الأربعاء ديسمبر 11, 2024

(ولا يجوز) ولا يصِحُّ (أن يَلِيَ القضاءَ إلا مَنِ اسْتُكْمِلَتْ فيه خمسَ عشرةَ خصلةً) إحداها (الإسلامُ) فلا تصح ولايةُ الكافر ولو على كافرٍ مثلِهِ وما جَرَتْ به عادةُ الوُلاةِ في الْماضي مِن نصبِ رجلٍ مِن أهلِ الذِّمَّةِ فتقليدُ رئاسةٍ وزعامةٍ لا تقليدُ حُكمٍ وقضاءٍ فيصيرُ بذلك رئيسًا عليهم لا قاضيًا ولا يَلْزَمُهم حكمُهُ إلا بالتزامِهِم لا بإلزامِهِ فهو كالْمحَكَّمِ لا كالحاكمِ. (و)الثانيةُ والثالثةُ (البلوغُ والعقلُ) فلا ولايةَ لِصَبِيٍّ ومجنونٍ أطبقَ جنونُه أو لا. (و)الرابعةُ (الحريةُ) الكاملةُ فلا تصح ولايةُ مَن فيه رِقٌّ. (و)الخامسةُ (الذكوريَّةُ) يقينًا فلا تصحُّ ولايةُ امرأةٍ لِحَديثِ البخاريِّ وغيرِهِ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً اهـ ولا يليقُ بها مجالسةُ الرجالِ في مقلِ هذا الْموضعِ ورفعُ صوتِها بينهم ومثلُها الخُنْثَى فلو وُلِّيَ الخُنْثَى حالَ الجهلِ بحالِهِ فَحَكَمَ ثم بانَ ذَكَرًا لم ينفُذْ حكمُهُ في الْمذهبِ وأمَّا بعد اتضاحه ذكرًا فتصِحُّ توليتُهُ وينفُذُ حكمُه. (و)السادسةُ (العدالةُ) وهيَ شرعًا مَلَكةٌ في النفس تمنع من اقتراف الكبائر والرذائل الْمباحة فمن ارتكب كبيرةً أو أصرَّ على صغيرةٍ فغلبَت صغائرُهُ طاعاتِهِ أو وقعَ فيما يخرمُ مُرُوءَتَهُ فلا تصح له ولاية وسيأتي زيادةُ بيانِها في فصلِ الشهاداتِ إن شاء اللهُ. (و)السابعةُ (معرفةُ أحكام الكتاب والسنة) فيُشترط حفظُهُ لآياتِ الأحكامِ وأحاديثِها الْمتعلِّقاتِ بها قال جمعٌ أو أن يعرف مطانَّها ويراجِعَها وقتَ الحاجةِ إليها وإن لم يحفظْها عن ظهرِ قلبٍ. (و)الثامنةُ معرفةُ (الإجماعِ) وهو اتفاقُ مجتهدِي أهلِ كلِّ عصرٍ مِن أُمَّةِ محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام على أيِّ أمرٍ كانَ قوله (على أيِّ أمرٍ كان) هو الْمثبَتُ في جمعِ الجوامعِ وشروحِهِ وقصرَ ءاخرونَ عبارتَهم على الأمرِ الدينيِّ فقالوا هو اتفاقُ مجتهدِي الأمةِ على حكمٍ دينيٍّ في أيِّ عصرٍ اهـ دون العوام فإنهم لا اعتبارَ بهم في هذا الْمقام والْمقصودُ بمعرفتِهِ ذلك أن يعرف أن الْمسئلة التي يحكمُ بها لم يُجمعوا على خلافِ حكمه فيها لا أنه يُشترط معرفتُه لكل فردٍ مِن أفراد الإجماع (و)معرفةُ (الاختلاف) الواقعِ بين العلماء لِئَلَّا يَخرجَ عنه في الْمسئلة التي يَحكمُ بها إلى استحداثِ قولٍ يخالفُ كلَّ أقوالِهِم. (و)التاسعةُ معرفة (طرقِ) أي كيفيةِ الاستدلال مِ، أدلة الأحكام وإنما يستطيعُ ذلك إذا عرفَ العامَّ والخاصَّ والْمطلقَ والْمُقَيَّدَ والْمجملَ والْمبيَّن والنصَّ والظاهرَ والْمُؤَوَّلَ والْمتواترَ والآحادَ والْمُتَّصِلَ منَ الحديثِ والْمنقطعَ والْمرفوعَ والْمرسلَ مع معرفةِ أحوالِ رواةِ الأحاديثِ قوةً وضعفًا في حديثٍ لم يُجْمَعْ على قبوله ويعرفُ ما سيأتي من لسانِ العرب وتفسيرِ كتاب الله تعالى مع معرفةِ القياس بأنواعه وكيفيةِ الترجيح عند التعارض والأدلةِ الْمختلَفِ فيها كالاستصحابِ والأخذِ بأقلِّ ما قيل وكيفيَّةِ الاستدلال مِنَ الأدلةِ من كونِ الأمر للوجوب والنَّهْيِ للتحريم ونحوِ ذلك. وإنما يُشترط معرفة ما تقدم على طريق (الاجتهادِ) الْمُطْلَقِ ليتمكن من استنباط الأحكام مِن أصولِهَا. فإنْ لم يُوجَد الْمجتهدُ الْمُطلَقُ فوُلِّيَ مقلِّدٌ لإمامٍ خاصٍّ فلا يُشترط فيه إلا معرفة قواعد إمامه فيراعِي فيها ما يراعيه الْمجتهدُ في نصوصِ الشرع وليس له أن يَعْدِلَ عن نصِّ إمامِه كما لا يَسوغ للمجتهد أن يعدِلَ عن نصِّ الشرع فلا يحكمُ القاضي إلا باجتهاده إن كان مجتهدًا أو باجتهادِ مَن يُقَلِّدُه إن كانَ مُقَلِّدًا ولا يجوز أن يُشرَطَ عليه الحكمُ بغير اجتهاده أو اجتهادِ مُقَلَّده بفتحِ اللامِ لأنه لا يعتقده. (و)العاشرةُ معرفةُ (طرفٍ مِن لسان العرب) مِن لغةٍ وصرفٍ ونَحْوٍ وغير ذلك مِمَّا يحتاجُهُ لِفَهْمِ كتابِ الله وسنةِ نَبِيِّهِ عليه الصلاةُ والسلامُ أي ما يكفي لِمعرفة الأمر والنهْيِ والخبرِ والاستفهام والوعد والوعيد والأسماء والأفعال والحروف وغير ذلك مِمَّا لا بُدَّ منه في فَهْمِ الأحكامِ منَ الكتاب والسنة على ما تكلَّمَتْ به العربُ وقتَ نزولِ الوحيِ إذ هو اللسانُ الذي نزلَ به الكتابُ وجاءت به السُّنَّةُ كما قال تعالى في سورة إبراهيمَ (بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ) لا على ما استحدثَهُ الْمتأخرون منَ الْمَعاني التي لم تعرفْها العربُ الأوائلُ ولا على ما يذهب إليه الْمُحَرِّفون الذين يُحاولون تطبيقَ أحكامِ الشريعةِ على ما شاع مِن أحكامٍ وَضْعِيَّةٍ وأهواءٍ سائدةٍ مِن طريق ابتداعِ معانٍ لكلماتِ وتراكيبِ الكتابِ والسُّنَّةِ لم يعرفْها العربُ ولا تكلَّمُوا بها. (و)الحادِيةَ عشرةَ معرفةُ (تفسيرِ كتابِ الله تعالى) ليُتَوَصَّلَ به إلى معرفةِ الأحكامِ الْمأخوذةِ منه. (و)الثانيةَ عشرةَ (أن يكون سميعًا) ولو بصِيَاحٍ في أُذُنَيْهِ فلا يَضُرُّ إلا الصممُ الشديدُ بحيث لا يَسمعُ أصلًا فلا يصحُّ تَوْلِيَتُهُ عندئذٍ. (و)الثالثةَ عشرةَ (أن يكون بصيرًا) فلا يصِحُّ تَوْلِيَةُ أعمى بخلافِ الأعور فيصِحُّ تَوْلِيَتُهُ ومثلُ الأعمى مَن يرَى الأشباحَ ولا يعرفُ الصُّوَرَ وإن قُرِّبَتْ إليه. (و)الرابعةَ عشرةَ فيما ذَكَره الْمصنفُ (أن يكون كاتبًا) وهو وجْهٌ مرجوحٌ والأصحُّ خلافُهُ فلو ذكرَ بدلَهُ كَونَهُ ناطقًا لكانَ أولَى فإنه لا يصحُّ توليةُ الأخرسِ على الصحيح. (و)الخامسةَ عشرةَ (أن يكون مُتَيَقِّظًا) أي غيرَ مُغَفَّلٍ فلا تصِحُّ توليةُ مغفَّلٍ بأن اختلَّ نظَرُهُ أو فِكْرُهُ لكبرٍ أو مرضٍ أو بلادةٍ ويُسَنُّ أن يكون قويَّ الحَذْقِ والضَّبْطِ لزيادةِ الأمنِ بذلك مِن تَغَفُّلِه أو خِداعِه. وترك الْمصنفُ رحمه الله شرطًا مِن شروط الاجتهاد وهو قوةُ القريحة وحِدَّةُ الذِّهْن ليتمكَّنَ مِن استعمال ءَالاتِ الاجتهادِ وعلومِهِ الْمتحصِّلَةِ عنده في استنباط أحكام الْمسائلِ الْمعروضةِ عليه إذ ليس كلُّ مَن حصَّلَ ما ذكرَهُ رحمه الله مِن صفاتٍ قادرًا على الاستنباطِ.

  و‘ذا وُلِّيَ مَن لا يصلُحُ للقضاءِ فحكمَ بخلافِ الشرعِ لم ينفُذْ حكمُه بل لا يَنْفُذُ أيضًا حتَّى لو أصابَ فيه إلا للضَّرورة بأن وُلَّى سلطانٌ ذو شوكة مسلمًا غيرَ أهلٍ كفاسقٍ أو امرأةٍ أو صَبِيٍّ كما صرَّحَ بهما ابنُ عبدِ السلامِ أو مقلِّدٍ مع وجودِ الْمجتهدِ فينفذُ قضاؤُهُ للضرورة لِئَلَّا تتعطَلَ مصالحُ الناسِ فإن لم يُوجَد الْمجتهدُ لم يُشترَطْ أن يكونَ السلطانُ ذا شوكةٍ. وأمَّا الكافر إذا ولَّاهُ ذُو الشَّوكة فلا ينفُذُ قضاؤُهُ.

  وإذا زالت أهليَّةُ القاضي بجنونٍ ونحوِه كإغماءٍ انعزل ولا تعود ولايتُه بعودةِ أهليتِه بل يحتاج إلى تَوْلِيَةٍ جديدةٍ. وله أن يعزل نفسه كالوكيلِ. وللإمامِ أن يعزله لخللٍ أو بافضلَ منه أو لِمصلحةٍ كتسكينِ فتنةٍ فإن لم يكن شىْءٌ مِن ذلك حَرُمَ عزلُهُ ولا ينفُذُ إلَّا إن كانَ يوجَدُ غيرُهُ مِمَّن يصلُحُ للقضاءِ.

  ويجوز أن يُحَكِّم بتشديد الكاف اثنانِ رشيدانِ يتصرَّفانِ لنفسَيهِما فأكثرُ في غيرِ عقوبةٍ لله تعالى قوله (في غير عقوبةٍ لله تعالى) قال في فتح الوهاب خرجَ بذلك عقوبتُهُ تعالى مِن حدٍّ أو تعزيرٍ فلا يجوز التحكيمُ فيها إذ ليس لها طالبٌ معَيَّنٌ ويُؤخَذُ من هذا التعليلِ أنَّ حقَ اللهِ تعالى الْمالِيَّ الذي لا طالبَ له معيَّنٌ لا يجوزُ فيه التحكيم وهو ظاهر اهـ قال في حاشيةِ الجملِ ويجوزُ التحكيمُ في ثبوتِ هلالِ رمضانَ كما بحثه الزركشيُّ وينفُذُ على مَن رضِيَ بحُكمِهِ فيجبُ عليه الصومُ دونَ غيرِهِ اهـ ولو في قوَدٍ أو نكاحٍ مجتهدًا أهلًا للقضاءِ مطلقًا أي بوجودِ القاضي أو عدمِ وجودِهِ فإن لم يكن أهلًا للقضاء جازَ بشرطِ عدمِ قاضٍ ينفُذُ قضاؤُهُ شرعًا ولو قاضِيَ ضرورةٍ اي إذا سهُلَ الوصولُ إليه بلا مشقةٍ لا تُحتمَلُ عادةً ولم يأخُذ مالًا له وَقْعٌ وإلَّا جاز التحكيمُ مع وجودِهِ قال محمَّد الرملِيُّ إن فُقِدَ القاضي مطلقًا حتَّى قاضِي الضرورةِ كالفاسقِ واحتيجَ إلى الحكم جاز تحكيمُ أصلحِ وأفضلِ مَن يُوجَدُ منَ العدولِ بخلافِ غيرِهِم اهـ ومثلُ ذلك ما لو منعَ السُّلطانُ القاضيَ منَ الحكمِ في الخصومةِ فيجوزُ التحكيمُ فيما مُنِعَ منه لأنه معزولٌ باالنسبةِ غليه فالفقدُ متحقِّقٌ لذلك. ولا بدَّ لنفوذ حكم الْمحكَّم عليهما مِن رضاهما قبلَ الحُكم لفظًا كأن يقولا له حكَّمناكَ لتحكُمَ بيننا ورَضِينا بحكمِكَ فلو رجع أحدُهُما قبل الحكم فعزَلَهُ لم يكن له أن يحكُمَ.