الجمعة يوليو 26, 2024

أبطال شبهة يوردها بعض الملاحدة

إن قال قائل من الملاحدة مُشَكّكًا في تصديق الأنبياء وإثبات المعجزات لهم: وقوع الخارق على يد من ادّعى النبوة لا يكفي دليلًا على صدقه، لأننا نشاهد كثيرًا من الخوارق يُتَوَصَّلُ إليها بالخواصّ (أي: القُوَى التي تؤثر في الأجسام) والسحر والشعوذة واستحضار الروحانيات.

فالجواب أن يقال: إن هذه الأشياء تُعَارَضُ بالمثل، فيعارِض ساحرٌ ساحرًا مثلًا، بخلاف المعجزة، فهل استطاع أحد من المكذّبين المعارضين للأنبياء في عصورهم وفي ما بعد ذلك إلى يومنا هذا أن يأتيَ بمثل ما أتى به نبيُّ الله صالح عليه السلام من إخراج الناقة وولدها من صخرة صمّاء([1]) حين اقترح قومه عليه ذلك؟ وهل استطاع أحد أن يدخل نارًا عظيمةً كالنار التي رُمِيَ فيها سيدنا إبراهيم عليه السلام حيث لم يستطيعوا من شدّتها أن يرموه فيها إلا بواسطة المنجنيق، ولم تؤثّر فيه فلم تحرق جسمه ولا ثوبه.

وهل استطاع أحد منهم أن يفعل ما فعل سيدنا موسى عليه السلام من ضرب البحر بعصاه فانفلق اثني عشر فرقًا كل فرق كالجبل العظيم حتى مشى فيه مئات الآلاف وما انهال عليهم حتى قطعوا المسافة التي أرادها موسى عليه السلام ثم عاد كما كان؟ وهل استطاع سَحَرَة فرعون الذين جمعهم أن يقاوموا معجزة انقلاب عصا موسى حيَّة حقيقية؟ بل غُلِبُوا فعجزوا عن المقاومة ثم أذعنوا لموسى عليه السلام فآمنوا بالله ورسوله موسى عليه السلام مُوقنين كلَّ الإيقان. وهل استطاع اليهود حين عارضوا المسيح عليه السلام وقابلوه بالتكذيب وبهتوه بقولهم: إن هذا إلا سحر مبين، أن يأتوا بمثل معجزاته من إبراء الأعمى والأكمه([2]) وإحياء الميت بإذن الله؟ بل عجزوا وما استطاعوا أن يأتوا بمثل معجزاته بلا علاج ولا إجراء جراحة طبية، وهل يستطيع أحد من أئمة الإلحاد أن يُنطِق جذعًا نُصِب عمودًا في جملة أعمدةِ بناءٍ بصوت مسموع لمن حضر كما ظهر لمحمد ﷺ من هذا العمود([3]) الذي كان من جملة أعمدة مسجده الذي كان مسقوفًا على أعمدةٍ من خشب النخل اليابس حتى سكت لـمَّا مسح عليه؟

فإن تمادى هذا الملحد في غيّه وضلاله وقال: إن هذه الحوادث من قبيل الخرافات التي تُروى من غير أساس.

فالجواب: أن يقال إنَّ هذا من الخبر المتواتر الذي يفيد علمًا قطعيًّا، وليس من الأخبار التي تحتمل الصدق والكذب، وإنما هو كأخبار البلاد والأماكن النائية والملوك الماضية التي تناقلتها الكافّة عن الكافّة، فكما أن هؤلاء الملحدين يقطعون بصحة بعض أخبار أئمتهم كلينين وماركس، وبعض حوادث من قبلهما كنابليون، مع كونهم لم يَرَوْهم ولم يشهدوا تلك الحوادث، فكذلك نقطع بصحة حوادث الأنبياء التي تناقلتها الكافّة عن الكافّة.

فإن قال: إن أخبار هؤلاء أقرب عهدًا بخلاف الأنبياء فإن عهدهم بعيد.

قلنا: الخبر المتعلّق بحصول الغريب الذي يلفت الأفكار والإعجاب كإخراج الناقة من صخرة صمّاء من شأنه أنه كلّما تطاول الزمن يكثر تناقله، لأن الإنسان مجبول في طبيعته على حبّ التحدُّث بالأمر المعجب، فمثلًا لـمَّا شاهد الجيش الذي كان مع الرسول ﷺ في غزوة الحديبية وَهُمْ ألف وخمسمائة نبع الماء من بين أصابعه، وقد كانوا فاقدين الماء([4])، لا شكّ أن كل واحد من الجيش حريص على أن يخبر بما شاهد.

فلا معنى حينئذٍ لإنكارهم هذه المعجزات إلا العناد والمكابرة فهم لا ينكرون الحوادث التي تناقلتها الناس جيلًا بعد جيل سواء قرب عهدنا بها أم بَعُد كوجود حاكم عاتٍ اسمه فرعون، أو نجاة سفينة سيدنا نوح عليه السلام، فلم يبقَ إلا التحكّم والعناد، عصمنا الله من هوى النفوس وعمى القلوب.

[1])) «الصَّمَّاء من الأرض: الغليظة».اهـ. لسان العرب، ابن منظور، مادة: (ص م م)، (13/536).

[2])) «الكَمَةُ في التفسير العمى الذي يُولد به الإنسان، كَمِهَ بصرُهُ كَمَهًا وهو أَكْمَهُ إذا اعتَرَتْهُ ظلمة تطمِسُ عليه».اهـ. لسان العرب، ابن منظور، مادة: (ك م هـ)، (13/536).

[3])) صحيح البخاريّ، البخاري، باب: الخطبة على المنبر، (2/11)، رقم 918. سنن الترمذيّ، الترمذي، (2/379)، رقم 505. سنن ابن ماجه، ابن ماجه، (2/417)، رقم 1414.

[4])) صحيح البخاري، البخاري، كتاب المناقب، باب: علامات النبوة، (4/232).