الجمعة مارس 29, 2024

الرَّدُّ العِلمي عَلَى ضَلَالَاتِ محمد راتب النابلسي-10


الجزء الثالث من المَسْئَلَةِ الرَّابِعَة
إِنكَارُ النَّابُلسِي الصَّرِيحُ لِلقَدَرِ وَأَنَّ الله لَم يَخْلُق الشَّرَّ

ومعنى قوله (بل شىءٌ قُضِيَ عليهم ومضى عليهم)، أي أن حركات العباد وسكناتهم كلها شىء حصل من العباد بقضاء الله، ومعنى قول السائل: (أفلا يكون ظلمًا) أي أنه أراد أن يزيد في امتحانه فقال: أفلا يكون ظلمًا، والمعنى إن كان الإنسان يعمل فيما قدّر الله تعالى يعمل على حسب مشيئة الله وعلمه ثم حاسبه في الآخرة على هذا العمل فعاقبه ألا يكون ظلمًا، قال (ففزعت من ذلك فزعًا شديدًا وقلت: كل شىء خلْقُه وملك يده لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون).

وقد أَلْهَمَ اللهُ تعالى أبا الأسود الصواب فأجاب بما معناه أن الله لا يحكمه أحد هو فعال لما يريد، جعل الأعمال أمارات أي علامات، ووفق بعض الناس بأن يختاروا الهدى والصالحات من الأعمال وينساقوا إليها باختيارهم على حسب مشيئته وعلمه فيكونوا من أهل النعيم المقيم، وأن ينساق قسم منهم باختيارهم إلى ما نهى الله عنه من غير أن يخرجوا عن تقدير الله وعلمه، فإذا حاسب العصاة وعاقبهم لا يكون ظالمًا لأنه هو الحاكم ليس له حاكم هو الآمر ليس له ءامر ولم يتصرف فيما ليس له لأن الظلم في لغة العرب هو أن يتصرف بما ليس له، والله تعالى كل شىء خلْقُه وملكه لا يُسأل عما يفعل وهم أي العباد يُسْأَلُون.

فقال عليه الصلاة والسلام (بل شىءٌ قُضِيَ عليهم ومضى عليهم) ومصداق ذلك قول الله تبارك وتعالى (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَألهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)) [الشمس 7-8] والمعنى أن كل ما يعمله العباد من حركات وسكنات حتى النوايا والقصود تكون على حسب مشيئة الله الأزلية وعلمه وتقديره، ثم جزاهم على الحسنات الثواب وعلى السيئات العقاب، والرسول صلى الله عليه وسلم استدل بالآية المذكورة وأيّد جوابه لهما لأن الله أقسم بالنَّفس وما سَوَّاها، على أن الله تبارك وتعالى هو الذي يُلهِم النفوس فجورها وتقواها أي أنه لا يكون شىء من أعمال العباد خيرها وشرها إلا بخلق الله تعالى فيهم ذلك.

وروى أبو داود عن ابن عمر مرفوعًا (القدرية مجوس هذه الأمة) وعنده من طريق حذيفة مرفوعًا كذلك (لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر).

وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (صنفان من أمتي ليس لهما نصيب في الإسلام القدرية والمرجئة)، والقدرية هم المعتزلة وقد صرّح بكفرهم جماعة كبيرة منهم الإمام مالك بن أنس فقد روى البيهقي (1) عن إسحاق بن محمد الفروي أنه قال: سئل مالك عن تزويج القَدَرِي فقال (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) [البقرة 221].

ومنهم الإمام أبو حنيفة كما صرّح في بعض رسائله وقد قال (2) (الكلام بيننا وبين القدرية في حرفين يقال لهم: هل عَلِمَ اللهُ ما يكون من العباد قبل أن يفعلوا فإن قالوا: لا، كفروا لأنهم جهّلوا ربهم، وإن قالوا: عَلِم، يقال لهم: هل شاء خلاف ما عَلِمَه؟ فإن قالوا: نعم، كفروا لأنهم قالوا شاء أن يكون جاهلًا، وإن قالوا: لا، رجعوا إلى قولنا). اهـ
ولذلك قال الإمام الشافعي (3) رضي الله عنه: (القَدَرِيُّ إذا سلّم العلم خُصِم). اهـ

وقد كفّر الشافعي حفصًا الفرد من رؤوس المعتزلة وقال له (لقد كفرتَ بالله العظيم) رواه البيهقي في مناقب الشافعي (4).

وأما تكفير أحمد بن حنبل لهم فمعروف مشهور عنه رواه عدد منهم البيهقي وابن الجوزي وغيرهما.

وروى الإمام أبو منصور البغدادي في أصول الدين (5) تكفير أبي حنيفة وأبي يوسف لهم بل قال أبو يوسف فيهم (إنهم زنادقة). اهـ

وروى الحافظ البيهقي في مناقب الشافعي: قال الشافعي للمُزني: تدري مَن القدري؟ القدريّ الذي يقول إن الله لم يخلق الشر حتى عُمِلَ به.

أما النابلسي (6) فلا يعتبر كلام الشافعي وغيره من العلماء بل والمسلمين قاطبة، فالعاقل لا ينظر إلى الطفيل الجهول الظلوم بل يأخذ بمن قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا قريشًا فإن فيها عالمًا يملأ طباق الأرض عِلمًا)، وفُسِّرَ بالشافعي.

وفي الحِجَاج يُقال: مَن رأس الشر في هذا الكون، فالجواب: إبليس وأعوانه، والله هو خالقهم.

وخلاصة ما مَرَّ أنَّ كلام النابلسي هذا والذي سبق موافق لكلام المعتزلة قبحهم الله، فإنك تلاحظ أنه تتبع معتقداتهم وآرائهم واقتفى ءاثارهم فيها، إلا أنه خفي عليه أن أئمة السنة قد نبذوهم وطرحوا آراءهم وحكموا بضلالهم وهاك البيان:

فقد روى البيهقيُّ عن سيّدنا الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما أنّه قال (والله ما قالت القدريّةُ بقولِ الله ولا بقولِ الملائكةِ ولا بقول النبيّينَ ولا بقولِ أهلِ الجنّةِ ولا بقولِ أهلِ النّارِ ولا بقولِ صاحبِهِم إبليس)، فقالَ الناس: تُفَسِّرُهُ لنا يا ابنَ رسولِ الله، فقال [قال الله عزَّ وجلَّ (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)) [سورة يونس]]. اهـ

فالمعتزلةُ خالفوا الله تعالى في قولِه هذا لأنّهم قالوا والعياذ بالله (العبدُ خَلقَ الحسنات وعملَها فصارَ فرضًا على الله أن يُدخِلَهُ الجنَّةَ، وليس إدخاله للعبادِ الجنّة فضلًا منه)، فمعناهُ على زعمهم أنَّ الله مدينٌ للعبادِ لأنّهم خَلقوا هذه الحسنات فهو مُلزَمٌ بأن يُدخِلَهم الجنَّةَ وهذا كفرٌ شنيع، والصوابُ أن الله تعالى فضلًا منه يُدخلُ المؤمنينَ الجنةَ لأنه هو الذي خَلقَهم وهو الذي ألهمَهُم أعمالَ الخيرِ وهو الذي خلقَ فيهم هذه الجوارحَ وهو الذي خلقَ فيهم العقلَ الذي به ميّزوا بين الحقّ والباطلِ والحسنِ والقبيحِ، وهو الذي خلقَ هذه الجنّةَ، فإدخالُ الصّالحينَ الجنّةَ ليس فرضًا على الله، فليسوا ممتنِّينَ على الله بل هو المُمتنُّ عليهم، هذا معنى كلام سيّدنا الحسين رضي الله عنه، وكذلك الله تبارك وتعالى قالَ (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) فأفهَمَنَا أنه لا يهتدي أحدٌ إلا بمشيئتِهِ الأزليّةِ، والمعتزلةُ ينفونَ عن الله الصِّفَات، ومذهبهم أنَّ الله تعالى لا يُقالُ لهُ إرادةٌ وله علمٌ وله سمعٌ وله بصرٌ وله كلامٌ، وإنَّما يقولونَ هو قادرٌ بذاتِهِ وعالمٌ بذاتِهِ، وأحيانًا يقولون هو عالمٌ لذاتِهِ وقادرٌ لذاتِهِ لا بعلمٍ ولا قدرةٍ، فقد خالفوا الآية بأكثر من وجهٍ كما قالَ سيّدنا الحسين رضي الله عنه.

وقد خالفت المعتزلة الآية (وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ (29)) [سورة التكوير]، فقالوا: نحن بإرادتنا نخلقُ المعاصيَ والشُّرورَ، قالوا: الله ما له تصرّفٌ في ذلكَ، والحقُّ عند أهل السنَّة والجماعة أنَّ الله أخبرنا أنَّ العبادَ لا تحصلُ منهم مشيئةٌ إلا أن يشاءَ الله في الأزلِ أن يشاؤوا، فالمعتزلة خالفوا الآية.

وخالفوا أيضًا قولَ الله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى (6) إِلا مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)) [سورة الأعلى]، فهذه الآيةُ فيها دليلٌ أيضًا على أنَّ أعمالَ القلوب من الخَلقِ بمشيئةِ الله لأنّ الله تعالى أخبرنا عن سيّدنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم أنه يَنسَى ما شَاءَ الله نسيانَهُ، أمّا ما لم يشأه الله تعالى له أن ينساه أي ممَّا أنزل عليه من القرءانِ فلا ينسى، ففي قوله (إِلا مَا شَاءَ اللهُ) دليلٌ على أنَّ القلبَ يتصرَّف الله فيه كيف يشاء كما وَرَدَ في حديثِ أبي هريرة الذي رواه مسلم (إنَّ قلوب بني ءادم بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحدٍ)، ومعناه هو المُتَصَرِّفُ فيها هو يُقَلِّبُها كيف يشاءُ، وليس معناه أن لله جوارح وأعضاء تنزه الله عن ذلك، فما لهؤلاءِ التَّائهينَ بعد أن أخبرنا الله تعالى أنَّ القلوبَ هو يُقَلِّبُها يقولونَ إنَّ العبدَ هو يخلقُ أفعالَ نفسِهِ مشيئته وحركاته وسكناته، وأوّلُ من فَتَحَ هذا البابَ ممّن يدّعي الإسلامَ المعتزلةُ فأضلّوا كثيرًا من النّاسِ، فكانَ في أيّامِ السَّلفِ أناسٌ أحوالُهم حسنةٌ طيّبةٌ بحسبِ الظَّاهرِ ولكن فَتَنَهم المعتزلة فَضَلُّوا.

(1) القضاء والقدر، البيهقي، (ص324).
(2) إشارات المرام، البياضي، (ص304-307).
(3) إشارات المرام، البياضي، (ص301).
(4) مناقب الشافعي، البيهقي، (1/407).
(5) أصول الدين، أبو منصور البغدادي، (ص308).
(6) يزعم النابلسي: من يؤمن بأن الله يوقع الشر لذاته لا يعرف الله إطلاقًا. قلت: وهذا فيه نسبة المؤمنين إلى الجهل بربهم وتضليل الأمة الإسلامية. (3/250) يصرح بتكفير من قال لو شاء الله لم أفعل هذا الشىء.

يتبع الجزء الرابع من المسألة الرابعة.