الجمعة أكتوبر 25, 2024

أقوال الإمام أبي حنيفة([1]) رضي الله عنه (ت 150هـ)

قال الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيّ([2]) رضي الله عنه: «وصفاته كلّها بخلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كَعِلْمِنا، يقدِر لا كَقُدرتنا، يرى لا كرؤيتنا، يتكلّم لا ككلامنا، ويسمع لا كسمعنا، نحن نتكلّم بالآلات والحروف، والله تعالى يتكلّم بلا حروف ولا آلة، والحروف مخلوقة، وكلام الله تعالى غير مخلوق، وهو ـ أي الله ـ شىء لا كالأشياء، ومعنى الشىء إثباته تعالى بلا جسم ولا جوهر ولا عَرَض ولا حدَّ له ولا نِدَّ له ولا مثل له، وله يد ووجه ونَفْسٌ([3]) كما ذكره الله تعالى في القرآن، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنَّفْس، فهو له صفة بلا كيف» اهـ. فهذا نص صريح من الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في تنزيه الله ذاتًا وصفاتٍ. وهذا البيان ليس شيئًا جديدًا نحن ابتدعناه، بل قاله السلف الصالح والإمام أبو حنيفة رضي الله عنه من أئمتهم ثم قوله: «نحن نتكلّم بالآلات والحروف» معناه بعض الحروف تخرج من الشفة وبعضها من الحلق وبعضها من طرف اللسان، لأن الحروف _ كما ذكر أئمة القراءات والتجويد واللغة _ لها مخارج متعددة. والذي يقول: الله يتكلَّم بالحرف والصوت جعله كخلقه، فالذي يظنّ أنّ الله يتكلّم ثم يسكت، ثم يتكلّم ثم يسكت أو يظنّ أنّ الله علم أشياء ثم علم أشياء ثم علم أشياء بعد ذلك، يكون جعل الله مثل خلقه، أي جعل الله حادثًا. والله لا تقوم به صفة حادثة، قال الإمام أبو حنيفة([4]): «من اعتقد أنّه ـ أي الله ـ تقوم به صفة حادثة أو شكّ أو توقَّف فهو كافر» اهـ. فالقرآن بمعنى اللفظ المنزل نقول عنه «كلام الله» لا بمعنى أنّ الله قرأه بالحرف والصوت، بل نقول عنه «كلام الله» لأنه عبارة عن كلام الله الذاتي الأزليّ الذي ليس حرفًا ولا صوتًا، كما إذا قلنا لفظ الجلالة «الله»، نكون قد ذكرنا الله بالحرف والصوت، لكن ذات الله الذي نعبده شىء لا كالأشياء.

وليعلم أنّ كلام الله كلام واحد ليس متجزّئًا وليس له أبعاض، هو كلام واحد. كلام الله الأزليّ الأبديّ الذي ليس حرفًا ولا صوتًا لم يسمعه في الدنيا من البشر إلا سيدنا موسى عليه السلام وسيدنا محمد ﷺ من بين الأنبياء كلهم، أما في الآخرة فيسمعه كلّ البشر والجنّ، كلّهم يسمعون ذلك الكلام الذي ليس حرفًا ولا صوتًا. سيّدنا موسى وسيدنا محمد عليهما السلام سمعا كلام الله الذي ليس حرفًا ولا صوتًا وليس له ابتِداء ولا انتهاء. والذي يعتقد أنَّ كلام الله حرف وصوت فليس مؤمنًا، لأنه ليس عارفًا بالله.

وأما قول رسول الله ﷺ([5]): «إِنَّ اللهَ تعالَى فَرضَ فرائِضَ فلا تُضَيّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُماتٍ فلا تنتهِكُوهَا، وحدَّ حدُودًا فلا تعْتدوها، وَسَكَتَ عن أشياءَ غيرَ نسيانٍ فلا تبحثُوا عنهَا». فليس معناه أن الله يسكت كما تسكت المخلوقات عن الكلام، إنما المعنى أنَّ الله ما أوردها في القرآن ولا أنزلها في شريعة الرسول ﷺ، وليس معنى «سَكَتَ» أنَّ الله يجوز عليه السكوت، بل هو متكلّم أزلًا وأبدًا لأنّ كلامه ليس حرفًا ولا يتخلّله انقطاع. فلا يتوهمنَّ متوهم من لفظ «سَكَتَ» الوارد في هذا الحديثِ أنّ الله تكلّم بأشياء ثم سكت ثم تكلّم ثم سكت، فإنه لو كان الله يتكلم ثم يسكت ثم يتكلم ثم يسكت لكان مثلنا، ولا يجوز عقلًا ولا شرعًا أن يكون الخالقُ مثل خَلقِه وإلا لجاز عليه ما يجوز على الحادثات، لأن الحادثات _ كما قرَّر علماء الكلام _
يجوز عليها ما يجوز على بعضها.

كذلك قدرة الله تعالى قدرة واحدة ليست كقدرتنا، نحن نقدر على شىء ثم نقدر على شىء آخر، وقد تضعف قدرتنا وقد تقوى. أما الله فقادر على كل شىء بقدرة واحدة أزليّة أبديّة. وكذلك له سبحانه مشيئة واحدة ليس له مشيئات متعددة كالخلق. فالمخلوق يشاء شيئًا ثم يشاء شيئًا ثم يشاء شيئًا، أما الله فليس كذلك، فالله شاء وجود كل ما دخل في الوجود وما سيدخل في ما بعد بمشيئة واحدة، كل ذلك شاءه بمشيئة واحدة.

وكذلك عِلمُ الله عِلمٌ واحد دائم ليس شيئًا له أجزاء، فعلم الله لا يزيد ولا ينقص، بل علم شامل لكل شىء. ليس له ابتداء ولا انتهاء، يعلم به كل شىء. علمه ليس كعلمنا، فعلمُنا حادث وقدرتنا حادثة، أول ما نخرج من بطون أمهاتنا نخرج لا نعلم شيئًا، ثم يحصل لنا بعد ذلك علم شىء ثم شىء آخر ثم شىء آخر وهكذا. أما علم الله تعالى فواحد شامل لكل شىء لا يزيد ولا ينقص. هذا العالَمُ كله خلقه الله بقدرة واحدة وبعلم واحد عَلِمَهُ وبمشيئة واحدة شاءه.

وقال الإمام أبو حنيفة([6]) رضي الله عنه كذلك: «وليس قُرْبُ الله تعالى ولا بُعْدُهُ من طريق طول المسافة وقِصَرِها، ولكن على معنى الكرامة والهوان، ولكن المطيع قريبٌ منه بلا كيف والعاصي بعيد عنه بلا كيف، والقرب والبُعد والإقبال يقع على الـمُنَاجي» اهـ.

وقال رضي الله عنه أيضًا([7]): «ونَصِفُهُ ـ أي الله تعالى ـ كما وصف نفسه: أحد صمد([8])، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد([9])، حيٌّ قيّوم قادر سميع بصير عالم، يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ (الفتح) ليست كأيدي خلقه وليست جارحة وهو خالق الأيادي، ووجهه([10]) ليس كوجوه خَلْقِهِ وهو خالق كلّ الوجوه، ونفسه ليست كنفس خلقه وهو خالق كل النفوس، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {11} (الشورى)» اهـ.

وقال ملّا علي القاري([11]) في شرح الفقه الأكبر لأبي حنيفة([12]): «بلا جسم ولا جوهر ولا عَرَض، أي في اعتبار صفاته ـ أي الله ـ لأن الجسم متركّب ومتحيّز وذلك أمارة الحدوث، والجوهر متحيّز وجزء لا يتجزّأ من الجسم، والعَرَض كلّ موجود يحدث في الجواهر والأجسام، وهو ـ أي العَرَض ـ قائم بغيره لا بذاته كالألوان والأكوان من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وكالطعوم والروائح، والله تعالى منزّه عن ذلك. وحاصله أن العالَمَ أعيان وأعراض، فالأعيان ما لها قيام بذاتها، وهو إما مركّب وهو الجسم أو غير مركّب كالجوهر وهو الذي لا يتجزّأ، والله سبحانه منزّه عن ذلك كلّه» اهـ. والأعيانُ هي الأشياء التي لها حجمٌ، إن كانت صغيرة كالذَّرَّة أو أصغر حجم خلقه الله وهو الجزء الذي لا يتجزأ لكونه في منتهى القِلة، أو كبيرة كالعرش الذي هو أكبر المخلوقات حجمًا وأوسعها مِساحةً، والعَرَضُ ما لا يقوم بذاته بل بغيره، والأعيان لا تخلو من الأعراض كالحركة والسكون وهذا أمر ظاهر مُدرَك بالبديهة.

ونقل ملّا علي القاري قول الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه([13]): «والله تعالى يُرى في الآخرة، ويراه المؤمنون وهم في الجنة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة» اهـ. فهذا نفي للجهة والمكان عن الله تعالى.

وقال الإمام أبو حنيفة([14]) أيضًا: «ولقاءُ الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا جـهـة حقٌّ» اهـ.

فهذه جملة من كلام هذا الإمام الكبير من زمن السلف الصالح تفيد أن هذا العلم وهذا الاعتقاد ليس جديدًا، إنما هو منقول عن السلف الصالح أهل السنة والجماعة، فلا عبرة بمن يدّعي أن هذا العلم محدَثٌ مبتدع، بل هي العقيدة التي تناقلها الخلف عن السلف بحمد الله.

[1] ) الإمام النعمان بن ثابت التيميّ الكوفيّ، ت 150هـ، أبو حنيفة، الفقيه المجتهد المحقّق، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المعتبرة عند أهل السّنة. قيل: أصله من أبناء فارس. ولد ونشأ بالكوفة، وكان يبيع الخَزّ (وهو نوع من النسيج) ويطلب العلم في صباه، ثم انقطع للتدريس والإفتاء. وحمله عمر بن هبيرة أمير العراقين على القضاء، فامتنع وَرَعًا، ثم حمله أبو جعفر المنصور العباسيّ بعد ذلك على القضاء ببغداد، فأبى، فحلف عليه ليفعلن، فحلف أبو حنيفة لا يفعل، فحبسه إلى أن مات، قال ابن خلكان: «هذا هو الصحيح». كان قويّ الحجة، من أحسن الناس منطقًا، وكان كريمًا في أخلاقه جَوَادًا حسن المنطق والصورة، جهوريّ الصوت، إذا حدّث انطلق في القول وكان لكلامه دويّ، وعن الإمام الشافعيّ رضي الله عنه: «الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة» اهـ. له: «مسند» في الحديث جمعه تلاميذه، و«المخارج في الفقه» صغير رواه عنه تلميذه أبو يوسف، و«رسالة الفقه الأكبر» ومن رسائله «الفقه الأبسط» و«الوصية» و«العالم والمتعلم». الأعلام، الزركلي، 8/36.

 

[2] ) الفقه الأكبر، أبو حنيفة، ص2.

 

[3] ) قال الله تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ {116} (المائدة)، قال المفسرون: أي تعلم ما في غيبـي ولا أعلم ما في غيبك. وقيل: المعنى تعلم ما لا أعلم ولا أعلم ما تعلم. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، 4/58. وليس المعنى أن الله له نَفْس بمعنى الروح، بل الله هو خالق الروح وخالق الجسد فليس روحًا وليس جسدًا.

 

[4] ) شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص47.

 

[5] ) سنن الدارقطني، الدارقطني، 5/326.

 

[6] ) شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص 176، 178.

 

[7] ) الشرح الميسّر على الفقهين الأبسط والأكبر، أبو حنيفة، 1/159.

 

[8] ) الصمد في حق الله معناه الذي تفتقر إليه جميع المخلوقات، مع استغنائه عن كلّ موجود، والذي يُقصد عند الشدّة بجميع أنواعها ولا يَجتلب بخلقه نفعًا لنفسه ولا يدفع بهم عن نفسه ضرًّا.

 

[9] ) أي لم يكن له شبيه ولا عِدْل- بكسر العين وهو المثل- ولا نظير له بوجه من الوجوه.

 

[10] ) ورد في القرآن إطلاق الوجه على الله بمعنى الذات كقوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ {27} (الرحمن)، وهنا يتعيّن تفسيره بالذات لأنه ورد مرفوعًا موصوفًا بـ: ﭽ  ﮇ  ﮈ  ﮉﮊﭼ(الرحمن)، والذات المقدّس هو الموصوف بالجلال والإكرام. الاعتقاد والهداية، البيهقيّ، ص42.

 

[11] ) علي بن سلطان محمد، نور الدين الملا الهروي القاري ت 1014هـ، فقيه حنفي من صدور العلم في عصره. ولد في هراة وسكن مكة وتوفي بها. صنف كتبًا كثيرة منها: «تفسير القرآن»، و«الأثمار الجنية في أسماء الحنفية»، و«سيرة الشيخ عبد القادر الجيلاني» رسالة. الأعلام، الزركلي، 5/12.

 

[12] ) شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص 65.

 

[13] ) ذكره الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر. شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، ص 136، 137.

 

[14] ) الوصية، أبو حنيفة، ص4. ونقله ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر، ص 138.