الأربعاء مايو 21, 2025

#31

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِينَ، إِمَامِ الْأَتْقِيَاءِ الْعَارِفِينَ، سَيِّدِنَا وَقَائِدِنَا وَحَبِيبِنَا وَنُورِ أَبْصَارِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْعَرَبِيِّ الْأُمِّيِّ الْأَمِينِ، الْعَالِي الْقَدْرِ، الْعَظِيمِ الْجَاهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ وَالَاهُ. أَمَّا بَعْدُ، قَالَ الشَّيْخُ جِيلُ صَادِقُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: )وَلا يَصِحُّ( الْبَيْعُ )عِنْدَ بَعْضِ( الشَّافِعِيَّةِ )بِلا صِيغَةٍ( كَبِعْتُكَ وَاشْتَرَيْتُ بِشُرُوطِهَا )وَيَكْفِي التَّرَاضِي عِنْدَ ءَاخَرِينَ)

الشَّرْحُ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ عَلَى مَا هُوَ مَنْصُوصُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصِّيغَةُ أَيِ اللَّفْظُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَاخْتَارَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ صِحَّتَهُ بِالْمُعَاطَاةِ بِدُونِ صِيغَةٍ وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ وَيَأْخُذَ الْمَبِيعَ بِلا لَفْظٍ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَالْبَيْعُ عِنْدَهُ يَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا يَعُدُّهُ النَّاسُ بَيْعًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ كَمَا تَقَدَّمَ. (مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِصِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، كَقَوْلِ “بِعْتُكَ” وَ”اشْتَرَيْتُ”، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَبْنِيٌّ عَلَى الرِّضَا، وَهُوَ أَمْرٌ خَفِيٌّ لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِاللَّفْظِ، اسْتِنَادًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ﴾ أَمَّا بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ، فَيَرَوْنَ عَدَمَ اشْتِرَاطِ الصِّيغَةِ، وَيَكْفِي التَّرَاضِي بِالْفِعْلِ، كَأَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ وَيَسْتَلِمَ الْمَبِيعَ دُونَ تَلَفُّظٍ، وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ بِالْمُعَاطَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، حَيْثُ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ عِنْدَهُ بِكُلِّ مَا يُعَدُّ بَيْعًا عُرْفًا دُونَ اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ، فَخُلَاصَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَشْتَرِطُ الصِّيغَةَ، وَمَالِكًا لَا يَشْتَرِطُهَا، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَجَازُوا الْمُعَاطَاةَ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) يَحْرُمُ )بَيْعُ مَا لا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمِلْكِ كَالْحُرِّ وَالأَرْضِ الْمَوَاتِ(

الشَّرْحُ يَحْرُمُ بَيْعُ مَا لَيْسَ مَمْلُوكًا (أَيِ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ، فَإِنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْمِلْكِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْبَحْرِ وَ) كَالإِنْسَانِ الْحُرِّ أَيْ غَيْرِ الرَّقِيقِ وَالأَرْضِ الْمَوَاتِ أَيِ الَّتِي لَمْ تُعْمَرْ لِأَنَّ الْمَوَاتَ لا يُمْلَكُ إِلَّا بِالإِحْيَاءِ أَيْ بِتَهْيِئَتِهِ لِلِانْتِفَاعِ إِمَّا لِلزِّرَاعَةِ أَوِ السَّكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (الأَرْضُ الْمَوَاتُ هِيَ الَّتِي لَمْ يَمْلِكْهَا أَحَدٌ وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ، فَلَمْ يُبْنَ عَلَيْهَا، وَلَمْ تُزْرَعْ، وَلَمْ تُهَيَّأْ لِلْمَرْعَى. فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَرْضٍ مَوَاتٍ، ثُمَّ قَالَ لِأَحَدِهِمْ “بِعْتُكَ هَذِهِ الأَرْضَ”، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمِلْكِيَّةِ. وَلَكِنْ إِذَا قَامَ بِتَجْهِيزِهَا لِلسَّكْنَى بِالْبِنَاءِ، أَوْ لِلزِّرَاعَةِ، دَخَلَتْ فِي مِلْكِهِ وَجَازَ لَهُ بَيْعُهَا، وَلَا يَتَمَلَّكُهَا بِمُجَرَّدِ إِرَادَةِ التَّمَلُّكِ، إِنَّمَا تَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ إِذَا أَحْيَاهَا. وَلَا يَشْمَلُ ذَلِكَ شَوَاطِئَ الْبِحَارِ وَالأَنْهَارِ، فَإِنَّهَا لَا تُملَّكُ بِالإِحْيَاءِ، إِذْ لَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ أَنْ يَخْتَصَّ بِهَا وَيَمْنَعَ غَيْرَهُ مِنَ النَّاسِ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: )وَ) يَحْرُمُ أَيْضًا )بَيْعُ الْمَجْهُولِ(

الشَّرْحُ مِنْ شُرُوطِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مَعْلُومَيْنِ فَيَحْرُمُ وَلا يَصِحُّ بَيْعُ الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ (أَيْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ) الْمَنْهِيِ عَنْهُ كَأَنْ يَقُولَ لَهُ بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ فَيَأْخُذَ أَحَدَهُمَا. (وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ “بِعْتُكَ أَرْضًا مِنْ هَاتَيْنِ الأَرْضَيْنِ” مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، أَوْ “بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ” وَلا يُحَدِّدُ أَيَّهُمَا، أَوْ “بِعْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ بِأَلْفٍ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ” دُونَ تَحْدِيدِ نِسْبَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا، أَوْ “بِعْتُكَ مِلْءَ بَيْتِي قَمْحًا” وَلا يُعْلَمُ قَدْرُ مِلْءِ الْبَيْتِ، فَكُلُّ هَذَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْمَجْهُولِ وَهُوَ حَرَامٌ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) يَحْرُمُ بَيْعُ )النَّجِسِ كَالدَّمِ)

الشَّرْحُ يَحْرُمُ بَيْعُ النَّجِسِ عَلَى اخْتِلافِ أَنْوَاعِهِ وَذَلِكَ كَالدَّمِ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَعَلَى تَحْريِمِ أَكْلِهِ وَقِيلَ دَمُ السَّمَكِ طَاهِرٌ. وَالْمُرَادُ بِالنَّجِسِ هُنَا نَجِسُ الْعَيْنِ. وَحُكْمُ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ بِالْمَاءِ كَالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ مِثْلُ حُكْمِ نَجِسِ الْعَيْنِ. (يَحْرُمُ بَيْعُ النَّجِسِ كَالدَّمِ وَالبَوْلِ وَرَوْثِ الْبَهَائِمِ لِأَنَّهَا نَجِسَةٌ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ أَوِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ، مِثْلُ زَيْتٍ وَقَعَ فِيهِ دَمٌ أَوْ بَوْلٌ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَّطْهِيرِ، فَيَكُونُ بَيْعُهُ غَيْرَ جَائِزٍ. وَإِذَا احْتَاجَ الْإِنْسَانُ إِلَى الدَّمِ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إِلَّا بِدَفْعِ الْمَالِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ، بِأَنْ يَتَبَرَّعَ الْمُتَلَقِّي بِمَالٍ، وَيَتَبَرَّعَ الْمُعْطِي بِالدَّمِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. أَمَّا التَّبَرُّعُ بِعُضْوٍ مِنْ مُسْلِمٍ حَيٍّ لِمُسْلِمٍ آخَرَ حَيٍّ، فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِمَنْعِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِجَوَازِهِ إِذَا كَانَ فِي حَالَةِ ضَرُورَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّ الْمُتَلَقِّي إِنْ لَمْ يُتَبَرَّعْ لَهُ بِالْعُضْوِ يَمُوتُ عَادَةً، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سَبِيلٌ آخَرُ لِإِنْقَاذِهِ، وَالْمُتَبَرِّعُ لَا يَتَعَرَّضُ لِضَرَرٍ يُؤَثِّرُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ صِحَّتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ. أَمَّا مَا يُرَوَّجُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ إِبَاحَةِ التَّبَرُّعِ بِالْأَعْضَاءِ مُطْلَقًا، وَبَيْعِهَا بِغَيْرِ ضَوَابِطَ شَرْعِيَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ، فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَصَاحِبُهُ مُخَالِفٌ لِشَرْعِ اللَّهِ. وَأَمَّا أَخْذُ عُضْوٍ مِنْ الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ بِاتِّفَاقٍ، وَمَنْ أَجَازَهُ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: )وَ) يَحْرُمُ بَيْعُ )كُلِّ( شَرَابٍ )مُسْكِرٍ( أَيْ مَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ مَعَ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ كَالْخَمْرِ وَالنَّبِيذِ الْمُسْكِرِ وَمِنْ ذَلِكَ الإِسْبِيرْتُو فَإِنَّهُ نَجِسٌ لا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلا شِرَاؤُهُ. وَالطَّرَبُ هُوَ خِفَّةٌ فِي الرُّوحِ مَعَ النَّشْوَةِ وَالْفَرَحِ. أَمَّا مَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ بِدُونِ إِطْرَابٍ، أَوْ مَا يُخَدِّرُ الْحَوَاسَّ دُونَ تَغْيِيرِ الْعَقْلِ، فَلَا يُسَمَّى خَمْرًا، وَلَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ، كَالْمُخَدِّرَاتِ مِنْ حَشِيشٍ وَأَفْيُونٍ وَنَحْوِهِمَا، وَدَلِيلُ تَحْرِيمِهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ فَفَهِمْنَا مِنْ هذه الآيةِ أَنَّ كُلَّ مَا يُؤَدِّي بِالْإِنْسَانِ إِلَى الْهَلَاكِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ. وَالْمُسْكِرَاتُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا، وَالْخَمْرُ فِي الْأَصْلِ هُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إِذَا تَخَمَّرَ وَصَارَ مُسْكِرًا، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى غَيْرِهِ مَجَازٌ. أَمَّا النَّبِيذُ فَهُوَ مَا يُنْبَذُ أَيْ يُطْرَحُ فِي الْمَاءِ وَيُنْقَعُ، فَإِذَا تَخَمَّرَ وَغَلَى صَارَ مُسْكِرًا، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ خَمْرٌ مَجَازًا، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرًا، فَإِذَا نُقِعَ التَّمْرُ، أَوِ الْمِشْمِشُ، أَوِ الْعَسَلُ فِي الْمَاءِ، يُقَالُ لَهُ عِنْدَ الْعَرَبِ نَبِيذٌ، وَقَدْ يَبْلُغُ حَدَّ الْإِسْكَارِ، وَقَدْ لَا يَبْلُغُ)

الشَّرْحُ يَحْرُمُ بَيْعُ الْمُسْكِرِ أَيْ مَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ مَعَ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُسْكِرُ مِنْ غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ كَالْعَسَلِ الْمَمْزُوجِ بِالْمَاءِ إِذَا غَلَى مِنَ الْمُكْثِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (اجْتَنِبْ كُلَّ شَىْءٍ يَنِشُّ) رَوَاهُ النَّسَائِيُّ. وَالنَّشِيشُ صَوْتُ غَلَيَانِ الشَّرَابِ وَهُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ النَّبِيذِ الْحَلالِ وَالنَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ فَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالْعَسَلِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لا يَحْرُمُ قَبْلَ أَنْ يَغْلِيَ وَلا يُسَمَّى خَمْرًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَغْلِيَ؛  وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْغَلَيَانِ الْغَلَيَانَ بِالْوَضْعِ عَلَى النَّارِ بَلِ الْغَلَيَانُ الَّذِي يَنْشَأُ فِي الْعَصِيرِ مِنَ الْمُكْثِ مَعَ تَغْطِيَةِ إِنَائِهِ، فَيَحْصُلُ لِلْغَلَيَانِ صَوْتٌ فَيَرْتَفِعُ الشَّرَابُ عِنْدَ الْغَلَيَانِ إِلَى أَعْلَى وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ مُسْكِرًا ثُمَّ يَنْـزِلُ وَيَصْفُو فَيَسْتَطِيبُهُ (أيْ يَسْتَلِذُّهُ) شَرَبَةُ الْخُمُورِ، ثُمَّ لا يَزَالُ مُحَرَّمًا إِلَى أَنْ يَصِيرَ خَلًّا وَذَلِكَ بِتَغَيُرِهِ إِلَى الْحُمُوضَةِ وَلَوْ كَانَتْ حُمُوضَةً خَفِيفَةً فَيَصِيرُ خَلًّا طَاهِرًا حَلالًا. (الرَّسولُ ﷺ لَعَنَ الخَمْرَةَ وَشارِبَهَا وَساقِيَهَا وَمُسْقَاها وَبائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا وَعاصِرَهَا ومُعْتَصِرَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمولَةَ إلَيْه وآكِلَ ثَمَنِهَا،كلُّ هؤلاءِ الرَّسولُ ﷺ لَعَنَهُم بِسَبَبِ الخَمْرَةِ. وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّسولُ ﷺ في حَديثٍ قَطُّ ناظِرَهَا، بعضُ الجُهَّالِ يَقُولُونَ وَنَاظِرَهَا)

 (فَإِذًا يَحْرُمُ بَيْعُ كُلِّ مُسْكِرٍ، وَنَعْنِي بِذَلِكَ كُلَّ شَرَابٍ يُغَيِّرُ الْعَقْلَ وَيُحْدِثُ نَشْوَةً وَطَرَبًا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ. وَفِي الْأَصْلِ، تُصْنَعُ الْخَمْرُ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ؛ إِذْ يُعْصَرُ الْعِنَبُ ثُمَّ يُتْرَكُ فِي إِنَاءٍ حَتَّى يَحْصُلَ فِيهِ غَلَيَانٌ وَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَدَخُّلِ النَّارِ، وَيُصْدِرُ نَشِيشًا، فَعِنْدَمَا يَصِلُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ يَكُونُ قَدْ تَحَوَّلَ إِلَى خَمْرٍ، وَلَكِنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ لَا يَشْرَبُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُ حَتَّى يَهْدَأَ وَيَصْفُوَ، وَيَبْقَى خَمْرًا مُحَرَّمًا إِلَى أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى خَلٍّ بِطَرِيقَةٍ طَبِيعِيَّةٍ، أَيْ بِحُدُوثِ حُمُوضَةٍ فِيهِ دُونَ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ شَيْءٌ، فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجُوزُ شُرْبُهُ.

أَمَّا إِذَا أُضِيفَ إِلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَتَخَلَّلَ فَيُصْبِحُ خَلًّا، فَإِنَّهُ يَكُونُ نَجِسًا وَيَبْقَى حَرَامًا، كَمَنْ وَضَعَ فِيهِ قِطْعَةَ خُبْزٍ أَوْ بَصَلَةً أَوْ غَيْرَهُمَا لِتَسْرِيعِ التَّخَلُّلِ، أَوْ أُضِيفَ إِلَيْهِ الْمَاءُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، أَمَّا إِذَا تَخَلَّلَ بِنَقْلِهِ مِنَ الشَّمْسِ إِلَى الظِّلِّ، أَوْ مِنَ الظِّلِّ إِلَى الشَّمْسِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي طَهَارَتِهِ وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ.

وَمِثْلُ خَمْرِ الْعِنَبِ فِي الْحُكْمِ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرُهَا يُسْكِرُ دُونَ قَلِيلِهَا، فَلَهَا نَفْسُ الْحُكْمِ، وَيَحْرُمُ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا، حَتَّى لَوِ اشْتُرِيَتْ لِغَيْرِ الشُّرْبِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ “الإِسْبِيرْتُو”، وَهُوَ رُوحُ الْخَمْرِ وَقُوَّتُهَا، فَهُوَ حَرَامٌ وَنَجِسٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) يَحْرُمُ بَيْعُ كُلِّ )مُحَرَّمٍ كَالطُّنْبُورِ وَهُوَ ءَالَةُ لَهْوٍ تُشْبِهُ الْعُودَ(

الشَّرْحُ مِنَ الْبَيْعِ الْمُحَرَّمِ بَيْعُ ءَالاتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمَةِ كَالطُّنْبُورِ (وَهُوَ آلةٌ لَهَا وَتَرٌ يُضْرَبُ بِهَا. هذهِ محرَّمَةٌ لأنَّ الرَّسُولَ ﷺ نَهَى عَنْ الْمَعَازِف) وَهُوَ شَىْءٌ يُشْبِهُ الْعُودَ (وَالْعُودُ حَرَامٌ أَيْضًا)، وَكَذَلِكَ الْمِزْمَارُ (وَالْكَمَنْجَةُ وَالَّذِي يُقَالُ لَهُ الْبِيَانُو وَالشَّبَّابَةُ وَهِيَ مِزْمَارُ الرَّاعِي كُلُّ هَذَا حَرَامٌ) وَالْكُوبَةُ وَهُوَ الطَّبْلُ الضَّيِّقُ الْوَسَطِ (الدِّرْبَكَّةُ). وَيَحْرُمُ أَيْضًا بَيْعُ النَّرْدِ إِلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ إِنْ صَلَحَ بَيَادِقَ لِلشِّطْرَنْجِ. (أَيْضًا النَّرْدُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، لَكِنْ إِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَصْلُحُ أَحْجَارًا لِلشِّطْرَنْجِ يَصِحُّ، كَذَلِكَ مَا يَحْرُمُ اللَّعِبُ بِهِ يَحْرُمُ بَيْعُهُ كَوَرَقِ الشَّدَّةِ وَمَا يُسَمَّى بِالْبَرْجِيسِ)

فَائِدَةٌ: كُلُّ لُعْبَةٍ الْعُمْدَةُ فِيهَا عَلَى الْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ لَا عَلَى الْفِكْرِ وَالْحِسَابِ فَهِيَ حَرَامٌ، لِأَنَّهَا تُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ، لِذَلِكَ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهَا حَدِيثُ مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، وَقِسْ عَلَى النَّرْدِ مَا كَانَ مِثْلَهُ. وَالْحَزْرُ وَالتَّخْمِينُ هُنَا أَيْ الِاحْتِمَالَاتُ الْعَشْوَائِيَّةُ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَهَارَةٌ فِكْرِيَّةٌ أَوْ حِسَابٌ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَحْرُمُ بَيْعُ الشَّىْءِ الْحَلالِ الطَّاهِرِ عَلَى مَنْ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَعْصِيَ بِهِ( لِمَا فِيهِ مِنَ الإِعَانَةِ عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَذَلِكَ )كَالْعِنَبِ) أَيْ بَيْعُهُ (لِمَنْ( عَلِمْتَ أَنَّهُ (يُرِيدُهُ لِلْخَمْرِ وَ) بَيْعُ )السِّلاحِ لِمَنْ( عَلِمْتَ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ نَفْسَهُ أَوْ )يَعْتَدِيَ بِهِ عَلَى النَّاسِ) فَلا يَجُوزُ.

الشَّرْحُ يَحْرُمُ بَيْعُ الْحَلالِ الطَّاهِرِ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُهُ لِلْمَعْصِيَةِ كَبَيْعِ الْعِنَبِ مِمَّنْ يَعْلَمُ (أَيْ لِمَنْ يَعْلَمُ) أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ (أَيْ لِمَنْ) يَتَّخِذُهُ ءَالَةَ لَهْوٍ مُحَرَّمٍ أَوْ صَنَمًا، وَبَيْعِ السِّلاحِ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى قِتَالٍ مُحَرَّمٍ فِي شَرْعِ اللَّهِ، وَبَيْعِ الْحَشِيشَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُخَدِّرَاتِ مِمَّنْ (أَيْ لِمَنْ) يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَعْمِلُهَا لِلْمَعْصِيَةِ. وَالْحَشِيشَةُ لا تُعَدُّ مِنَ الْمُسْكِرَاتِ وَإِنَّمَا تَحْرُمُ لِأَنَّهَا مِنَ الأَشْيَاءِ الْمُخَدِّرَةِ الضَّارَّةِ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَيْعُ الدِّيكِ لِمَنْ يُهَارِشُ بِهِ وَالثَّوْرِ لِمَنْ يُنَاطِحُ بِهِ (أيْ يَسْتَعْمِلُهُمَا فِي التَّحْرِيشِ). (قاعِدَة: كُلُّ شَىْءٍ حَلالٌ طَاهِرٌ إذَا عَلِمْتَ أنَّ إنسانًا يُريدُ انْ يَعْصِيَ بِهِ حَرامٌ عَلَيْكَ انْ تَبيعَهُ كَمَنْ يُرِيدُ شِرَاءِ الْعِنَبَ لِيَعْصِرَهُ خَمْرًا، فَلَا يَجُوزُ لَكَ بَيْعُهُ. وَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِبَيْعِ الْعِنَبِ لِمَنْ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، فَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ مَعَ الْمَعْصِيَةِ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ يَسْتَعْمِلُ عِبَارَةَ “يَجُوزُ” مُرِيدًا بِذَلِكَ صِحَّةَ الْبَيْعِ، فَلْيُتَنَبَّهْ لِذَلِكَ، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَيْعُ الْأُفْيُونِ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُهُ لِتَغْيِيرِ الْعَقْلِ، أَمَّا مَنْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي الْأَدْوِيَةِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ قِبَلِ الطَّبِيبِ الْعَارِفِ فِي الدَّوَاءِ، وَمِثْلُهُ الْحَشِيشَةُ. أَمَّا مَا لَا يُغَيِّرُ الْعَقْلَ وَلَا يُخَدِّرُ وَلَا يُسْكِرُ، كَالدُّخَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ إِلَّا لِمَنْ يَضُرُّهُ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) يَحْرُمُ )بَيْعُ الأَشْيَاءِ الْمُسْكِرَةِ( وَلَوْ جَامِدَةً

الشَّرْحُ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الإِسْبِيرْتُو وَلَوْ لِغَيْرِ الشُّرْبِ، وَمَنِ احْتَاجَ إِلَيْهَا فَلْيُحَصِّلْهَا بِغَيْرِ طَرِيقَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَأَنْ يَقُولَ بِعْنِي هَذِهِ الْقِنِّينَةَ بِكَذَا إِلَّا الإِسْبِيرْتُو الَّذِي فِيهَا فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُهُ مَجَّانًا. الإِسْبِيرْتُو مُسْكِرٌ بَلْ هُوَ رُوحُ الْخَمْرِ أَيْ قُوَّتُهُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَرْسَلَ فِي شِرَائِهِ لِأَنَّهُ كَسَائِرِ الْمُسْكِرَاتِ حُكْمًا، فَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِي تَحْريِمِ بَيْعِ الْخَمْرِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْـزِيرِ وَالأَصْنَامِ) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ تُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ (لا هُوَ حَرَامٌ) شَاهِدٌ لِتَحْريِمِ بَيْعِ الإِسْبِيرْتُو الَّذِي هُوَ مُسْكِرٌ لِمَنْ يَقْصِدُهُ لِلسُّكْرِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالْوَقُودِ وَالتَّدَاوِي لِظَاهِرِ الْجِسْمِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَرَّمَ بَيْعَ الْمَيْتَةِ بِقَصْدِ جُمْلَتِهَا أَوْ بِقَصْدِ شَحْمِهَا لِغَيْرِ الأَكْلِ كَطَلْيِ السُّفُنِ بِهَا وَدَهْنِ الْجُلُودِ وَالِاسْتِصْبَاحِ بِهَا أَيِ اتِّخَاذِهَا سِرَاجًا يُسْتَضَاءُ بِهِ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَيْعُ الْمَعِيبِ بِلا إِظْهَارٍ لِعَيْبِهِ

الشَّرْحُ يَحْرُمُ بَيْعُ الْمَعِيبِ مَعَ كِتْمَانِ عَيْبِهِ أَيْ تَرْكِ بَيَانِهِ. وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ الطَّعَامَ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَمَسَّتْ يَدُهُ بَلَلًا فَقَالَ (يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ مَا هَذَا) فَقَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ أَيِ الْمَطَرُ فَقَالَ (هَلَّا جَعَلْتَهُ ظَاهِرًا حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا). وَالْمُرَادُ بِالطَّعَامِ فِي الْحَدِيثِ الْقَمْحُ. (إِذَا شَخْصٌ بَاعَ سَيَّارَةً لِآخَرَ وَلَمْ يُظْهِرْ لَهُ مَا فِيهَا مِنَ الْعُيُوبِ، فَهَذَا حَرَامٌ وَغِشٌّ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَهَذَا الْبَيْعُ مَعَ كَوْنِهِ حَرَامًا يَصِحُّ، وَالْمُشْتَرِي لَهُ حَقُّ الرَّدِّ فَوْرًا عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الْعَيْبُ وَلَمْ يَرُدَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، فَقَدْ فَاتَهُ خِيَارُ الرَّدِّ)

 

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ (فَائِدَةً( فِي بَيَانِ مَا يُفْعَلُ بِالتَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ (لا تَصِحُّ قِسْمَةُ تَرِكَةِ مَيِّتٍ وَلا بَيْعُ شَىْءٍ مِنْهَا مَا لَمْ تُوَفَّ دُيُونُهُ وَ وَصَايَاهُ وَ تُخْرَجْ أُجْرَةُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ إِنْ كَانَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُبَاعَ شَىْءٌ لِقَضَاءِ هَذِهِ الأَشْيَاءِ فَالتَّرِكَةُ كَمَرْهُونٍ بِذَلِكَ)

الشَّرْحُ لا تَصِحُّ قِسْمَةُ التَّرِكَةِ الَّتِي خَلَّفَهَا الْمَيِّتُ مِنْ كُلِّ حَقٍّ مَالِيٍّ مَا لَمْ تُؤَدَّ دُيُونُ الْمَيِّتِ مِنْ دَيْنٍ لِلنَّاسِ أَوْ مِنْ دَيْنٍ لِلَّهِ كَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ فِي عَيْنِ الْمَالِ وَمَا لَمْ تُنَفَّذِ الْوَصَايَا أَيْ مَا أَوْصَى بِهِ بِأَنْ يُصْرَفَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَا لَمْ تُخْرَجْ أُجْرَةُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمُسْتَقِرَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ كَأَنْ مَاتَ وَقَدْ كَانَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُمَا وَتُسَلَّمْ لِمَنْ يُؤَدِّي النُّسُكَ عَنْهُ، فَلا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْوَرَثَةِ فِي شَىْءٍ مِنَ التَّرِكَةِ حَتَّى يُخْرَجَ ذَلِكَ قَبْلًا كَمَا أَنَّ الْمَرْهُونَ لا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَا يُزِيلُ الْمِلْكَ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي رُهِنَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا بِيعَ لِقَضَاءِ شَىْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ.

(مِمَّا لَا يَصِحُّ قِسْمَةُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ أَوْ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ تُوَفَّى دُيُونُهُ وَوَصَايَاهُ، وَقَبْلَ إِخْرَاجِ أُجْرَةِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ إِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ عَلَيْهِ، فَإِذَا مَاتَ الشَّخْصُ صَارَتْ تَرِكَتُهُ مَرْبُوطَةً بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ، وَجَبَ قَضَاؤُهَا مِنَ التَّرِكَةِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا، حَتَّى لَوْ كَانَ الدَّيْنُ فِي الْأَصْلِ يَحِلُّ بَعْدَ سَنَةٍ، فَإِنَّهُ بِمَوْتِهِ يَصِيرُ حَالًّا، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُسْتَحَقُّ لِلْعِبَادِ أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى، فَمَثَلًا إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ خَمْسَةُ آلَافِ دُولَارٍ لِشَخْصٍ، وَكَانَ لَمْ يُخْرِجِ الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لِثَلَاثِ سِنِينَ، تُدْفَعُ الزَّكَاةُ الواجِبَةُ وَيُوَفَّى الدَّيْنُ مِنَ التَّرِكَةِ.

وَكَذَلِكَ تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ، فَإِنْ كَانَتْ بِثُلُثِ التَّرِكَةِ أَوْ أَقَلَّ، وَكَانَتْ وَصِيَّةً جَائِزَةً، وُجِبَ إِنْفَاذُهَا، رَضِيَ الْوَرَثَةُ أَوْ لَمْ يَرْضَوْا، أَمَّا إِذَا زَادَتْ عَلَى الثُّلُثِ، فَالزَّائِدُ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَاهُمْ، فَمَنْ تَرَكَ تَرِكَةً قِيمَتُهَا عَشْرَةُ آلَافِ دُولَارٍ وَأَوْصَى بِخَمْسَةِ آلَافٍ لِلْجَمْعِيَّةِ، فَإِنَّ ثُلُثَ الْعَشْرَةِ آلَافٍ (وَهُوَ ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَثُلُثٍ) يُدْفَعُ وَاجِبًا، وَمَا زَادَ عَنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ الْوَرَثَةِ.

وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ وَجَبَ إِخْرَاجُ أُجْرَتِهِمَا مِنَ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، فَإِنْ قُسِمَتِ التَّرِكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا إِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ تَوْزِيعَ الثَّمَنِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، أَمَّا إِذَا بِيْعَ شَيْءٌ مِنَ التَّرِكَةِ لِسَدَادِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ.

فَمَثَلًا، إِنْ مَاتَ شَخْصٌ وَلَمْ يَتْرُكْ نُقُودًا، وَإِنَّمَا تَرَكَ قَطِيعًا مِنَ الْبَقَرِ، وَكَانَ عَلَيْهِ حَجٌّ وَعُمْرَةٌ وَجَبَ إِخْرَاجُ أُجْرَةِ مَنْ يَحُجُّ وَيَعْتَمِرُ عَنْهُ مِنَ التَّرِكَةِ، فَإِنْ قَسَّمَ الْوَرَثَةُ الْبَقَرَ بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ، وَإِنْ بَاعُوا كُلَّ الْبَقَرِ ثُمَّ تَقَاسَمُوا الثَّمَنَ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ، إِلَّا إِذَا بَاعُوا جُزْءًا مِنْهُ لِسَدَادِ أُجْرَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ صَحِيحًا.

فَالْتَرِكَةُ كَـالْمَرْهُونِ بِهَذِهِ الْحُقُوقِ، فَإِذَا مَاتَ شَخْصٌ وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، فَإِنَّهُ يُسَدَّدُ مِنَ التَّرِكَةِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا، كَمَا أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُبَاعُ حَتَّى يُسَدَّدَ الدَّيْنُ، وَكَذَلِكَ التَّرِكَةُ لَا تُقْسَمُ حَتَّى يُسَدَّدَ الدَّيْنُ وَتُخْرَجَ نَفَقَةُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ، وَتُنَفَّذَ الْوَصَايَا.

أَمَّا إِذَا مَاتَ الشَّخْصُ وَكَانَ عَلَيْهِ دُيُونٌ تَفُوقُ التَّرِكَةَ، وَكَانَ وَرَثَتُهُ أَغْنِيَاءَ، فَهَلْ يُلْزَمُونَ بِوَفَاءِ مَا زَادَ عَنْ قِيمَةِ التَّرِكَةِ؟
الْجَوَابُ: لَا، لَيْسَ ذَلِكَ لَازِمًا، وَلَكِنْ إِنْ وَفَّوْا الدَّيْنَ مِنْ عِنْدِهِمْ فَهُوَ أَمْرٌ طَيِّبٌ وَفِعْلٌ حَسَنٌ)

 

ثُمَّ ذَكَرَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثَالًا ءَاخَرَ لِمَا لا يَصِحُّ بَيْعُهُ حَتَّى تُؤَدَّى الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لِزِيَادَةِ تَقْرِيبِ الْمَسْئَلَةِ لِفَهْمِ الطَّالِبِ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (كَرَقِيقٍ جَنَى) (أَيِ ارْتَكَبَ جِنَايَةً) فَأَتْلَفَ مَالَ شَخْصٍ (وَلَوْ) كَانَتْ جِنَايَتُهُ (بِأَخْذِ دَانَقٍ) وَهُوَ سُدُسُ دِّرْهَمٍ فَأَتْلَفَهُ (لا يَصِحُّ بَيْعُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ) مَالِكُهُ (مَا بِرَقَبَتِهِ أَوْ يَأْذَنَ الْغَريِمُ فِي بَيْعِهِ) فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ وَالْغَرِيْمُ هُوَ صَاحِبُ الْمَالِ الَّذِي أَتْلَفَهُ الرَّقِيقُ.

الشَّرْحُ الْعَبْدُ إِذَا تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ غَرَامَةٌ كَأَنْ سَرَقَ دَانَقاً فَأَتْلَفَهُ لا يَجُوزُ لِسَيِّدِهِ بَيْعُهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا بِرَقَبَتِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْغَريِمِ مُتَعَلِّقٌ بِالرَّقَبَةِ فَهِيَ مَشْغُولَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِ السَّيِّدِ لَهَا أَوْ حَتَّى يَأْذَنَ الْغَريِمُ وَهُوَ ذُو الْمَالِ لِسَيِّدِ الْعَبْدِ فِي بَيْعِهِ فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ. وَالدَّانَقُ سُدُسُ الدِّرْهَمِ. (يَضْرِبُ الْمُؤَلِّفُ هُنَا مِثَالًا لِمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ حَتَّى تُؤَدَّى الْحُقُوقُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ، كَالْعَبْدِ الَّذِي جَنَى بِسَرِقَةِ مَالٍ مِنْ شَخْصٍ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا كَالدَّانَقِ، فَلَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ الْغَرِيمُ بِذَلِكَ، أَوْ يُقَدِّمَ صَاحِبُ الْعَبْدِ مَالًا بَدَلًا عَنْ الَّذِي سُرِقَ وَيُعْطِيَهُ لِصَاحِبِ الْحَقِّ، أَوْ يَسْتَخْرِجَ الْمَالَ مِنَ الْعَبْدِ وَيَرُدَّهُ إِلَى مَالِكِهِ، فَيَكُونُ هَذَا الْعَبْدُ مَوْقُوفًا عَنِ الْبَيْعِ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا بِرَقَبَتِهِ، أَوْ يَأْذَنَ الْغَرِيمُ فِي بَيْعِهِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ الرَّهْنُ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ أَوِ الْهِبَةِ قَبْلَ وَفَاءِ الدَّيْنِ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْجَانِي لَا يُتَصَرَّفُ فِيهِ إِلَّا بَعْدَ سَدَادِ مَا عَلَيْهِ أَوْ إِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَيَحْرُمُ أَنْ يُفَتِّرَ رَغْبَةَ الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ لِيَبِيعَ عَلَيْهِ أَوْ لِيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ.

الشَّرْحُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُفَتِّرَ رَغْبَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ كَأَنْ يُخْرِجَ لَهُ أَرْخَصَ مِمَّا يُرِيدُ شِرَاءَهُ أَوْ يَبِيعَ بِحَضْرَتِهِ مِثْلَ الْمَبِيعِ بِأَرْخَصَ أَوْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ لِيَشْتَرِيَهُ (يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ أَنْ يُفَتِّرَ رَغْبَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ، كَأَنْ يُقَدِّمَ لَهُ سِلْعَةً أَرْخَصَ مِمَّا يُرِيدُ شِرَاءَهُ، أَوْ يَبِيعَ بِحَضْرَتِهِ مِثْلَ الْمَبِيعِ بِسِعْرٍ أَقَلَّ، أَوْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ بَدِيلًا لِيَشْتَرِيَهُ.

وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ شَخْصًا اتَّفَقَ مَعَ آخَرَ عَلَى شِرَاءِ بَضَاعَةٍ بِسِعْرٍ مُحَدَّدٍ، فَجَاءَ إِلَى الْمُشْتَرِي وَقَالَ لَهُ لَا تَشْتَرِ بِهَذَا الثَّمَنِ، فَإِنِّي أَبِيعُكَ بِأَقَلَّ مِنْهُ، أَوْ أَنَا أُعْطِيكَ أَحْسَنَ بِنَفْسِ السِّعْرِ مَعَ عِلْمِهِ بِاتِّفَاقِهِمَا ، فَهَذَا حَرَامٌ. أَمَّا إِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لِيَبِيعَهُ بِأَقَلَّ، إِنَّمَا قَالَ لَهُ “لَا تَشْتَرِ” لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ لَهُ مَصْلَحَةً فِي هَذَا، فَلَيْسَ فِيهِ مَعْصِيَةٌ) كَمَا يَحْرُمُ تَفْتِيرُ رَغْبَةِ الْبَائِعِ كَأَنْ يُرَغِّبَهُ بِاسْتِرْدَادِهِ لِيَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِأَغْلَى أَوْ يَطْلُبَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي بِزِيَادَةِ رِبْحٍ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ (كَأَنْ يَأْتِيَ شَخْصٌ بَعْدَمَا اسْتَقَرَّ الثَّمَنُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي، ثُمَّ يَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ نَفْسَ السِّلْعَةِ بِسِعْرٍ أَعْلَى مِمَّا اشْتَرَاهَا بِهِ، وَذَلِكَ أَمَامَ الْبَائِعِ أَيْ عَلَى مَسْمَعٍ مِنْهُ). وَحُرْمَةُ ذَلِكَ تَكُونُ إِنْ حَصَلَ التَّفْتِيرُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ بِأَنْ يَكُونَا قَدْ صَرَّحَا بِالرِّضَا بِهِ وَإِنْ فَحُشَ نَقْصُ الْقِيمَةِ عَنِ الثَّمَنِ (أَيْ وَإِنْ كَانَ فَرْقُ السِّعْرِ كَبِيرًا وَزَائِدًا عَنْ سِعْرِ السُّوقِ).

(أَمَّا إِنْ جَاءَكَ شَخْصٌ وَقَالَ لَكَ “أَنَا أَشْتَرِي مِنْ هَذِهِ الْبِضَاعَةِ عَادَةً بِعِشْرِينَ” فَقُلْتَ لَهُ “أَبِيعُكَ بِعِشْرِينَ”، فَيَجُوزُ هُنَا، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الثَّمَنِ مَعَ بَائِعٍ آخَرَ، وَلَمْ تَقُلْ لَهُ “لَا تَشْتَرِ مِنْهُ” حَتَّى تَبِيعَهُ أَنْتَ بِسِعْرٍ أَقَلَّ، فَلَا مَعْصِيَةَ فِي ذَلِكَ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَبَعْدَ الْعَقْدِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَشَدُّ.

الشَّرْحُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنَ التَّفْتِيرِ إِنْ وَقَعَ بَعْدَ إِجْرَاءِ الْعَقْدِ وَقَبْلَ لُزُومِهِ أَيْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ أَيْ خِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ فَهُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَبَعْدَ الِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الإِيذَاءَ هُنَا أَكْثَرُ. (مُدَّةُ الْخِيَارِ أَقْصَاهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَيُسَمَّى هَذَا “خِيَارُ الشَّرْطِ”، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْعَقْدِ “اشْتَرَيْتُ مِنْكَ كَذَا وَلِيَ الْخِيَارُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ”، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ خِلَالَ هَذِهِ الْمُدَّةِ يَحِقُّ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الْبِضَاعَةَ وَيُفْسِخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرْجِعَ مَالَهُ. فَإِذَا جَاءَ شَخْصٌ إِلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ حصول الْعَقْدِ، وَلَكِنْ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَقَالَ لَهُ “لَا تَشْتَرِ مِنْهُ، فَإِنِّي أَبِيعُكَ بِسِعْرٍ أَقَلَّ”، فَهُنَا يَكُونُ إِثْمُهُ أَشَدَّ مِنَ الْحَالَةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ حَصَلَ)

 (فائِدَةٌ: يوجَدُ في البَيْعِ خِيارانِ خِيارٌ يُسَمَّى خِيارَ المَجْلِسِ وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ الْبَيْعُ، وَيَكُونَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي لا يَزَالَانِ فِي الْمَجْلِسِ وَمَا تَفَرَّقَا، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ. والآخَرُ خِيارُ الشَّرْطِ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا بِأَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ (الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعُ) مُدَّةً لِإِمْكَانِ فَسْخِ الْبَيْعِ، وَأَقْصَاهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَقْتَ الْغَلاءِ وَالْحَاجَةِ لِيَحْبِسَهُ وَيَبِيعَهُ بِأَغْلَى

الشَّرْحُ يَحْرُمُ أَنْ يَشْتَرِيَ الإِنْسَانُ الطَّعَامَ أَيِ الْقُوتَ حَتَّى التَّمْرَ وَالزَّبِيبَ وَنَحْوَهُمَا وَقْتَ الْغَلاءِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ (لَا لِيَبِيعَهُ فَوْرًا، إِنَّمَا) لِيَحْبِسَهُ (عِنْدَهُ عَنِ الْبَيْعِ) وَ (مِنْ ثَمَّ) يَبِيعَهُ بِأَغْلَى مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ عِنْدَ اشْتِدَادِ حَاجَةِ أَهْلِ مَحَلِّهِ أَوْ غَيْرِهِمْ إِلَيْهِ (كَمَنْ يَشْتَرِي كَمِّيَّاتٍ كَبِيرَةً مِنَ القَمْحِ مَثَلًا وَقْتَ الغَلَاءِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ، لَا لِيَبِيعَهُ فِي السُّوقِ فَوْرًا، إِنَّمَا لِيَحْبِسَهُ فِي مَسْتَوْدَعَاتِهِ مَثَلًا مُنْتَظِرًا أَنْ يَقِلَّ وُجُودُهُ بَيْنَ النَّاسِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى ارْتِفَاعِ سِعْرِهِ بِسَبَبِ قِلَّةِ العَرْضِ وَزِيَادَةِ الطَّلَبِ، فَيَسْتَغِلُّ هَذِهِ الحَاجَةَ وَيَبِيعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِسِعْرٍ مُرْتَفِعٍ جِدًّا لِيُحَقِّقَ أَرْبَاحًا هَائِلَةً) وَهَذَا يُسَمَّى الِاحْتِكَارَ وَهَذَا تَفْسِيرُهُ فِي الْمَذْهَبِ، فَخَرَجَ بِذَلِكَ احْتِكَارُ طَعَامٍ غَيْرِ قُوتٍ (كَالتُّفَّاحِ وَالبَنَدُورَةِ). وَاحْتِكَارُ قُوتٍ لَمْ يَشْتَرِهِ كَغَلَّةِ ضَيْعَتِهِ (أَيْ كَمَحْصُولِ أَرْضِهِ، كَمَنْ عِنْدَهُ مَثَلًا أَرْضٌ زَرَعَهَا قَمْحًا، فَحَصَدَهُ وَتَرَكَهُ عِنْدَهُ، حَبَسَ القَمْحَ مُدَّةً حَتَّى يَبِيعَهُ بِأَغْلَى، فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَرَجٌ، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا تَحْتَ الِاحْتِكَارِ الْمُحَرَّمِ، لأَنَّ الِاحْتِكَارَ الْمُحَرَّمَ أَنْ يَشْتَرِيَ، وَهَذَا لَمْ يَشْتَرِ. أَمَّا لَوِ اشْتَدَّتْ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى القَمْحِ، ثُمَّ أَصْبَحَ النَّاسُ فِي ضَرُورَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّ القَاضِي يُجْبِرُهُ عَلَى البَيْعِ، وَيَقُولُ لَهُ أَبْقِ لِنَفْسِكَ وَلِعِيَالِكَ قُوتَ سَنَةٍ، وَأَمَّا الزَّائِدُ فَبِعْهُ، وَلَا تَحْبِسْهُ عَنِ النَّاسِ) أَوِ (إِذَا كَانَ) اشْتَرَاهُ وَقْتَ الرُّخْصِ (وَحَبَسَهُ إِلَى وَقْتِ ارْتِفَاعِ السِّعْرِ لِيَبِيعَ بِأَغْلَى، فَهَذَا لَيْسَ احْتِكَارًا مُحَرَّمًا، وَلَكِنْ إِذَا اشْتَدَّتْ حَاجَةُ النَّاسِ إِلَى القَمْحِ، ثُمَّ أَصْبَحَ النَّاسُ فِي ضَرُورَةٍ شَدِيدَةٍ إِلَيْهِ، فَإِنَّ القَاضِي يُجْبِرُهُ عَلَى البَيْعِ، وَيَقُولُ لَهُ أَبْقِ لِنَفْسِكَ وَلِعِيَالِكَ قُوتَ سَنَةٍ، وَأَمَّا الزَّائِدُ فَبِعْهُ، وَلَا تَحْبِسْهُ عَنِ النَّاسِ) أَوِ (إِذَا كَانَ اشْتَرَى القُوتَ وَقْتَ) الْغَلاءِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ أَوْ لِيَبِيعَهُ لا بِأَكْثَرَ (فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ). وَنَقَلَ السُّبْكِيُّ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ أَنَّهُ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ يَحْرُمُ احْتِكَارُ مَا بِالنَّاسِ ضَرُورَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي غُنْيَةٍ عَنْهُ. (وَالْقَاضِي حُسَيْنٍ شَيْخُ الأُمَّةِ الْمَشْهُورُ، كَانَ يُلَقَّبُ بِحَبْرِ الأُمَّةِ، كَمَا كَانَ يُلَقَّبُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. القَاضِي حُسَيْنُ يَقُولُ إِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا النَّاسُ غَيْرُ الأَقْوَاتِ كَذَلِكَ تَدْخُلُ فِي هَذَا الحُكْمِ، كَالبَنْزِينِ وَالثِّيَابِ الَّتِي يَتَّقِي بِهَا النَّاسُ الحَرَّ أَوِ البَرْدَ وَيَسْتُرُونَ بِهَا العَوْرَةَ، فَمَنْ اشْتَرَى الثِّيَابَ الَّتِي يَضْطَرُّ النَّاسُ إِلَيْهَا وَقْتَ الغَلَاءِ وَالحَاجَةِ بِنِيَّةِ أَنْ يَحْبِسَهَا لِيَبِيعَهَا بِأَغْلَى، فَهَذَا حَرَامٌ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَأَنْ يَزِيدَ فِي ثَمَنِ سِلْعَةٍ لِيَغُرَّ غَيْرَهُ

الشَّرْحُ هَذَا يُسَمَّى النَّجْشَ وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ وَذَلِكَ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ (وَلا تَنَاجَشُوا) فَيَحْرُمُ النَّجَشُ وَلَوْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ فِي مَالِ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِتَرْويِجِهِ لَهُ (مَعْنَاهُ وَلَوْ كَانَ وَلِيُّ الْمَالِ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ مَنْ يَرْعَاهُ وَيَتَوَلَّى أَمْرَهُ. كَمَنْ يَقُولُ “أَنَا عِنْدِي وَلَدٌ صَغِيرٌ، وَأَنَا أُحَافِظُ عَلَى مَالِهِ” ثُمَّ يَتَّفِقُ مَعَ شَخْصٍ آخَرَ لِيَزِيدَ فِي سِعْرِ سِلْعَةٍ يَمْلِكُهَا هَذَا الوَلَدُ، حَتَّى يَغْتَرَّ النَّاسُ وَيَشْتَرُوا مِنْهُ بِسِعْرٍ أَعْلَى، فَيَزْدَادَ مَالُ الوَلَدِ الصَّغِيرِ. فَهَذَا حَرَامٌ. وَمِنَ الحَرَامِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الْمَزَادَاتِ، وَهُوَ أَنْ يَتَّفِقَ صَاحِبُ الْبِضَاعَةِ مَعَ شَخْصٍ آخَرَ، لَا لِيَشْتَرِيَ، بَلْ لِيُغِرَّ النَّاسَ، أَيْ حَتَّى يَظُنَّ الْمُشْتَرُونَ أَنَّ السِّلْعَةَ ثَمَنُهَا كَمَا يُعْرَضُ، وَيَقُولُ لَهُ ادْخُلْ فِي هَذَا الْمَزَادِ، وَكُلَّمَا ذُكِرَ ثَمَنٌ فَارْفَعْهُ لِتُغِرَّ النَّاسَ وَيَزِيدُوا فِي السِّعْرِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ) وَيَلْتَحِقُ بِالنَّجْشِ مَدْحُ السِّلْعَةِ لِيُرَغِّبَ غَيْرَهُ فِيهَا بِكَذِبٍ. (أَيْ أَنْ يَصِفَهَا شَخْصٌ بِصِفَاتٍ غَيْرِ حَقِيقِيَّةٍ، أَوْ يُبَالِغَ فِي مَدْحِهَا لِجَذْبِ الْمُشْتَرِينَ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى خِدَاعِهِمْ وَدَفْعِهِمْ لِشِرَائِهَا عَلَى غَيْرِ حَقِيقَتِهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَائِعٌ يَبِيعُ سَيَّارَةً قَدِيمَةً أَوْ فِيهَا عُيُوبٌ، لَكِنَّهُ يُبَالِغُ فِي مَدْحِهَا وَيَقُولُ “هَذِهِ السَّيَّارَةُ جَدِيدَةٌ، وَلَمْ تُسْتَخْدَمْ إِلَّا قَلِيلًا، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنَ السَّيَّارَاتِ الأُخْرَى”، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) يَحْرُمُ (أَنْ يُفَرِّقَ) شَخْصٌ (بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَوَلَدِهَا) بِالْبَيْعِ (قَبْلَ التَّمْيِيزِ) وَلَوْ رَضِيَتْ بِالتَّفْرِيقِ. وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَلَدُهَا مَجْنُونًا بَالِغًا، فَيَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ إِفَاقَتِهِ، لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

الشَّرْحُ يَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بِالْبَيْعِ بَيْنَ الأَمَةِ وَوَلَدِهَا قَبْلَ أَنْ يُمَيِّزَ الْوَلَدُ (لِأَنَّهُ مَا زَالَ بِحَاجَةٍ إِلَى أُمِّهِ) وَلَوْ رَضِيَتْ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَلَدُهَا مَجْنُونًا بَالِغًا (لِأَنَّ الْمَجْنُونَ البَالِغَ فِي الْمَعْنَى مِثْلُ الصَّغِيرِ غَيْرِ البَالِغِ، لَا يَسْتَقِلُّ بِتَدْبِيرِ أُمُورِهِ لِوَحْدِهِ، مَا زَالَ بِحَاجَةٍ إِلَى أُمِّهِ كَالصَّغِيرِ) فَيَحْرُمُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ إِفَاقَتِهِ. (فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ كَانَ عِنْدَهُ جَارِيَةٌ مَعَهَا وَلَدٌ لَمْ يُمَيِّزْ أَنْ يَبِيعَ الجَارِيَةَ وَحْدَهَا، أَوِ الوَلَدَ وَحْدَهُ، بَلْ يَجِبُ فِي هَذِهِ الحَالَةِ أَنْ يَبِيعَهُمَا مَعًا)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) يَحْرُمُ (أَنْ يَغُشَّ) بِإِخْفِاءِ الْعَيْبِ (أَوْ يَخُونَ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالذَّرْعِ وَالْعَدِّ أَوْ) أَنْ (يَكْذِبَ) كَأَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ إِنَّ هَذَا الْمَبِيعَ يُبَاعُ فِي السُّوقِ بِكَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُبَاعُ بِأَقَلَّ.

الشَّرْحُ مِمَّا يَحْرُمُ مِنَ الْبَيْعِ الْغَشُّ فِيهِ أَوِ الْخِيَانَةُ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الذَّرْعِ أَوِ الْعَدِّ أَوْ الْكَذِبُ بِالْقَوْلِ فِي شَىْءٍ مِنْ ذَلِكَ. (وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكِيلَ شَيْئًا أَوْ يَزِنَهُ، ثُمَّ يَدَّعِي زِيَادَتَهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ، كَمَنْ يَقُولُ “هَذَا عَشَرَةُ آصُعٍ” وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ تِسْعَةٌ، أَوْ يَدَّعِي أَنَّ وَزْنَهُ خَمْسُونَ رِطْلًا وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ أَرْبَعُونَ. وَمِنَ الخِدَاعِ أَيْضًا أَنْ يَسْتَعْمِلَ كَيْلًا دَقِيقًا عِنْدَ الشِّرَاءِ، وَنَاقِصًا عِنْدَ البَيْعِ، أَوْ يَسْتَعْمِلَ عِيارًا مُخْتَلِفًا لِتَغْرِيرِ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ فِي الذَّرْعِ، كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ بَائِعِي القِمَاشِ، إِذَا قَاسُوا بِأَيْدِيهِمْ دُونَ مَدِّهَا كَامِلًا، فَيُوهِمُونَ الْمُشْتَرِيَ بِزِيَادَةِ الطُّولِ، وَهُوَ فِي الحَقِيقَةِ أَقَلُّ. وَمِنْ أَسَالِيبِ الغِشِّ أَيْضًا التَّلَاعُبُ بِالعَدِّ، كَمَنْ يَبِيعُ بَيْضًا أَوْ فَوَاكِهَ بِالوَاحِدَةِ، فَيَعِدُّ أَمَامَ الْمُشْتَرِي عَشْرَةً، ثُمَّ يَنْقُصُ مِنْهَا وَيُسَلِّمُهُ تِسْعَةً فَقَطْ، أَوْ يُسْرِعُ فِي العَدِّ لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ العَدَدَ أَكْثَرُ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ فِي الحَقِيقَةِ. كُلُّ هَذَا مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مِنَ التَّطْفِيفِ فِي الكَيْلِ وَالوَزْنِ وَالذَّرْعِ وَالعَدِّ، وَيُعَدُّ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُوا۟ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلَا يَظُنُّ أُو۟لَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾ أَيْ لِلْحِسَابِ.

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَ) يَحْرُمُ (أَنْ يَبِيعَ) شَخْصٌ (الْقُطْنَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْبَضَائِعِ) لِشَخْصٍ لا يَمْلِكُ ثَمَنَ الْمَبِيعِ مَثَلًا (وَيُقْرِضَ) الْبَائِعُ (الْمُشْتَرِيَ فَوْقَهُ دَرَاهِمَ) مَثَلًا (وَيَزِيدَ فِي ثَمَنِ تِلْكَ الْبِضَاعَةِ لِأَجْلِ) ذَلِكَ (الْقَرْضِ) بِحَيْثُ يَجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا. مَثَلًا يَقُولُ لِشَخْصٍ أَقْرَضْتُكَ هَذِهِ الْعَشَرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ تَرُدَّهَا عَشَرَةً وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي كَذَا بِكَذَا وَيَزِيدَ فِي ثَمَنِ الْبِضَاعَةِ لِأَجْلِ هَذَا الْقَرْضِ، هَذَا دَخَلَ تَحْتَ حَدِيثِ كُلُّ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً فَهُوَ رِبَا، لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ جَرَّ الْمَنْفَعَةِ. فَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ رِبَا الْقَرْضِ (وَ) يَحْرُمُ (أَنْ يُقْرِضَ) شَخْصٌ (الْحَائِكَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الأُجَرَاءِ) جَمْعُ أَجِيرٍ (وَيَسْتَخْدِمَهُ) بِالْعَمَلِ لَهُ (بِأَقَلَّ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَرْضِ أَيْ) أَنَّهُ (إِنْ شَرَطَ ذَلِكَ) فَقَدْ دَخَلَ فِي رِبَا الْقَرْضِ أَيْضًا وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ (وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الرَّبْطَةَ) مَثَلًا شَخْصٌ يَعْلَمُ أَنَّ إِنْسَانًا يَعْمَلُ فِي الحِياكَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمِهَنِ، وَهُوَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الْمَالِ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ “أَنَا أَسْتَغِلُّ حَالَهُ”. فَجَاءَ إِلَى الحَائِكِ وَسَأَلَهُ “بِكَمْ تَخِيطُ هَذَا الثَّوْبَ؟” فَقَالَ الحَائِكُ “أَخِيطُهُ بِعِشْرِينَ دُولَارًا”، فَقَالَ لَهُ أَنَا أُقْرِضُكَ مَالًا بِشَرْطِ أَنْ تَخِيطَ لِي الثَّوْبَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دُولَارًا. فَهُنَا رَبَطَهُ بِذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهُ “الرَّبْطَةَ”، أَيْ رَبَطَهُ بِهَذَا العَقْدِ، وَهَذَا أَيْضًا يُعَدُّ قَرْضًا جَرَّ مَنْفَعَةً، وَهُوَ حَرَامٌ (أَوْ يُقْرِضَ) شَخْصٌ (الْحَرَّاثِينَ) مَالًا (إِلَى وَقْتِ الْحَصَادِ وَيَشْتَرِطَ) عَلَيْهِمْ (أَنْ يَبِيعُوا عَلَيْهِ) أَيْ يَبِيعُوهُ (طَعَامَهَمْ بِأَوْضَعَ) أَيْ بِأَنْقَصَ (مِنَ السِّعْرِ قَلِيلًا) أَوْ كَثِيرًا (وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ الْمَقْضِيَّ) فَهُوَ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي رِبَا الْقَرْضِ وَهُوَ حَرَامٌ. مَعْرُوفٌ أَنَّهُ فِي آخِرِ المَوْسِمِ يَقِلُّ مَالُ الحَرَّاثِينَ عَادَةً، لِأَنَّهُم قَدْ بَذَلُوا أَمْوَالَهُم فِي شِرَاءِ البَذْرِ وَالثَّمَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِذَا جَاءَهُمْ شَخْصٌ وَقَالَ لِأَحَدِهِمْ “أَنَا أُقْرِضُكَ عِشْرِينَ أَلْفَ دُولَارٍ، وَلَكِنَّ الْمَحْصُولَ الَّذِي تَبِيعُ مِنْهُ الصَّاعَ لِلنَّاسِ بِنِصْفِ دُولَارٍ، تَبِيعُنِي إِيَّاهُ بِرُبْعِ دُولَارٍ” فَهَذَا يُقَالُ عَنْهُ “الْمَقْضِيّ” لِأَنَّ هَذَا العَقْدَ قَضَى بِذَلِكَ، وَهُوَ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً، فَهُوَ حَرَامٌ)

الشَّرْحُ أَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ حَرَامٌ بِشَرْطِ أَنْ يَسْبِقَ اتِّفَاقٌ عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ رِبَا الْقَرْضِ (أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ تَكُونُ مُحَرَّمَةً إِذَا كَانَ هُنَاكَ اتِّفَاقٌ مُسْبَقٌ يَقْضِي بِأَنْ يَحْصُلَ المُقْرِضُ عَلَى مَنْفَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ مُقَابِلَ قَرْضِهِ، وَهَذَا يُعْتَبَرُ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا الَّذِي نَهَتْ عَنْهُ الشَّرِيعَةُ). وَأَمَّا لَوْ أَقْرَضَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فَأَجْرَى الْعَقْدَ بِدُونِ هَذَا الِاتِّفَاقِ لَمْ يَحْرُمْ (أَيْ أَنَّهُ إِذَا أَقْرَضَ شَخْصٌ غَيْرَهُ مَالًا دُونَ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ فِي الْمُقَابِلِ مَنْفَعَةً مُعَيَّنَةً، ثُمَّ أَتَبِعَ ذَلِكَ مُعَامَلَةً تِجَارِيَّةً بِطَرِيقَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَرَامًا، لِأَنَّ القَرْضَ فِي أَصْلِهِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْرُونًا بِشَرْطِ جَرِّ مَنْفَعَةٍ لِلْمُقْرِضِ)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وَكَذَا جُمْلَةٌ مِنْ مُعَامَلاتِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ) الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْجَهْلُ وَقَلَّتْ فِيهِ التَّقْوَى (وَأَكْثَرُهَا) أَيِ الْمُعَامَلاتِ مُحَرَّمَةٌ لِأَنَّهَا (خَارِجَةٌ عَنْ قَانُونِ الشَّرْعِ)

الشَّرْحُ كُلُّ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الْمَذْكُورَاتِ فَهُوَ حَرَامٌ لِأَنَّهُ لا يَخْلُو مِنْ مَحْظُورَاتِ الشَّرْعِ (فَكُلُّ مُعَامَلَةٍ لَا تُوَافِقُ الشَّرْعَ تَكُونُ مُحَرَّمَةً). وَمِنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْمُعَامَلاتِ الْفَاسِدَةِ أَنْوَاعُ التَّأْمِينَاتِ الَّتِي تَعَارَفُوهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ كَتَأْمِينِ السَّيَّارَةِ أَوْ تَأْمِينِ الْبَضَائِعِ الْمُسْتَجْلَبَةِ وَمَا يُسَمُّونَهُ التَّأْمِينَ عَلَى الْحَيَاةِ (أَوْ التَّأمينَ الطِبِيَّ كُلُّ هَذَا فَاسِدٌ لَا يَجوزُ الدُّخُولُ فِيهِ) فَيَجِبُ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بِالتَّوْبَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَحِلُّ لِمَنْ لا يُمَكَّنُ مِنْ شِرَاءِ السَّيَّارَةِ إِلَّا بِطَرِيقِ التَّأْمِينِ أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لا يَأْخُذُ بَعْدَ ذَلِكَ مِمَّنْ أَمَّنَ مِنْهُمْ (أَيْ مِنْ هَذِهِ الشَّرِكَةِ التي أَمَّنَ مِنْهُم) إِلَّا قَدْرَ مَا دَفَعَ. (فَإِذَا أَخَذَتِ الشَّرِكَةُ مِنْهُ مِائَةً، ثُمَّ بَعْدَ الْحَادِثِ إِنْ أَرَادُوا أَنْ يَدْفَعُوا لَهُ، يَأْخُذُ مِائَةً، فَيَأْخُذُ بَدَلَ مَا أَخَذُوا مِنْهُ، وَلَا يَزِيدُ شَيْئًا إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُمْ. وَهَذَا التَّأْمِينُ فِي مَعْنَى رِبَا القَرْضِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ عِنْدَمَا يَدْفَعُ هَذَا الْمَالَ، يَدْفَعُهُ بِنِيَّةِ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ إِذَا حَصَلَ حَادِثٌ، فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ. وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ ﷺ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ، رَوَاهُ البُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا)

 

قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: (فَعَلَى مُرِيدِ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَسَلامَةِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ) مِنَ الْحَرَامِ (أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ عَالِمٍ وَرِعٍ نَاصِحٍ شَفِيقٍ عَلَى دِينِهِ) أَمَّا إِذَا عَاشَ بِدُونِ عِلْمٍ، فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلهَلَاكِ، وَقَدْ قَالَ العُلَمَاءُ: العِلْمُ يَحْرُسُكَ، أَمَّا الْمَالُ فَأَنْتَ تَحْرُسُهُ. فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالٌ كَثِيرٌ، يَأْتِي بِحُرَّاسٍ، وَيَضَعُ بَوَّابًا، وَيَأْتِي بِخَزْنَةٍ وَيُقْفِلُ عَلَيْهَا، أَمَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ، فَيَكُونُ هَذَا العِلْمُ حَارِسًا لَهُ، فَإِذَا جَاءَهُ أَحَدُ الضَّالِّينَ يُرِيدُ أَنْ يُضِلَّهُ، العِلْمُ يَكُونُ حَارِسًا لَهُ. فَعَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْمُعَامَلَةِ، وَلَا يَنْتَظِرُ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مُنْتَصَفِهَا أَوْ آخِرِهَا، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى العَالِمِ لِيَسْتَفْتِيهِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ مُعَامَلَاتٍ دُونَ أَنْ يَتَعَلَّمَ. فَدُخُولُ الشَّخْصِ فِي مُعَامَلَةٍ لَا يَعْلَمُ إِنْ كَانَتْ تُوَافِقُ الشَّرْعَ أَمْ لَا، لَا يَجُوزُ (فَإِنَّ طَلَبَ الْحَلالِ) أَيِ اجْتِنَابَ الْحَرَامِ (فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ).

الشَّرْحُ يَجِبُ تَعَلُّمُ عِلْمِ الدِّينِ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْحَلالُ وَالْحَرَامُ تَلَقِّيًا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالثِّقَةِ، فَلا يَجُوزُ اسْتِفْتَاءُ مَنْ لَيْسَ لَهُ كَفَاءَةٌ فِي عِلْمِ الدِّينِ وَلا اسْتِفْتَاءُ الْعَالِمِ الْفَاسِقِ. قَالَ الإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ التَّابِعِيُّ الْجَلِيلُ مُحَمَّدُ بنُ سِيرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ (وَمَعْنَى كَلَامِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ العِلْمَ لَا يُؤْخَذُ إِلَّا مِمَّنْ تَلَقَّاهُ مِنَ الثِّقَاتِ، الَّذِينَ أَخَذُوهُ عَنْ أَمْثَالِهِمْ بِسِلْسِلَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِالصَّحَابَةِ. فَإِنَّ عِلْمَ الدِّينِ لَا سَبِيلَ لِتَحْصِيلِهِ إِلَّا بِالتَّلَقِّي بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ، لِأَنَّ عِلْمَ الدِّينِ لَيْسَ مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ يَفْتَكِرُهَا الشَّخْصُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ هُوَ نَقْلٌ وَتَلَقٍّ صَحِيحٌ بِالإِسْنَادِ الْمُتَّصِلِ إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالأَئِمَّةِ الْمُعْتَمَدِينَ) وَمَعْنَى قَوْلِهِ إِنَّ طَلَبَ الْحَلالِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنَّهُ لا يَجُوزُ تَنَاوُلُ رِزْقٍ مِنْ طَرِيقٍ حَرَامٍ بَلْ عَلَى مَنْ أَرَادَ تَحْصِيلَ الْمَالِ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ أَوْ حَاجَةِ عِيَالِهِ أَنْ يَسْعَى لِلتَّحْصِيلِ بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ شَرْعًا، وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَمْكُثَ مِنْ دُونِ تَعَاطِي عَمَلٍ فَلَوْ تَرَكَ الشَّخْصُ الْعَمَلَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ غَيْرَ مُعْتَمِدٍ عَلَى السُّؤَالِ مِنْ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى الشَّحَاذَةِ بَلْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَرِّضٍ لِذَلِكَ وَاثِقًا بِرَبِّهِ أَنَّهُ يَسُوقُ إِلَيْهِ رِزْقَهُ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ رَجُلًا شَكَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَخَاهُ لِأَنَّهُ لا يَحْتَرِفُ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ (لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ) الشَّاهِدُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُنْكِرْ عَلَى الأَخِ تَرْكَ الِاحْتِرَافِ مَعَ أَخِيهِ. (كَانَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَخَوَانِ، أَحَدُهُمَا كَانَ يَشْتَغِلُ بِأَمْرِ البَيْتِ، وَالآخَرُ مُتَفَرِّغٌ لِلْعِبَادَةِ، فَشَكَا الَّذِي يَشْتَغِلُ أَخَاهُ الَّذِي لَا يَعْمَلُ، فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ ﷺ لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ، أَيْ لَعَلَّ اللَّهَ يَرْزُقُكَ بِبَرَكَةِ هَذَا الَّذِي لَا يَشْتَغِلُ وَقَدْ تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ، فَمَا عَلَيْهِ ذَنْبٌ. أَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا فِي الْمَسْجِدِ فَضَرَبَهُ وَقَالَ لَهُ “اذْهَبْ وَاشْتَغِلْ”، فَهَذَا لَمْ يَثْبُتْ. إِنَّمَا الْمَطْلُوبُ مِنَ الإِنْسَانِ أَنْ لَا يُعَلِّقَ قَلْبَهُ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَإِذَا كَانَ يَقِينُهُ قَوِيًّا وَثِقَتُهُ بِاللَّهِ كَامِلَةً، فَلَمْ يَشْتَغِلْ، فَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ).

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 

لِمُشَاهَدَةِ الدَّرْسِ: https://youtu.be/1ORKFHf88Wc

 

لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى الدَّرْسِ:    https://soundcloud.com/shaykh-gilles-sadek/umdah-31