أبو بكر الصديق
أَبُوْ بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ
أَوَّلُ الـخُلَفَاءِ الرَّاشِدِيْنَ
تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ أَبُوْ بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرٍ القُرَشِيُّ، وَقِيْلَ كَانَ اسْمُهُ فِي الـجَاهِلِيَّةِ “عَبْدَ الكَعْبَةِ” فَسَمَّاهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَلْتَقِي نَسَبُهُ هُوَ وَرَسُوْلُ اللهِ فِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ، وَأُمُّهُ أُمُّ الخَيْرِ سَلْمَى [وَقِيْلَ لَيْلَى] بِنْتُ صَخْرٍ بْنِ عَامِرٍ وَهِيَ بِنْتُ عَمِّ أَبِي قُحَافَةَ.
وُلِدَ بَعْدَ عَامِ الفِيْلِ بِنَحْوِ ثَلَاثِ سِنِيْنَ، كَانَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ نَحِيْفَ الجِسْمِ خَفِيْفَ العَارِضَيْنِ مَعْرُوْقَ الوَجْهِ (أَيْ قَلِيْلَ اللَّحْمِ) نَاتِئَ الجَبْهَةِ، وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: “كَانَ أَبُوْ بَكْرٍ يَخْضِبُ بِالحَنَّاءِ وَالكَتْمِ (نَبْتٌ يُصْبَغُ بِهِ)”.
وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَعُلَمَائِهِمْ، حَلِيْمًا وَقُوْرًا مِقْدَامًا شُجَاعًا صَابِرًا كَرِيْمًا رَؤُوْفًا، هُوَ أَجْوَدُ الصَّحَابَةِ وَأَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ وَعُمُرُهُ سَبْعٌ وَثَلَاثُوْنَ سَنَةً عَاشَ فِي الإِسْلَامِ سِتًّا وَعِشْرِيْنَ سَنَةً. وَبُوْيِعَ لَهُ بِالـخِلَافَةِ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّنَةِ الحَادِيَةَ عَشَرَ مِنَ الـهِجْرَةِ وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافَتِهِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” فِي تَسْمِيَتِهِ بِعَتِيْقٍ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّـهَا سُئِلَتْ لِـمَ سُمِّيَ أَبُوْ بَكْرٍ عَتِيْقًا، فَقَالَتْ نَظَرَ إِلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “هَذَا عَتِيْقُ اللهِ مِنَ النَّارِ”، وَالثَّانِي أَنَّهُ اسْمٌ سَمَّتْهُ بِهِ أُمُّهُ قَالَهُ مُوْسَى بْنُ طَلْحَةَ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ سُمِّيَ بِهِ لِـجَمَالِ وَجْهِهِ قَالَهُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ.
وَسَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدِّيْقًا وَقَالَ: “يَكُوْنُ بَعْدِي اثْنَا عَشَرَ خَلِيْفَةً أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ لَا يَلْبَثُ إِلَّا قَلِيْلًا”، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَحْلِفُ بِاللهِ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ اسْمَ أَبِي بَكْرٍ مِنَ السَّمَاءِ صِدِّيْقٌ. ا.هـ.
وَأَخْرَجَ الـحَاكِمُ فِي الـمُسْتَدْرَكِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا(أَنَّهَا) قَالَتْ: جَاءَ الـمُشْرِكُوْنَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوْا هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الـمَقْدِسِ؟* قَالَ أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟* قَالُوْا: نَعَمْ* فَقَالَ: صَدَقَ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ بِخَبَرِ السَّمَاءِ غَدْوَةً وَرَوْحَةً، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الصِّدِّيْقَ. (ذَكَرَهُ السُّيُوْطِيُّ فِي تَارِيْخِ الخُلَفَاءِ)
قِصَّةُ إِسْلَامِهِ:
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الجَوْزِيِّ فِي كِتَابِ “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَإِبْرَاهِيْمُ النَّخَعِيُّ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُوْ بَكْرٍ، وَقَالَ يُوْسُفُ بْنُ يَعْقُوْبَ بْنِ الـمَاجَشُوْنَ: أَدْرَكْتُ أَبِي وَمَشْيَخَتَنَا مُحَمَّدَ بْنَ الـمُنْكَدِرِ وَرَبِيْعَةَ بْنَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَصَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ وَسَعْدَ بْنَ إِبْرَاهِيْمَ وَعُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَخْنَسِيَّ وَهُمْ لَا يَشُكُّوْنَ أَنَّ أَوَّلَ القَوْمِ إِسْلَامًا أَبُوْ بَكْرٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ(أَنَّهُ) قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَلَّى أَبُوْ بَكْرٍ رَحِمَهُ اللهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ حَسَّانَ:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ***** فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا
خَيْرَ البَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلُهَا ***** إِلَّا النَّبِيَّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
الثَّانِيَ التَّالِيَ الـمَحْمُوْدَ مَشْهَدُهُ ***** وَأَوَّلَ النَّاسِ حَقًّا صَدَّقَ الرُّسُلَا
وَوَرَدَ فِي قِصَّةِ إِسْلَامِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى يَوْمًا فِي مَنَامِهِ وَهُوَ فِي الشَّامِ أَنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ نَزَلَا فِي حِجْرِهِ فَأَخَذَهُمَا بِيَدِهِ وَضَمَّهُمَا إِلَى صَدْرِهِ وَأَسْبَلَ عَلَيْهِمَا رِدَاءَهُ، ثُمَّ انْتَبَهَ مِنْ نَوْمِهِ فَذَهَبَ إِلَى رَاهِبٍ يَسْأَلُهُ عَنِ الرُّؤْيَا. فَقَالَ الرَّاهِبُ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟* قَالَ: مِنْ مَكَّةَ. فَقَالَ: وَمَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: التِّجَارَةُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: يَخْرُجُ فِي زَمَانِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مُحَمَّدٌ الأَمِيْنُ تَتْبَعُهُ وَيَكُوْنُ مِنْ قَبِيْلَةِ بَنِي هَاشِمٍ وَهُوَ نَبِيُّ ءَاخِرِ الزَّمَانِ، وَأَنْتَ تَدْخُلُ فِي دِيْنِهِ وَتَكُوْنُ وَزِيْرَهُ وَخَلِيْفَتَهُ مِنْ بَعْدِهِ قَدْ وَجَدْتُ نَعْتَهُ وَصِفَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالزَّبُوْرِ”. فَلَمَّا سَمِعَ سَيِّدُنَا أَبُوْ بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صِفَةَ النَّبِيِّ وَنَعْتَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ قَلْبُهُ وَاشْتَاقَ إِلَى رُؤْيَتِهِ.
وَمَا لَبِثَ أَبُوْ بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ رَأَى رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ.
مَنَاقِبُهُ وَفَضَائِلُهُ:
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ (أَنَّهَا) قَالَتْ: جَاءَ الصَّرِيْخُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقِيْلَ لَهُ: أَدْرِكْ صَاحِبَكَ. فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِنَا وَإِنَّ لَهُ غَدَائِرَ، فَدَخَلَ الـمَسْجِدَ وَهُوَ يَقُوْلُ: وَيْلَكُمْ أَتَقْتُلُوْنَ رَجُلًا أَنْ يَقُوْلَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ؟!!* قَالَ: فَلَهَوْا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ وَأَقْبَلُوْا إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَرَجَعَ إِلَيْنَا أَبُوْ بَكْرٍ فَجَعَلَ لَا يَـمَسُّ شَيْئًا مِنْ غَدَائِرِهِ إِلَّا جَاءَ مَعَهُ وَهُوَ يَقُوْلُ: تَبَارَكْتَ يَا ذَا الـجَلَالِ وَالإِكْرَامِ، أَوْرَدَهُ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي صِفَةِ الصَّفْوَةِ.
ذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ وَالتَّوَارِيْخِ وَالسِّيَرِ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ شَهِدَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَجَمِيْعَ الـمَشَاهِدِ، وَثَبَتَ مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَايَتَهُ العُظْمَى يَوْمَ تَبُوْكٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَـمْلِكُ يَوْمَ أَسْلَمَ أَرْبَعِيْنَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَكَانَ يُعْتِقُ مِنْهَا وَيُقَوِّي الـمُسْلِمِيْنَ وَلَـمْ يَشْرَبِ الخَمْرَةَ لَا فِي الـجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الإِسْلَامِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ القُرْءَانَ.
ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ مِنَ العَشَرَةِ الـمُبَشَّرِيْنَ خَمْسَةٌ هُمْ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ العَوَامِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَقَدْ كَانَ أَبُوْ بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَـمْلِكُ دَمْعَهُ حِيْنَ يَقْرَأُ القُرْءَانَ، وَكَانَ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ وَأَذْكَاهُمْ.
وَمِنْ فَضَائِلِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا شَهِدَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ حَيْثُ قَالَ: “أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَتَصَدَّقَ وَوَافَقَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي فَقُلْتُ اليَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟، قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُوْ بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ قَالَ لَهُ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟، فَقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُوْلَهُ، فَقُلْتُ: “لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا”. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (أَنَّهُ) قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ”، فَبَكَى أَبُوْ بَكْرٍ وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلَّا لَكَ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟!.
وَعَنْ أَنَسٍ (أَنَّهُ) قَالَ: “لَـمَّا كَانَ لَيْلَةُ الغَارِ قَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: يَا رَسُوْلَ اللهِ دَعْنِي أَدْخُلُ قَبْلَكَ فَإِنْ كَانَ حَيَّةٌ أَوْ شَيْءٌ كَانَتْ لِي قَبْلَكَ. قَالَ: “ادْخُلْ”. فَدَخَلَ أَبُوْ بَكْرٍ فَجَعَلَ يَلْتَمِسُ بِيَدَيْهِ كُلَّمَا رَأَى جُحْرًا قَالَ بِثَوْبِهِ [أَخَذَ بِثَوْبِهِ] فَشَقَّهُ ثُمَّ أَلْقَمَهُ الجُحْرَ. حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَوْبِهِ أَجْمَعَ قَالَ: فَبَقِيَ جُحْرٌ فَوَضَعَ عَقِبَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَدْخَلَ رَسُوْلَ اللهِ فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فَأَيْنَ ثَوْبُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ”؟ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ فَرَفَعَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَيْهِ وَقَالَ: “اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَبَا بَكْرٍ مَعِيَ فِي دَرَجَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ”. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ. أَخْرَجَهُ أَبُوْ نُعَيْمٍ فِي الحِلْيَةِ (1/33).
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ (أَنَّهُ) قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ: هَلْ قُلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا؟، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: قُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ فَقَالَ:
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الغَارِ الـمُنِيْفِ وَقَدْ ***** طَافَ العَدُوُّ بِهِ إِذْ أَصْعَدَ الـجَبَلَا
وَكَانَ حِبَّ رَسُوْلِ اللهِ قَدْ عَلِمُوا ***** مِنَ البَرِيَّةِ لَـمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلَا
فَضَحِكَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ: “صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ هُوَ كَمَا قُلْتَ”، أَوْرَدَهُ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ”.
وَعَنْ قَيْسٍ (أَنَّهُ) قَالَ: اشْتَرَى أَبُوْ بَكْرٍ بِلَالًا وَهُوَ مَدْفُوْنٌ فِي الـحِجَارَةِ بِـخَمْسِ أَوَاقٍ ذَهَبًا فَقَالُوْا: لَوْ أَبَيْتَ إِلَّا أُوْقِيَّةً لَبِعْنَاكَ، فَقَالَ: لَوْ أَبَيْتُمْ إِلَّا مِائَةَ أُوْقِيَّةً لَأَخَذْتُهُ.
وَرَعُهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الـجَوْزِيِّ فِي “صِفَةِ الصَّفْوَةِ” قَالَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمٍ (أَنَّهُ) قَالَ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيْقِ مَـمْلُوْكٌ فَأَتَاهُ لَيْلَةً بِطَعَامٍ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ لُقْمَةً فَقَالَ لَهُ الـمَمْلُوْكُ: مَا لَكَ كُنْتَ تَسْأَلُنِي كُلَّ لَيْلَةٍ لَـمْ تَسْأَلْنِي اللَّيْلَةَ قَالَ: حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ الـجُوْعُ، مِنْ أَيْنَ جِئْتَ بِـهَذَا؟* قَالَ: مَرَرْتُ بِقَوْمٍ فِي الـجَاهِلِيَّةِ فَرَقِيْتُ لَـهُمْ فَوَعَدُوْنِي فَلَمَّا أَنْ كَانَ اليَوْمُ مَرَرْتُ بِـهِمْ فَإِذَا عُرْسٌ لَـهُمْ فَأَعْطَوْنِي* فَقَالَ: أُفٍّ لَكَ كِدْتَ تُهْلِكُنِي* فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي حَلْقِهِ فَجَعَلَ يَتَقَيَّأُ وَجَعَلَتْ لَا تَـخْرُجُ* فَقِيْلَ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ لَا تَخْرُجُ إِلَّا بِالـمَاءِ فَدَعَا بِعَسٍّ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ يَشْرَبُ وَيَتَقَيَّأُ حَتَّى رَمَى بِـهَا فَقِيْلَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ؟، فَقَالَ: لَوْ لَـمْ تَخْرُجْ إِلَّا مَعَ نَفْسِي لَأَخْرَجْتُهَا، سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُوْلُ: “كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ” فَخَشِيْتُ أَنْ يَنْبُتَ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِي مِنْ هَذِهِ اللُّقْمَةِ* وَهَذَا مِنْ وَرَعِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
تَوَلِّيْهِ الـخِلَافَةَ:
بُوْيِعَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي سَقِيْفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ يَوْمَ وَفَاةِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ لِاثْنَتَي عَشَرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيْعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنْ مُهَاجَرِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ حِيْنَ ذَهَبَ هُوَ وَعُمَرُ وَبَعْضُ الصَّحَابَةِ لِيَتَشَاوَرُوْا فِي أَمْرِ الـخِلَافَةِ حَتَّى قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: ابْسِطْ يَدَكَ. فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُهُ ثُمَّ بَايَعَهُ الـمُهَاجِرُوْنَ ثُمَّ الأَنْصَارُ ثُمَّ كَانَتِ البَيْعَةُ العَامَّةُ فِي اليَوْمِ التَّالِي.
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيْهِ (أَنَّهُ) قَالَ: لَـمَّا وُلِّيَ أَبُوْ بَكْرٍ الـخِلَافَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِـمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: “أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ وُلِّيْتُ أَمْرَكُمْ وَلَسْتُ بِـخَيْرِكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ أَنْزَلَ القُرْءَانَ وَسَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السُّنَنَ فَعَلِمْنَا، اعْلَمُوْا أَنَّ أَكْيَسَ الكَيْسِ التَّقْوَى، وَأَنَّ أَحْمَقَ الـحُمْقِ الفُجُوْرُ. إِنَّ أَقْوَاكُمْ عِنْدِي الضَّعِيْفُ حَتَّى ءَاخُذَ لَهُ بِـحَقِّهِ، وَإِنَّ أَضْعَفَكُمْ عِنْدِي القَوِيُّ حَتَّى ءَاخُذَ مِنْهُ الـحَقَّ، أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّـمَا أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِـمُبْتَدِعٍ فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِيْنُوْنِي وَإِنْ زِغْتُ فَقَوِّمُوْنِي”.
وَالـمَعْلُوْمُ أَنَّهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَظُمَتْ مُصِيْبَةُ الـمُسْلِمِيْنَ حَيْثُ كَثُرَ النِّفَاقُ وَارْتَدَّتْ بَعْضُ القَبَائِلِ وَالبَعْضُ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَأَسْرَعَ أَبُوْ بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِـمُدَارَكَةِ هَذَا الأَمْرِ العَظِيْمِ فَأَمَرَ بِتَجْهِيْزِ الـجُيُوْشِ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ وَقُتِلَ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ الَّذِي ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَهَرَبَ طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ إِلَى أَرْضِ الشَّامِ وَكَانَ ادَّعَى النُّبُوَّةَ أَيْضًا ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الـخَطَّابِ، وَاسْتَشْهَدَ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوُ سَبْعِمِائَةِ رَجُلٍ أَكَثَرُهُمْ مِنَ القُرَّاءِ، كَمَا جَهَّزَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الـجُيُوْشَ لِفَتْحِ بِلَادِ الشَّامِ.
اسْتِخْلَافُهُ عُمَرَ بْنَ الـخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا:
أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَالـحَاكِمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُوْدٍ (أَنَّهُ) قَالَ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: أَبُوْ بَكْرٍ حِيْنَ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ، وَصَاحِبَةُ مُوْسَى حِيْنَ قَالَتْ: اسْتَأْجِرْهُ، وَالعَزِيْزُ حِيْنَ تَفَرَّسَ فِي يُوْسُفَ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا ثَقُلَ دَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ بْنِ الـخَطَّابِ، فَقَالَ: مَا تَسْأَلُنِي عَنْ أَمْرٍ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَقَالَ أَبُوْ بَكْرٍ: وَإِنْ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: هُوَ وَاللهِ أَفْضَلُ مِنْ رَأْيِكَ فِيْهِ، ثُمَّ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ عُمَرَ* فَقَالَ: أَنْتَ أَخْبَرُنَا بِهِ* فَقَالَ: عَلَى ذَلِكَ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ عِلْمِي بِهِ أَنَّ سَرِيْرَتَهُ خَيْرٌ مِنْ عَلَانِيَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيْنَا مِثْلُهُ* وَشَاوَرَ مَعَهُمَا سَعِيْدَ بْنَ زَيْدٍ وَأُسَيْدَ بْنَ الـحُضَيْرِ وَغَيْرَهُمَا مِنَ الـمُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ يَسَارِ بْنِ حَمْزَةَ (أَنَهُ) قَالَ: لَـمَّا ثَقُلَ أَبُوْ بَكْرٍ أَشْرَفَ عَلَى النَّاسِ مِنْ كُوَّةٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ عَهِدْتُ عَهْدًا، أَفَتَرْضَوْنَ بِهِ؟، فَقَالَ النَّاسُ: رَضِيْنَا يَا خَلِيْفَةَ رَسُوْلِ اللهِ، فَقَامَ عَلِيٌّ فَقَالَ: لَا نَرْضَى إِلَّا أَنْ يَكُوْنَ عُمَرَ، قَالَ: فَإِنَّهُ عُمَرُ، ذَكَرَ ذَلِكَ السِّيُوْطِيُّ فِي “تَارِيْخِ الـخُلَفَاءِ”.
وَفَاتُهُ:
مَرِضَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثُمَّ تُوُفِّيَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ عَنْ ثَلَاثٍ وَسِتِّيْنَ سَنَةً، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَدُفِنَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ وَرَأْسُهُ عِنْدَ كَتِفَيْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ أَوْصَى بِذَلِكَ، وَارْتَجَّتِ الـمَدِيْنَةُ بِالبُكَاءِ وَدُهِشَ القُوْمُ.
وَلَـمَّا تُوُفِّيَ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ بَاكِيًا مُسْرِعًا مُسْتَرْجِعًا حَتَّى وَقَفَ بِالبَابِ وَقَالَ: يَرْحَمُكَ اللهُ أَبَا بَكْرٍ لَقَدْ كُنْتَ وَاللهِ أَوَّلَ القَوْمِ إِسْلَامًا، صَدَّقْتَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِيْنَ كَذَّبَهُ النَّاسُ، وَوَاسَيْتَهُ حَتَّى بَـخِلُوْا، وَقُمْتَ مَعَهُ حِيْنَ قَعَدُوْا، وَسَمَّاكَ اللهُ فِي كِتَابِهِ صِدِّيْقًا فَقَالَ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [سُوْرَةُ الزُّمَرِ/33]. قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ تُوُفِّيَ أَبُوْ بَكْرٍ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَيْنَ الـمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ لِثَمَانِ لَيَالٍ بَقِيْنَ مِنْ جَمَادَى الآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنَ الهِجْرَةِ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّيْنَ سَنَةً وَأَوْصَى أَنْ تَغْسِلَهُ زَوْجَتُهُ وَأَنْ يُدْفَنَ إِلَى جَانِبِ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ عُمَرُ بَيْنَ القَبْرِ وَالـمِنْبَرِ وَنَزَلَ فِي حُفْرَتِهِ ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ.
تُوُفِّيَ الصِّدِّيْقُ وَلَهُ مِنَ الوَلَدِ: عَبْدُ اللهِ وَأَسْمَاءُ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَائِشَةُ وَمُحَمَّدُ وَأُمُّ كُلْثُوْمٍ.
اللَّهُمَّ احْشُرْنَا مَعَ زُمْرَةِ الصِّدِّيْقِيْنَ وَثَبِّتْنَا عَلَى اتِّبَاعِهِمْ وَأَمِتْنَا عَلَى مَحَبَّتِهِمْ.