الجمعة يوليو 26, 2024

أبشروا بفضل الله

أيُّها الصائمونَ أبشِروا بوعدِ اللهِ الذي وعدَكم، فلا يخلفُ في وعدهِ {إنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [سورة ءال عمران: 9] لأنَّ الكذبَ مستحيلٌ عليهِ، أبشِروا بفضلِ اللهِ وكرمهِ وجودهِ، أبشروا بهذا الفضلِ العظيمِ والعطاءِ الجزيلِ من ربِّ العالمينَ واشكروا اللهَ على مزيدِ فلهِ وإنعامهِ. فقد وردَ في الحديثِ القدسيِّ الذي أخرجَهُ البخاريُّ عن أبي هريرةَ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: قالَ اللهُ تعالى: «كُلُّ عملِ ابنِ ءادمَ يُضاعَفُ، الحسنةُ بعَشرِ أمثالِها إلى سَبِعمائةِ ضِعفٍ إلا الصومَ فإنَّهُ لي وأنا أجزي به، يدَعُ طعامَهُ وشَهوتَهُ من أجلي، للصائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندَ فِطرهِ وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّهِ ولَخُلُوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِنْ ريحِ المسكِ، الصَّومُ جُنَّةٌ».

ما هو الخُلوفُ؟ وما معنى أنهُ أطيبُ مِنَ المسكِ؟ الخُلوفُ هو تغيُّرُ رائحةِ الفمِ، وأكثرُ ما يعتري الصائمَ في ءاخرِ النهارِ نتيجة تأخُّرِ الطعامِ والشرابِ عنهُ. ومع أنَّ ريحَ هذا الخُلُوفُ يَنفِرُ منها الإنسانُ فإنَّ الحديثَ الشريفَ يُبيِّنُ لنا أنها أطيبُ مِنَ المسكِ. قالَ الحافظُ ابنُ رجبٍ رحمَهُ اللهُ: «خَلُوفُ الفمِ: رائحةُ ما يتصاعدُ منهُ مِنَ الأبخرةِ لخلوِّ المعدةِ مِنَ الطعامِ بالصيامِ، وهي رائحةٌ مستكرهةٌ في مشامِ الناسِ في الدنيا ولكنها عندَ اللهِ طيبةٌ حيثُ إنها ناشئةٌ عن طاعتهِ وابتغاءِ مرضاتهِ».

ومِنَ المعلومِ أنَّ أطيبَ ما عندَ الناسِ مِنَ الرائحةِ رائحةُ المسكِ فمثَّلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا الخلوفَ عندَ اللهِ تعالى بطيبِ رائحةِ المسكِ عندنا، ولا يعني النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقولهِ: «أطيبُ عندَ اللهِ مِنْ ريحِ المسكِ» وصفَ اللهِ بالشمِّ لأنَّ اللهَ منزهٌ عَنِ الشمِّ؛ بل هو منزه عن كلِّ ما هو من صفاتِ الخلقِ.

وقد ذكرَ النوويُّ في معنى الحديثِ: قال المازَريُّ: «هذا مجازٌ واستعارةٌ لأنَّ استطابةَ بعضِ الروائحِ من صفاتِ الحيوانِ الذي لهُ طبائعُ تميلُ إلى شيء فتستطيبُهُ، وتنفرُ منْ شيءٍ فتستقذرُهُ، واللهُ تعالى متقدِّسٌ عن ذلكَ».

فقوله صلى الله عليه وسلم: «ولَخُلُوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِنْ ريحِ المسكِ»، معناهُ: الثناءُ على الصائمِ والرضا بفعلهِ، «أطيبُ عندَ اللهِ مِنْ ريحِ المسكِ»، معناه: أفضلُ عندَ اللهِ مِنَ الرائحةِ الطيبةِ.

ولكنْ هذا الطِّيبُ أهو في الدنيا والآخرةِ أم في الآخرةِ خاصةً؟ وقعَ بينَ العلماءِ خلافٌ، فقالَ بعضُهم: في الآخرةِ خاصةً؛ لأنَّ في روايةٍ لمسلمٍ: «أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وقالَ بعضُهم: هو عامٌّ في الدنيا والآخرةِ، وأما التقييدُ بيومِ القيامةِ في الروايةِ المذكورةِ لا ينافي حصولَهُ في الدنيا أيضًا، وإنما ذكرَ يومَ القيامةِ لأنّهُ الذي يظهرُ فيه الأجرُ، ويكونُ ذلكَ شعارًا منْ شعاراتِ أهلِ الإيمانِ الصائمينَ.

قالَ ابنُ حبانَ: «شعارُ المؤمنينَ في القيامةِ التحجيلُ بوضوئِهم في الدنيا فرقًا بينَهم وبينَ سائرِ الأممِ، وشعارُهم في القيامةِ بصومِهم طيبُ خُلُوفِهم أطيبُ مِنْ ريحِ المسكِ، ليُغرَفوا بينَ ذلكَ الجمعِ بذلك العملِ» ومعنى التحجيلِ أن يزيدَ في غسلِ اليدينِ إلى ما قبل المنكبينِ وفي الرجلينِ إلى ما قبل الركبتينِ.

ولَما كان الصيامُ سرًّا بينَ العبدِ وبينَ ربّهِ في الدنيا، أظهرَهُ اللهُ في الآخرةِ علانيةً للخلقِ، ليشتهرَ بذلكَ أهلُ الصيامِ، ويُعْرَفونَ بصيامِهم بينَ الناسِ لإخفائِهم صيامَهم في الدنيا.

اللَّهُمَّ إِنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا

فاغفرِ اللَّهُمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا

اللَّهُمَّ اغفِرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهُمْ والأمواتِ