الخميس مارس 28, 2024

   قَالَ الْمُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَنَرَى الْجَمَاعَةَ حَقًّا وَصَوَابًا وَالْفُرْقَةَ زَيْغًا وَعَذَابًا.

   الشَّرْحُ مُرَادُهُ بِالْجَمَاعَةِ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ فِى مَسْئَلَةٍ دِينِيَّةٍ فِى الِاعْتِقَادِ أَوِ الْفُرُوعِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْجَمَاعَةِ طَاعَةَ الإِمَامِ الَّذِى بَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَى الإِمَامِ الَّذِى صَحَّتْ بَيْعَتُهُ مِنَ الْكَبَائِرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِىَ اللَّهَ لا حُجَّةَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِى عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَيَنْطَبِقُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَاتَلُوهُ وَلا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِىٍّ بِدَلِيلِ قَوْلِ عَلِىٍّ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ «إِنَّ بَنِى أُمَيَّةَ يُقَاتِلُونَنِى يَزْعُمُونَ أَنَّنِى قَتَلْتُ عُثْمَانَ وَكَذَبُوا إِنَّمَا يُرِيدُونَ الْمُلْكَ» رَوَاهُ الْحَافِظُ مُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَدٍ فِى مُسْنَدِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِىُّ وَابْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَهَذَانِ أَدْرَى بِحَالِ مُعَاوِيَةَ مِمَّنْ قَالَ إِنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَقَدْ نَقَلَ الْفَقِيهُ الْمُتَكَلِّمُ ابْنُ فُورَك فِى كِتَابِ مَقَالاتِ الأَشْعَرِىِّ كَلامَ الإِمَامِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ فِى أَمْرِ الْمُخَالِفِينَ لِعَلِىِّ بنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَا نَصُّهُ «وَكَانَ أَىِ الأَشْعَرِىُّ يَقُولُ فِى أَمْرِ الْخَارِجِينَ عَلَيْهِ وَالْمُنْكِرِينَ لإِمَامَتِهِ إِنَّهُمْ كُلَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْخَطَإِ فِيمَا فَعَلُوا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا مَا فَعَلُوا مِنْ إِنْكَارِ إِمَامَتِهِ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِى أَمْرِ عَائِشَةَ إِنَّهَا إِنَّمَا قَصَدَتِ الْخُرُوجَ طَلَبًا لِلإِصْلاحِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ بِهَا لِلتَّوَسُّطِ فِى أَمْرِهِمَا، فَأَمَّا طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَإِنَّهُمَا خَرَجَا عَلَيْهِ وَكَانَا فِى ذَلِكَ مُتَأَوِّلَيْنِ مُجْتَهِدَيْنِ يَرَيَانِ ذَلِكَ صَوَابًا بِنَوْعٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُمَا خَطَأً وَأَنَّهُمَا رَجِعَا عَنْ ذَلِكَ وَنَدِمَا وَأَظْهَرَا التَّوْبَةَ وَمَاتَا تَائِبَيْنِ مِمَّا عَمِلا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِى حَرْبِ مُعَاوِيَةَ إِنَّهُ كَانَ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ وَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ خَطَأً وَبَاطِلًا وَمُنْكَرًا وَبَغْيًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ إِمَامٍ عَادِلٍ، فَأَمَّا خَطَأُ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ فَكَانَ يَقُولُ إِنَّهُ وُقِعَ مَغْفُورًا لِلْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنِ النَّبِىِّ أَنَّهُ حَكَمَ لَهُمَا بِالْجَنَّةِ فِيمَا رُوِىَ فِى خَبَرِ بِشَارَةِ عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالْجَنَّةِ فَذَكَرَ فِيهِمْ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ، وَأَمَّا خَطَأُ مَنْ لَمْ يُبَشِّرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ فِى أَمْرِهِ فَإِنَّهُ مُجَوَّزٌ غُفْرَانُهُ وَالْعَفْوُ عَنْهُ» اهـ.

فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ إِمَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَبِى الْحَسَنِ الأَشْعَرِىِّ بِأَنَّ كُلَّ مُقَاتِلِيهِ عَصَوْا وَأَنَّ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ تَابَا مِنْ ذَلِكَ جَزْمًا وَأَنَّ الآخِرِينَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ يَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ. فَبَعْدَ هَذَا لا يَسُوغُ لِأَشْعَرِىٍّ أَنْ يُخَالِفَ كَلامَ الإِمَامِ فَيَقُولَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ وَجَيْشَهُ غَيْرُ ءَاثِمِينَ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ بُغَاةٌ وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ إِنَّهُمْ مَأْجُورُونَ فَأَبْعَدُ مِنَ الْحَقِّ.

   وَعَنَى الْمُؤَلِّفُ بِالْفُرْقَةِ مُخَالَفَةَ الإِجْمَاعِ، وَالزَّيْغُ هُوَ الْمَيْلُ وَقَوْلُهُ «وَعَذَابًا» أَىْ أَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْعَذَابِ أَىْ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.