الجمعة مارس 29, 2024

وَضعُه التُّرابَ على رؤوسِ الكافرِينَ مِن غيرِ أنْ يَرَوهُ

473-        

كَذَا التُّرَابُ فِي رُؤُوسِ القَوْمِ قَدْ


 

وَضَـعَـهُ وَلَـمْ يَـرَهْ مِنْهُمْ أَحَدْ


 



(كَذَا) أي مِثلُ المُعجزةِ السّابقةِ فِي الذِّكْرِ حصَلَ له ﷺ مِمّا فيهِ إذلالٌ للكافرِينَ وهزِيمةٌ لَهُم، وكانوا قد أجمَعوا على قَتلِه ﷺ فخرَجَ مِن بابِ البَيتِ مِن بَينِهم و(التُّرَابُ فِي) أي فوقَ (رُؤُوسِ) هؤلاءِ كُفّارِ (القَوْمِ) قُريشٍ (قَدْ وَضَعَهُ) ﷺ، فلَمْ يُخطِئِ التُّرابُ رأسًا مِن رؤوسِ الصّناديدِ (وَلَمْ يَرَهُ)(مِنْهُمْ أَحَدٌ) معَ أنّه مَرَّ مِن بَينِهم.

رَوَى أبو نُعَيمٍ في «الدَّلائِل» بسنَدَينِ إلى ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهُما قَالَ: لَمّا عَرَفَت قُرَيشٌ أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ قَد كانَت لَهُ شِيعَةٌ وأصحابٌ مِن غَيرِ بَلَدِهِم ورَأوا خُروجَ أصحابِهِ مِن المُهاجِرِينَ إلَيهِم عَرَفوا أنَّهُم قَد نَزَلوا دارًا أصابوا مِنهُم مَنَعَةً فَحَذِروا خُروجَ رَسولِ اللهِ ﷺ فاجتَمَعوا لَهُ فِي دارِ النَّدوَةِ، وهِيَ دارُ قُصَيِّ بنِ كِلابٍ الَّتِي كانَت قُرَيشٌ لا تَقضِي أمرًا إلّا فِيها فَيَتَشاوَرونَ فِيها ما يَصنَعونَ مِن أمرِ رَسولِ اللهِ ﷺ حِينَ خافوهُ.

فَلَمّا اجتَمَعوا لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ اليَومِ الَّذِي اتَّعَدوا([1]) لَهُ وكانَ ذَلِكَ اليَومُ يُسَمَّى الزَّحمَةَ – اعتَرَضَ لَهُم إبلِيسُ فِي هَيئَةِ رَجُلٍ شَيخٍ جَلِيلٍ([2]) عَلَيهِ بَتٌّ([3]) لَهُ فَوَقَفَ علَى بابِ الدّارِ، فَلَمّا رَأوهُ واقِفًا علَى بابِها قالوا: مَنِ الشَّيخُ؟ قالَ: شَيخٌ مِن أهلِ نَجدٍ سَمِعَ بِالَّذِيَ اتَّعَدْتُم لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُم لَيَسمَعَ ما تَقولونَ وعَسَى أن لا يَعدِمَكُم مِنهُ رَأيٌ ونُصحٌ، قالوا: أجَلْ فادخُلْ، فَدَخَلَ مَعَهُم وقَدِ اجتَمعَ فِيها أشرافُ قُرَيشٍ([4]) مِن كُلِّ قَبِيلَةٍ، مِن بَنِي عَبدِ شَمسٍ عُتبَةُ وشَيبَةُ ابْنَا رَبِيعةَ وأبو سُفيانَ بنُ حَربٍ، ومِن بَنِي نَوفَلِ بنِ عَبدِ مَنافٍ طُعَيمَةُ بنُ عَدِيٍّ وجُبَيرُ بنُ مُطعِمٍ والحارِثُ بنُ عامِرِ بنِ نَوفَلٍ، ومِن بَنِي عَبدِ الدّارِ بنِ قُصَيٍّ النَّضرُ بنُ الحارِثِ بنِ كَلَدَةَ، ومِن بَنِي أسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى أبو البَخْتَرِيِّ بنُ هِشامٍ وزَمعَةُ بنُ الأسوَدِ بنِ المُطَّلِبِ وحَكِيمُ بنُ حِزامٍ، ومِن بَنِي مَخزومٍ أبو جَهلِ بنُ هِشامٍ، ومِن بَنِي سَهمٍ مُنَبِّهٌ ونُبَيهٌ ابْنَا الحَجّاجُ، ومِن بَنِي جُمَحَ أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ، ومَن لا يُعَدُّ مِن قُرَيشٍ.

فَقالَ بَعضُهُم لِبَعضٍ: إنَّ هَذا الرَّجُلَ قَد كانَ مِن أمرِهِ ما قَد رَأيتُم، وإنّا واللهِ لا نَأْمَنُهُ مِن الوُثوبِ عَلَينا بِمَن اتَّبَعَهُ مِن غَيرِنا، فَأجمِعوا رَأيًا، فَتَشاوَروا فَقالَ قائِلٌ مِنهُمُ: احبِسوهُ بِالحَدِيدِ وأغلِقوا عَلَيهِ بابًا ثُمَّ تَرَبَّصوا بِهِ ما أصابَ أشباهَهُ مِن الشُّعَراءِ قَبْلَهُ زُهَيرًا والنّابِغَةَ ومَن مَضَى مِنهُم مِن هَذا المَوتِ حَتَّى يُصِيبَهُ مِنهُ ما أصابَهُم، فَقالَ الشَّيخُ النَّجدِيُّ: لا واللَّهِ ما هَذا لَكُم بِرَأيٍ، واللَّهِ لَو حَبَستُموه كَما تَقولونَ لَخَرَجَ أمرُهُ مِن وراءِ البابِ الَّذِي أغلَقتُم عَلَيهِ دونَهُ إلَى أصحابِهِ فَلَأَوْشَكوا أنْ يَثِبوا عَلَيكُم فَيَنْتزِعوهُ مِن أيدِيكُم ثُمَّ يُكابِرونَكُم حَتَّى يَغْلِبوكُم علَى أمرِكُم، ما هَذا لَكُم بِرَأيٍ فانظُروا فِي غَيرِهِ. ثُمَّ تَشاوَروا فَقالَ قائِلٌ مِنهُم: نُخرِجُهُ مِن بَينِ أظهُرِنا فَنَنفِيهِ مِن بَلَدِنا فَإذا خَرَجَ عَنّا فَما نُبالِي أينَ يَذهَبُ ولا حَيثُ وقَعَ، غابَ عَنّا أذاهُ وفَرَغنا مِنهُ وأصلَحنا أمرَنا، قالَ الشَّيخُ النَّجدِيُّ: لا واللَّهِ ما هَذا لَكُم بِرَأيٍ، ألَم تَرَوا حُسنَ حَدِيثِهِ وحَلاوَةَ مَنطِقِهِ وغَلَبَتَهُ علَى قُلوبِ الرِّجالِ بِما أتَى بِهِ، واللَّهِ لَو فَعَلتُم ذَلِكَ ما أمِنتُ أن يَحِلَّ علَى حَيٍّ مِن أحياءِ العَرَبِ فَيَغلِبَ بِذَلِكَ مِن قَولِهِ عَلَيهِم وبِحَدِيثِهِ حَتَّى يُتابِعُوهُ عَلَيهِ ثُمَّ يَسِير إلَيكُم حَتَّى يَطَأَكُم بِهِ فَيَأخُذَ أمرَكُم مِن أيدِيكُم ثُمَّ يَفعَلَ بِكُم ما أرادَ، دَبِّروا فِيهِ رَأيًا غَيرَ هَذا، فَقالَ أبو جَهلٍ: إنَّ لِي فِيهِ لَرَأيًا ما أراكُم وقَعتُم عَلَيهِ بَعدُ، قالوا: وما هَذا يا أبا الحَكَمِ؟ قالَ: أرَى أن نَأخُذَ مِن كُلِّ قَبِيلَةٍ شابًّا جَلْدًا([5]) خَلِيلًا([6]) نَسِيبًا وسِيطًا ثُمَّ نُعطِي كُلَّ فَتًى مِنهُم سَيفًا صارِمًا([7]) ثُمَّ يَعمِدونَ إلَيهِ ثُمَّ يَضرِبونَهُ ضَربَةَ رَجُلٍ واحِدٍ فَيَقتُلونَهُ جَمِيعًا ونَستَرِيحَ مِنهُ، فَإنَّهُم إذا فَعَلوا ذَلِكَ تَفَرَّقَ دَمُهُ علَى القَبائِلِ كُلِّها فَلَم يَقدِر بَنو عَبدِ مَنافٍ علَى حَربِ قَومِهِم جَمِيعًا، وإنْ رَضُوا بِالعَقلِ([8]) عَقَلناهُ لَهُم، قالَ الشَّيخُ

النَّجدِيُّ: القَولُ ما قالَ الرَّجُلُ، هَذا الرَّأيُ لا أرَى لَكُم غَيرَهُ.

فَتَفَرَّقَ القَومُ علَى ذَلِكَ وهُم مُجمِعونَ لَهُ، فَأتاهُ جِبرِيلُ فَقالَ: لا تَبِت هَذِهِ اللَّيلَةَ علَى فِراشِكَ الَّذِي كُنتَ تَبِيتُ عَلَيهِ، فَلَمّا كانَ عَتَمَةٌ مِن اللَّيلِ اجتَمَعوا علَى بابِهِ يَرصُدونَهُ حَتَّى يَنامَ فَيَثِبونَ عَلَيهِ، فَلَمّا رَأى رَسولُ اللهِ ﷺ مَكانَهُم قالَ لِعَلِيٍّ: «نَمْ علَى فِراشِي وتَسَجَّ بِبُردِي([9]) هَذا الأخضَرِ الحَضرَمِيِّ فَإنَّهُ لا يَخلُصُ إلَيكَ شَىءٌ تَكْرَهُهُ مِنهُم».

فاجتَمَعوا لَهُ ﷺ وفِيهِم أبو جَهلٍ فَقالَ وهُم علَى بابِهِ: إنَّ مُحَمَّدًا زَعَمَ أنَّكُم إنْ تابَعتُموهُ علَى أمرِهِ كُنتُم مُلوكَ العَرَبِ والعَجَمِ ثُمَّ يَبعَثُكُم مِن بَعدِ مَوتِكُم لَكُم جِنانٌ، وإنْ لَم تَفعَلوا كانَ لَكُم مِنهُ ذَبحٌ ثُمَّ بُعِثتُم مِن بَعدِ مَوتِكُم فَجُعِلَت لَكُم نارٌ تُحرَقونَ فِيها. فَخَرَجَ رَسولُ اللهِ ﷺ وأخَذَ حَفْنَةً مِن تُرابٍ فِي يَدِهِ، فأَخَذَ اللهُ علَى أبصارِهِم فَلَمْ يَرَوهُ، فَجَعَلَ يَنثُرُ ذَلِكَ التُّرابَ علَى رُؤوسِهِم وهو يَتلو هَذِهِ الآياتِ: ﱡﭐ ﱜ ﱝ ﱞ ﱟ إلَى قَولِهِ تَعالَى: ﲉ ﲊ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ
ﲓ ﲔ
 [يس: 1-9] حَتَّى فرَغَ رَسولُ اللهِ ﷺ مِن هَؤُلاءِ الآياتِ فَلَم يَبْقَ رَجُلٌ إلّا وضَعَ علَى رَأسِهِ تُرابًا ثُمَّ انصَرَفَ إلَى حَيثُ أرادَ أنْ يَذهَبَ.

فَأتاهُم ءاتٍ مِمَّن لَم يَكُن مَعَهُم فَقالَ: ما يَنتَظِرُ هَؤُلاءِ؟ قالوا: مُحَمَّدًا، قالَ: خَيَّبَكُمُ اللَّهُ، قَدْ واللَّهِ خَرَجَ عَلَيكُم مُحَمَّدٌ ثُمَّ ما تَرَكَ مِنكُم رَجُلًا إلّا وضَعَ علَى رَأسِهِ تُرابًا وانطَلَقَ لِحاجَتِهِ، أفَلا تَرَونَ إلَى ما بِكُم؟ فَوَضَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهُم يَدَهُ علَى رَأسِهِ فَإذا عَلَيهِ تُرابٌ، ثُمَّ جَعَلوا يَتَطَلَّعونَ فَيَرَونَ عَلِيًّا علَى الفِراشِ مُتَسَجِّيًا بِبُرْدِ رَسولِ اللهِ ﷺ فَيَقولونَ: واللَّهِ إنَّ هَذا لَمُحَمَّدٌ نائِمٌ عَلَيهِ بُردُهُ، فَلَم يَبرَحوا كَذَلِكَ حَتَّى أصبَحوا فَقامَ عَلِيٌّ عَنِ الفِراشِ فَقالوا: واللَّهِ لَقَد صَدَقَنا الَّذِي حَدَّثَنا، فَكانَ مِمّا نَزَلَ مِن القُرءانِ فِي

ذَلِكَ اليَومِ: ﱡﭐ ﲀ ﲁ  ﲂ  ﲃ  ﲄ ﲅ ﲆ  ﲇ ﲈ  ﲉ  ﲌ  ﲍ ﲏ ﲐ ﲑ ([10])  [الأنفال: 30].



([1])  أي تَواعَدُوا. قال الجوهرِيُّ في «الصَّحاح» (2/522): “تواعَدَ القَومُ أيْ وَعَدَ بَعضُهم بَعضًا، هذَا في الخَيرِ، وأمَّا في الشَّرِّ فيُقالُ: اتَّعَدُوا”.

([2])  أي مُسِنٍّ، قاله في «النّهاية في غريبِ الحديثِ» (1/288).

([3])  كِساءٌ غلِيظٌ مُربَّعٌ.

([4])  أي رُؤساؤُهم.

([5])  أي شَدِيدًا.

([6])  أي كَرِيمًا.

([7])  أي قاطِعٌ.

([8])  أي الدِّيَةِ.

([9])  أي غَطِّ وَجْهَكَ وجَسَدَك بِرِدائي.

([10])  قال شيخُنا الإمامُ الهررَيُّ رحمه الله تعالَى: “المَكرُ مِن الخَلْقِ خُبثٌ وخِداعٌ لإيصالِ الضّرَر إلى الغَيرِ باستِعمالِ حِيلةٍ، وأمّا مِن اللهِ تَعالَى فهوَ مُجازاةُ الماكرِينَ بالعُقوبةِ مِن حَيثُ لا يَدرُون. وبعِبارةٍ أخرَى: إنّ اللهَ أقوَى في إيصالِ الضّرَر إلى الماكرِينَ مِن كُلّ ماكِرٍ جَزاءً لَهُم علَى مَكرِهم، أمّا المَكرُ بمعنَى الاحتِيالِ فمُستحِيلٌ على اللهِ تعالَى. فمَكرُ العَبدِ مَذمومٌ، أمّا مَكرُ اللهِ فَلا يُذَمّ لأنّ اللهَ عّز وجلّ لا يَجُوزُ علَيهِ الظُّلمُ أيْ لا يَكونُ ظالِمًا إنِ انتَقَم مِن عبادِه الظّالمِينَ بِما شاءَ”.