قال المؤلف رحمه الله: [والمُحدِثُ للعالمِ هو اللهُ تعالى].
(الشرحُ): أنَّ الله تعالى هو الذاتُ الواجبُ الوجودِ أي الذي وجوده بذاته من غيرِ أنْ يحتاجَ إلى شَيْءٍ أصلًا لأنه لو كان جائزَ الوجودِ لا واجب الوجود لكان من جملة العالم فلم يصلح محدِثًا للعالم.
ودليلُ افتقارِ الحادثِ إلى محدِثٍ شرحه العلامة محمد بن أحمد مَيَّارَة المالكيُّ في كتابه الدر الثمين والمورِد المَعِين في شرح أبيات منظومة ابن عاشر فقال [وافتقارُ كل حادث إلى محدِث منهم من قال إنه أمر ضروريٌّ لا يفتقر إلى دليل حتى قال الإمام الفخر في المعالم إنَّ العلم بذلك مركوزٌ في فطرة طباع الصبيان فإنك إذا لطمتَ وجهَ الصبيِّ من حيثُ لا يراك وقلتَ إنه حلت هذه اللطمة من غير فاعلٍ ألبتة لا يصدقك بل في فطرة البهائم فإن الحمار إذا أحس بصوت الخشبةِ فزع لأنه تقرر في فطرته أن حصول صوت الخشبة بدون الخشبة محالٌ، ومنهم نم قال إن العلم بذلك نظريٌّ وهو الصحيح إلا أنه يحصل بنظرٍ قريبٍ، ولأجلِ قُرْبِهِ ظنَّ بعضُهم أن ذلك العلمَ ضروريٌّ. وبيانُ ذلك أنَّ الحادث إذا حدث في الوقت المعين فالعقلُ لا يمنع استمرارَ عدمِهِ ولا يمنع صحةَ تقدمِهِ على الوقت الذي وُجِدَ فيه بأوقات أو تأخره عنه بساعات، فاختصاصه بالوجود بدلًا عن العدَم المجوَّزِ عليه وبكونه في ذلك الوقت لا قبله ولا بعده يفتقر قطعًا إلى محدِثٍ يخصِّصُهُ بما ذُكر بدلًا عن مقابله، ولو حدث بنفسه لاجتمع التساوي والرُّجحان واجتماعُهُما محالٌ لأنهما متنافيان، وبيانه أن العالم يصح وجوده ويصح عدمه على السواء كما مرَّ فلو حدث بنفسه ولم يفتقر إلى محدِث لزم أن يكون وجودُه الذي فُرِضَ مساواتُهُ لعدمه مرجَّحًا بلا سببٍ على عدمه الذي فُرِض أيضًا مساواتُه لوجودِهِ وهو محالٌ فتعيَّنَ أن يكون المرجِّحُ لوجوده على عدمه والمُرَجِّحُ لِكَوْنِ وجودِهِ في الوقت دون وقتٍ ءَاخَرَ غيرَهُ وهو الفاعل المختار جلَّ وعلا، فقد ظهر استحالة إيجادِ العالم نفسَه بل هو مفتَقِرٌ إلى غيره في تخصيصه بالوجود دون العدم المساوي له أو الراجحِ عليه وفي تخصيصه بالمكان المخصوص دون سائر الأمكنة وفي تخصيصه بالزمان المخصوص دون سائر الأزمنة وفي تخصيصه بالمقدار المخصوص دون سائر المقادير وفي تخصيصه بالصفة المخصوصة دون سائر الصفات فهذه الأشياء كلُّها متساويةٌ فاختصاصُهَا وترجُّحُها على مقابلها يَدُلُّ على أن المرجِّحَ غيرُها وهو اللهُ تعالى.
ولا يصحُّ أنْ يكونَ العالَمُ أزليًّا لا بداية لوجودِهِ لأنه لو كان قديمًا أزليًّا للزم وجودُ أشياءَ داخلةً في الوجود لا نهاية لَهَا وهذا باطلٌ عقلًا لأنه يلزم منه التسلسلُ وهو توقُّفُ وجودِ شَيْءٍ على شَيْءٍ قبلَهُ متوقِّفٍ على شَيءٍ قبلَهُ إلى غيرِ نهايةٍ وهذا محالٌ لأنه يلزمُ عليه توقُّفُ دخولِ الحادثِ الحالِيِّ في الوجودِ على نفادِ وانتهاءِ الحوادثِ التي قبلَهُ وانتهاءُ ما لا نهاية له مستحيلٌ، أو يلزم منه الدَّورُ وهو توقُّفُ وجودِ الشَّيْءِ على ما يَتوقفُ وجودُهُ عليه بواسطةٍ أو بغير واسطةٍ وهذا أيضًا محالٌ كإحالةِ التسلسلِ لأنه يلزمُ عليه تقدُّمُ الشَّيْءِ على ذاتِهِ باعتبارٍ وتأخُّرُهُ عنها باعتبار وهو محالٌ.