من الفَوائد الإسناديَّة والمتنيَّة.

ومعنى مسلسل بالأولية أن يقول الراوي حدثنا فلان وهو أول حديث سمعته منه قال حدثنا فلان وهو أول حديث سمعته منه… إلى ءاخره.

وقد قال الحافِظُ ابن ناصر الدِّين الدِّمشقِيُّ في كتابِهِ «مجالِسُ في تفسِير قول اللَّه تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الـمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِم»: «هذا الحديثُ له ألقابٌ بحسَبِ الوجُوه الَّتي روينَاهُ منْهَا، فهُو حديثٌ صحيحٌ، حسنٌ، فردٌ، مُسلسلٌ من وجهين، مُعلٌّ من وجوهٍ، مُختلَفٌ في إسنادِهِ من وجُوهٍ، مرفُوعٌ، موقُوفٌ من وجْهٍ، مُنقطِعٌ على قولٍ مرجُوحٍ، مُعنعنٌ».

وقال في موضعٍ آخر: «هذا الحديث له ألقابٌ بحسَبِ طُرقِهِ الَّتي رويناها منه، فهو حديثٌ صحيحٌ، وحسنٌ، وضعيفُ الإسناد من وجه، وفردٌ، ومُعلٌّ من وجوهٍ، ومرفُوعٌ، وموقُوفٌ من وجْهٍ، ومُسلسلٌ بالأوَّليةِ: مقطُوعُ التسلسُلِ، وموصُول التسلسُلِ من غير انقطاعٍ، كما رويناهُ، ومُعنعنٌ، لقولِ سُفيانَ فيه: عن عمرِو بن دينار، عن أبي قابوسَ، عن عبداللَّه بن عَمرٍو».

تأويل حديث النزول والرد على الوهابية المجسمة

إن قال المجسم الوهابي أو غيره من الذين يعتقدون أن الله ذات يسكن ويتحرك دليلنا على ذلك حديث ينـزل ربُّنا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثُلُثُ الليلِ الآخرُ فيقولُ مَن يدعوني فاستجيبَ ومن يسألُني فأعطيَهُ ومن يستغفرُني فأغفِرَ لـه؟

قلنا:

الحديث صحيح، لكن لا يجوز تفسيره بالنزول الحسي من ذات الله تعالى لأنه يلزم على ذلك بشاعة ومحال وذلك لأن الليل والنهار وأجزاءهما كالنصف والثلث يختلف باختلاف البلدان فإن قلتم أن الله ينـزل بالنسبة لبلد واحدة كمكة فقط فمن أين هذا التخصيص ليس عندكم دليل وإن قلتم إنه بالنسبة لكل الدنيا فليل بلد نهار بلد ءاخر ونصف الليل في بلد يكون نصف النهار في بلد ءاخر فيلزم على معتقدكم أن يكون الله نازلًا وطالعًا كل ساعة من ساعات الليل والنهار وهذا ينافي قولكم إنه مختص بالعرش فبطل عليكم ذلك المعتقد، ثم إن العرش أكبر العوالم بحيث أن الكرسي بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة وأن السموات بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض وعلى هذا تكون سماء الدنيا بالنسبة للعرش أقل من خردلة ملقاة في فلاة فكيف تسع الله الذي هو في معتقدكم بقدر العرش أو أوسع من العرش، إن قلتم هو ينزل إلى السماء الدنيا وهي على حالها وهو على حاله فهذا محال وإن قلتم أن الله يصير أقل من قدر خردلة حتى تسعه السماء الدنيا فهذا أيضًا محال، وإن قلتم أن الكرسي والسموات تكون بقدر العرش أو أوسع منه، فمن أين الدليل على ذلك من القرءان أو الحديث؟

قال الإمام الحافظ الحجة أبو بكر بن فورك شيخ البيهقي رحمهما الله في كتابه مشكل الحديث وبيانه ما نصه: وقد روى لنا بعض أهل النقل هذا الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يؤيد هذا الباب وهو بضم الياء من ينـزل وذكر أنه ضبطه عمـن سمعه من الثقات الضابطين وإذا كان ذلك محفوظًا مضبوطًا كما قال فوجهه ظاهر. اهـ.

فهذه الرواية الصحيحة تـفسر رواية «ينـزل ربنا..».

لأن نزول الملائكة لما كان بأمر الله ليبلغوا عنه عبَّرَ الرسول عن ذلك بوحي من الله بعبارة «ينـزل ربنا»… ولذلك نظير في الـقرءان قال الله تعالى في حق ءادم وحواء: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22] فيه دليل على صـحـة رواية النسائي: إن الله يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول فيأمر مناديًا… فكما أن الله تعالى نسب نداء الـمَلَك لآدم وحواء إلى نفسه لكونه بأمره فكذلك صح إسنادُ نزول الـمَلَـك إلى السماء الدنيا ليبلغ عن الله: هل من داع فيستجيبَ الله لـه وهل من سائل فيعطى وهل من مستغفر فيغفر له الله.

وفي الآية أيضًا دليل على أن نداء الملك لبعض خلق الله بأمر الله يُسند إلى الله من غير أن يكون هناك صوت يخرج من الله، فمن هنا يؤخذ رد اعتراض بعض المجسمة رواية النسائي لحديث النـزول حيث إنه قال: إن هذه الرواية تستلزم حصول قول المـلك: هل من مستغفر فأغفر لـه وهل من داع فأستجيب له. فنقول كما أن الله جعل نداء الملك لآدم وحواء بأن الله يقول لكما: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين}.

كذلك يُحمـل حديـث النـزول على الرواية المشهورة على أن الله يأمر الملك بالنـزول إلى السـمـاء الدنيا ويبلغ عن الله بأن يقول: إن الله يقول لعباده الداعين والسائلين: من يدعوني فأستجيبَ له ومن يسألني فأعطيه إلى ءاخر ما ورد فيه وليس المعنى أن الملك يقول عن نفسه من يستغفرني فأغفر له ومن يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه.

ونظير هذا ما جاء في القرءان من قوله تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] معناه: فإذا قرأه جبريل عليك بأمرنا ومعلوم أنه ليس المعنى أن الله يقـرأ القرءان على رسول الله كما يقرأ المعلم على التلميذ فبـهذا ينـحل الإشكال الذي يخطر لبعض الناس والذي يورده ابن تيمية ومن نهج منهجه في التشبيه من وهابية وغيرهم. وقد قال رئيس القضاة الشافعية في مصر في زمانه بدر الدين ابن جماعة في إيضاح الدليل في قطع حجج أهل التعطيل.

اعلم أن النـزول الذي هو بانتقال من علو إلى سفل لا يجوز حمل الحديث عليه لوجوه:

الأول:

النـزول الحسي من صفات الأجسام والمحدثات ويحتاج إلى ثلاثة أجسام مُنتَقِلٍ ومُنتَقَلٍ عنه ومنتَقلٍ إليه وذلك على الله تعالى محال.

 

الثاني:

لو كان النـزول بذاته حقيقة لتجددت لـه في كل يوم وليلة حركات عديدة تستوعب الليل كله وتنقلات كثيرة لأن ثلث الليل يتجدد على أهل الأرض مع اللحظات شيئًا فشيئًا فيلزم انتقاله إلى السماء الدنيا ليلًا ونهارًا من قوم إلى قوم وعَوده إلى الـعرش في كل لحظة على قولهم ونـزوله بها إلى السماء الدنيا ولا يقول ذلك ذو لب وتحصيل.

الثالث:

أن القائل بأنه فوق العرش وأنه ملأه كيف تسعه السماء الدنيا وهي بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة فيلزم عليه أحد أمرين إما اتساع في السماء الدنيا كل ساعة حتى تسعه أو تضاؤل الذات المقدس عن ذلك حتى تسعه ونحن نقطع بانتفاء الأمرين. إذا ثبت ذلك فقد ذهب جماعة من السلف إلى السكوت عن المراد بذلك النـزول مع قطعهم بأن ما لا يليق بجلاله تعالى غير مراد وتنـزيهه عن الحركة والانتقال، وقسم من العلماء قالوا المراد بالنـزول نزول الملك بأمر الله لأنك تقول قطع الأمير يد اللص ولا يكون الأمير بنفسه قد أمـسك السكين وحز المكان إنما المعنى أن يد اللص قطعت بأمر الأمير فتقول قطع الأمير يد اللص وبنى الأمير بيتًا وقد لا يكون حمل حجرًا واحدًا فيه إنما معناه بُـني بأمره، كذلك ينـزل ربنا أي ينـزل الملك بأمر ربنا. اهـ.

قال الإمام القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} وخص الـسحَر بالذِّكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء – إلى أن قال – قلت أصح من هذا ما روى الأئمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ينـزل الله عزّ وجلّ إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر وفي رواية: حتى ينفجر الفجر لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرًا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلّ يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى صححه أبو محمد عبد الحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال وأن الأول مـن باب حذف المضاف أي ينـزل مَلك ربنا فيقول. وقد روي: يُـنْـزِل بضم الياء وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى. اهـ.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قوله: ينـزل ربنا إلى السماء الدنيا استدل به من أثبت الجهة وقال هي جهة العلو وأنكر ذلك الجمهور لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك.

وقد اختلف في معنى النـزول على أقوال: فمنـهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم ومنـهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة وهم الخوارج والمعتـزلة وهو مكابرة والعجب أنهم أولوا ما في القرءان من نحو ذلك وأنكروا ما في الحديث إما جهلًا وإما عنادًا، ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمنا به على طريق الإجمال منـزهًا الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمادين والأوزاعي والليث وغيرهم، ومنـهم من أوله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب، ومنهم من أفرط في التأويل حتى كاد أن يخرج إلى نوع من أنواع التحريف، ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريبًا مستعملًا في كلام العرب وبين ما يكون بعيدًا مهجورًا فأول في بعض وفـوض في بعـض وهو منقول عن مالك وجـزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد، قال البيهقي: وأسلمها الإيمان بلا كيف والسكوت عن المراد إلا أن يَـرد ذلك عن الصادق فيصار إليه، من الدليل على ذلك اتفاقـهم على أن التأويل المعين غير واجب فحينئذٍ التفويض أسلم. اهـ.

وقال البيهقي في السنن الكبرى ما نصه: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا محمد أحمد بن عبد الله المزني يقول: حديث النـزول قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه صحيحة وورد في التنـزيل ما يصدقه وهو قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] والـنـزول والمجيء صفتان منفيتان عن الله تعالى من طريق الحركة والانـتـقال من حال إلى حال بل هما صفتان من صفات الله تعالى بلا تشبيه جل الله تعالى عما تـقول المعطلة لصفاته والمشبهة بها علوًا كبيرًا. قلت: وكان أبو سليمان الخطابي رحمه الله يقول: إنما ينكر هذا وما أشبهه من الحديث من يقيس الأمور في ذلك بما يشاهده من النـزول الذي هو تدلٍّ من أعلى إلى أسفل وانتقال من فوق إلى تحت وهذه صفة الأجسام والأشباح فأما نـزول من لا تستولي عليه صفات الأجسام فإن هـذه المعاني غير متوهمة فيه وإنما هو خبر عن قدرتـه ورأفـته بعباده وعطفه عليهم واستـجابته دعاءهم ومغفرتـه لهم يفعل ما يشاء لا يتوجه على صفاته كيفية ولا على أفعاله كمية سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. اهـ.

وقال أبو سليمان الخطابي: إن الحركة والانتقال من نعوت الحدث وتعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. اهـ. وقال أيضًا في شرحه على سنن أبي داود ردًّا على من وصف الله بالحركة: والله سبحانه لا يوصـف بالحركة لأن الحركة والسكون يتعاقبان في محل واحد وإنما يـجوز أن يوصـف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون وكِلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين والله عزّ وجلّ مُـتـعالٍ عنهما ليس كمثله شيء. اهـ.

قال البيهقي أيضًا في الأسماء والصفات: وأما الإتيان والمجيء فعلى قول أبي الحسن الأشعري رضـي الله عنه يُحْدِثُ اللهُ تعالى يوم القيامة فعلًا يسميه إتيانًا ومجيئًا لا بأن يـتـحرك أو ينـتـقـل فإن الحركة والسكون والاستقرار من صفات الأجسام والله تعالى أحد صمد ليس كمثله شيء، وهذا كقوله عزّ وجلّ {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} ولم يُرد به إتيانًا من حيث النقلة وإنما أراد إحداث الفعل الذي به خرب بنيانهم وخرَّ عليهم السقف من فوقهم فسمى ذلك الفعل إتيانًا وهكذا قال في أخبار النـزول إن المراد به فعل يُحدثه الله عزّ وجلّ في سماء الدنيا كل ليلة يسميه نـزولًا بلا حركة ولا نقلة تعالى الله عن صفات المخلوقين. اهـ.

وقال الكرماني في شرح البخاري: ينـزل في بعضها يـتـنـزل فإن قلت هو سبحانه وتعالى منـزه عن الحركة والجهة والمكان قلت هو من المتشابهات فإما التفويض وإما التأويل بنـزول ملك الرحمة. اهـ.

وهذا التأويل أخذه أهل السُّنَّة من رواية النسائي

إن الله عزّ وجلّ يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى.

قال الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في كتاب لوامع الأنوار البهية شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية ما نصه: قال أهل التأويل إن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به كما تنسبه إلى من فعله وباشره بنفسه قالوا والمعنى هنا إن الله تعالى يأمر ملكًا بالنـزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره وقال بعضهم إن قوله: ينـزل راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته المقدس فإن النـزول كما يكون في الأجساد يكون في المعاني أو راجـع إلى الـمَلَك الذي ينـزل بأمره ونهيه تعالى، فإن حمل النـزول في الأحاديث على الجسم فتلك صفة المـلَك المبعوث بذلك وإن حمل على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل سمى ذلـك نـزولًا من مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة.

والحاصل: أن تأويله على وجهين إما بأن المراد ينـزل أمره أو الـمَلَك بأمره وإما أنه استـعارة بمعنى التلطف بالداعين والإجابة لهم ونحو ذلك كما يقال نزل البائع في سلعته إذا قارب المشتري بعدما باعده وأمكنه منها بعد منعه، والمعنى هنا أن القرب في هذا الوقت أقرب إلى رحمة الله منه في غيره من الأوقات وأنه تعالى يُقبِلُ عليهم بالتحنن والعطف في هذا الوقت بما يُلقيه في قلوبـهم من التنبيه والتذكير الباعِثَين لهم على الطاعة.

وقد حكى ابن فورك أن بعض المشايخ ضبط رواية البخاري بضم أوله على حذف المفعول أي يُنـزل ملكًا قالوا ويقويه ما روى النسائي وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عزّ وجلذ يُمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديًا يقول هل من داع يستجاب له هل من مستغفر يغفر له هل من سائل يعطى قال القرطبي صححه عبد الحق، قالوا: وهذا يرفع الإشكال ويُـزيل كل احتمال والسُّنَّة يُفسر بعضها بعضًا وكذا الآيات، قالوا: ولا سبيل إلى حمله على صفات الذات المقدس فإن الـحديـث فيه التصريح بتجدد النـزول واختصاصه ببعض الأوقات والساعات وصفات الرب جل شأنه يجب اتصافها بالقدم وتنـزيهها عن التجدد والحدوث، قالوا: وكل ما لم يكن فكان أو لم يثبت فثبت من أوصافه تعالى فهو من قبيل صفة الأفعال، قالوا: فالنـزول والاستواء من صفات الأفعال. اهـ.

قال الحافظ النووي في شرحه على مسلم عند قوله ينـزل ربنا… الحديث، هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان مشهوران للعلماء سبق إيضاحهما في كتاب الإيمان ومختصرهما أن أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا يتكلم في تأويلها مع اعتقاد تـنـزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانـتـقـال والحركات وسائر سمات الخلق.

والثاني:

مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي هنا عن مالك والأوزاعي أنها تـتـأول على ما يليق بها بحسب مواطنها فعلى هذا تأولوا هذا الـحديـث تأويلين: أحدهما: تأويل مالك بن أنس وغيره معناه تـنـزل رحمته وأمره وملائكته كما يقال: فعل السلطان كذا إذا فعله بأمره.

والثاني: أنه على الاستـعارة ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف. اهـ.

وقال البيهقي في الأسماء والصفات: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو بكر محمد بن أحمـد بن بالويه ثنا محمد بن بشر بن مطر ثنا الهيثم بن خارجة ثنا الوليد بن مسلم قال سئل الأوزاعي ومالك وسفيان الثوري والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي جاءت في التشبيه فقالوا أمروها كما جاءت بلا كيفية. اهـ.

وقال القاضي ابن العربي في العارضة في شرحه على الترمذي: واختلف الناس في هذا الحديـث وأمثاله على ثلاثة أقوال فمنهم من رده لأنه خبر واحد ورد بما لا يجوز ظاهره على الله وهم المبتدعة ومنهم من قبله وأمرَّه كما جاء ولم يتأوّلـه ولا تكلم فيه مع اعتقاده أن الله ليس كمثله شيء ومنهم من تأولـه وفسره وبه أقول لأنه معنى قريب عربي فصيح، أما إنه قد تعدى إليه قوم ليسوا من أهل العلم بالتفسير فـتـعدوا عليه بالقول بالتكثير قالوا في هذا الحديث دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات قلنا هذا جهل عظيم وإنما قال ينـزل إلى السماء ولم يقل في هذا الحديث من أين ينـزل ولا كيف ينـزل فأما قوله ينـزل فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته بل ذلك عبارة عن مَلَكه الذي ينـزل بأمره ونهيه، والنـزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني فإن حـملته في الحديث على الحسي فتلك صفة الـمَلَك المبعوث بذلك وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم فعل فيسمى ذلك نـزولًا عن مرتبة إلى مرتبة فهي عربية صحيحة. اهـ.

 

 

([1]) صحيح مسلم (الجزء الخامس ص24 طبعة دار الكتاب العربي).

([2]) تفسير الرازي (30/99).

([3]) البحر المحيط (10/226).

([4]) تفسير الحنفي لا(9/7).

([5]) الجامع لأحكام القرءان (17/215).

([6]) صفات الله تعالى وما ورد فيها من الآي والأحاديث (ص153).

([7]) لطائف الإشارات (3/339).

([8]) تأويلات أهل السُّنَّة (10/117).

([9]) حاشية القونوي على تفسير البيضاوي (19/20).

([10]) المسمى روح المعاني في تفسير القرءان العظيم والسبع المثاني (15/17).

([11]) تفسير الخطير الشربيني (4/376).

([12]) بحر الكلام (ص121).

([13]) الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون (6/345).

([14]) تفسير البيضاوي (8/280).

([15]) الوسيط في تفسير القرءان المجيد (4/329).

([16]) الشامل في أصول الدين (ص319).

([17]) صفات الله تعالى وما ورد فيها من الآي والأحاديث (دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1422هـ ص153).

([18]) الشامل في أصول الدين (دار الكتب العلمية الطبعة الأولى ص319).

([19]) المبسوط (المجلد الرابع الجزء 7، تابع كتاب الطلاق، باب: العتق في الظهار).

([20]) انظر السنن الكبرى (7/388).

([21]) كما في كشف الأستار (1/14).

([22]) المبسوط (المجلد الرابع الجزء 7، تابع كتاب الطلاق، باب: العتق في الظهار).

([23]) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل (ص94).

([24]) التلخيص الحبير (3/223).

([25]) فتح الباري (1/221).

([26]) الأسماء والصفات (ص422).

([27]) السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل (ص94).

([28]) التمهيد (7/135).

([29]) مسند أحمد (4/297).

([30]) شرح صحيح مسلم (5/22).

([31]) تفسير القرطبي (المجلد 9 الجزء 18 صحيفة 141).

([32]) انظر: كتاب التفسير الكبير (ج15 جزء 30 ص61).

([33]) التفسير الكبير (المجلد 13 الجزء 25 الصحيفة رقم 194).