الخميس مارس 28, 2024

الرَّدُّ العِلمي عَلَى ضَلَالَاتِ محمد راتب النابلسي-7

قول طائفة ينتسبون إلى أمين شيخو وعبد الهادي الباني

وكذلك قالت طائفة ينتسبون إلى أمين شيخو (1) وعبد الهادي الباني (2) مِن بعدِه فقد جعلوا مشيئة الله تابعة لمشيئة العبد، فمعنى الآية عندهم: إن شاء العبد الاهتداء شاء الله له الهدى وإن شاء العبد أن يضل أضله الله، فكذبوا بالآية (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ (29)) [التكوير 29].

ثم إن حاول بعضهم أن يستدل بآية من القرءان لضدّ هذا المعنى قيل له: القرءان يتصادق ولا يتناقض فليس في القرءان ءاية نقيض ءاية وليس هذا من باب الناسخ والمنسوخ لأن النسخ لا يدخل العقائد وليس مُوجبًا للتناقض، كما أنَّ النسخ لا يدخل في الأخبار إنما هو في الأمر والنهي، فيأتي النسخ لبيان انتهاء حكم ءاية سابقة بحكم ءاية لاحقة، على أن هذه الفئة لا تؤمن بالناسخ والمنسوخ.

فهؤلاء تبعوا المعتزلة في هذه المسألة فقاسوا الخالق على المخلوق فضلّوا وحرّفوا معنى الآية التي يحتجّون بها وهي قوله تعالى (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [إبراهيم 4] ظنًا منهم أننا إذا قلنا: إن الله هو الذي يضلّ من شاء له الضّلالة من عباده فقد نسبنا الظلم إلى الله، قالوا: كيف يشاء الله الضّلالة له ثم يعاقبه على ذلك، فَمِن هنا ضلُّوا فقالوا في قوله تعالى (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [المدثر 31] يشاء أي العبد يعيدون الضمير إلى (مَنْ) و (مَنْ) عندهم واقع على العبد، فمعنى الآية على تفسيرهم أنَّ العبد الذي يشاء الضلال يضله الله، هكذا هم يحرفون، لكن الصواب إعادة الضمير إلى الله (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ) أي العبد الذي شاء الله بمشيئته الأزلية الأبدية أن يضلّ فإنَّه يضلّه الله، هذا معنى الآية (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ) وإلى لفظ الجلالة يعود الضمير.

ومعنى قوله تعالى (وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي أن الله تبارك وتعالى هو إن شاء بمشيئته الأزلية الأبدية أن يهتدي شخص يهتدي ذلك الشخص، ينساق باختياره إلى الهدى فيختار الهدى والإيمان لأن الله شاء له ذلك. وهذا هو الموافق لآيات أخرى كقوله تعالى (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) [الروم 29] وقوله (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)) [غافر 33] وأصرح ءاية في إبطال عقيدة النابلسي المعتزلي الآية (تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ) [الأعراف 155] لأن قوله تعالى (تَشَاءُ) صريح في نسبة المشيئة إلى الله، فلو كان معنى الآية كما زعم النابلسي لكان لفظ الآية [يضل بها من شاءوا] أي الذين عبدوا العجل لكن موسى يخاطب الله بقوله (مَنْ تَشَاءُ) فلا معنى للآية إلا: تضل بها من تشاء أنت يا الله، فليعلم أن الذي ذهبوا إليه ضد القرءان.

والجادَّة عند علماء النحو أن الضمير يعاد إلى أقرب مذكور إذا لم يكن هناك دليل على عوده إلى ما قبله أي إلى ما قبل الأقرب، وأما إذا كان يوجد دليل على إعادة الضمير إلى ما قبل هذا الأقرب أعيد الضمير إلى ما قبل الأقرب، هذه القاعدة عندهم. والدليل هنا يمنع من إعادة ضمير (يَشَاءُ) إلى (مَنْ) الذي هو العبد، وهذه الفرقة مخالفة لهذه القاعدة المشهورة عند أهل اللغة.

ثم قد قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) [الإسراء 30] فهل يقول النابلسي إن العبد يبسط الرزق كما زعم أن العبد يشاء الضلالة في قوله تعالى (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ) [إبراهيم 4] مع أن كِلَا الآيتين ليس مذكورًا فيها العبد؟!
فلِمَ تجرأ إذًا على إرجاع الضمير إلى العبد في آية المشيئة (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ) وهذا تَحَكُّمٌ منه واضح في الآيات وتفسير يسبقه هوى.

واستدل أهل السنة على أن الله خالق الهداية والضلالة في العباد بقوله تعالى (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)) [الأنعام 39] وقال (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية 23] ومعناه سدّ عليهم أبواب الهداية، فإن الهدى يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب: بما يسمعه بأذنه أو يراه بعينه أو يعقله بقلبه، وقال تعالى أيضًا (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة 41] وقد أوردها الإمام البيهقي مع آيات أخرى في باب أسماه [باب ذكر البيان أن أفعال الخلق كلها تقع بمشيئة الله جل ثناؤه وإرادته](3).
وروى بإسناده أن ابن عباس ذكر القدرية وقال [قاتلهم الله، أليس قد قال الله عز وجل (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) [الأعراف 30]]. اهـ

وقال تعالى (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا) [الأنعام 125] فنَصَّ الله تعالى على أن الهدى بإرادته، والضلال بإرادته، وهذا نص واضح لا إشكال فيه، ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة هذا وقوله تعالى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْس) [الأعراف 179].

ووجه الدليل أنه تعالى خلق من الجن والناس قومًا ليدخلوا النار ويكونوا أهلًا لها، ولا يكونون أهلًا لها إلا بالكفر والطغيان والعصيان، فعلم أن جميع ذلك بإرادته وقضائه وقدره، ويدل عليه أيضًا قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) [الأنعام 111] فأخبر تعالى أن الحجج والآيات لا تنفع، وإنما تنفع المشيئة التي تتم بها الأشياء، فمن شاء إيمانه آمن، ومن شاء كفره لم يؤمن.

وذكر الإمام الإسماعيلي فيما روى البيهقي مِن كلامه في اعتقاد أهل الحديث من أهل السنة والجماعة [ويقولون: إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عز وجل، وأن أكساب العباد كلها مخلوقة لله، وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عز وجل ولا عذر، كما قال الله عز وجل (قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)) [الأنعام 149]، وقال (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) [الأعراف 29-30]، وقال (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ) [الأعراف 179]، وقال (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) [الحديد 22] ومعنى (نَبْرَأَهَا) أي نخلقها وبلا خلاف في اللغة]، ثم قال [ويقولون: إن الخير والشر والحلو والمر، بقضاء من الله عز وجل، أمضاه وقدَّرَه] (4). اهـ

فتبين من مجموع ما ذكرناه أن الله تعالى هو الذي يخلق الهدى والضلالة في قلوب من شاء من خلقه، فإذا أثاب المطيع فبفضله، وإن عاقب العاصي فبعدله من غير ظلم منه، لأنه تعالى يتصرف في ملكه كما يشاء.

(1) توفي سنة 1964 رومية.
(2) توفي سنة 2011 رومية.
(3) القضاء والقدر، البيهقي (ص179).
(4) اعتقاد أئمة الحديث، الإسماعيلي، (ص61).